الكتب التي أفادت خليل السكاكيني
إعداد حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
تحت عنوان ”الكتب التي أفادتني“ ردّ خليل السكاكيني على سؤال طرحه عليه جورجي زيدان، محرّر مجلة الهلال الشهيرة، التي أسسها سنة ١٨٩٢، وما زالت حيّة ترزق، ونشرت الإجابة فيها في الأوّل من حزيران عام ١٩٢٧، ص. ٣٩-٤٤، وكانت الرابطة - مجلّة دينية أدبية علمية ثقافية وسياسية، س. ٢٦، آب-أيلول ١٩٧٢، حيفا، رئيس التحرير حنّا فارس مخّول قد أعادت نشر الإجابة.
يدور السؤال حول ما طالعه السكاكيني من كتب في شبابه واستفاد منها، وهل يكفي المطبوع الآن من الكتب العربية لتثقيف الناشئة، وفي إجابته اقتصر على السؤال الأوّل فقط وقبل ذلك كتب:
”من يسمع كلامك هذا يا سيدي لا يشك أني شيخ انضجته السنون، على حين قد تشيخ انت وقراؤك، واولادك واولادهم وانا لا ازال شابًا، بل في غلواء شبابي. وخير لي - على احترامي الشيخوخة - ان اكون شابًا يحتاج الى رأي الشيوخ من ان اكون شيخًا يحتاج الشبان الى رأيه، على أن الرأي قد يوجد في الشبان والشيب.“
أوّل كتاب وقع في يدي السكاكيني وأثّر في حياته هو كتاب ”صحة المتزوّج والعزب“ (هكذا في الأصل والمقصود: تحفة الراغب في صحة المتزوج وزواج العازب، للطبيب والأديب شاكر الخوري، ١٨٤٧-١٩١٣) وقد يكون أوّل كتاب من نوعه في العربية. وبعده قرأ الكثير من الكتب بالعربية والإنجليزية في الموضوع ذاته، إلا أنّ الفضل الأكبر يعود للكتاب الأول.
كان السكاكيني مولعًا بالصيد ببندقيته منذ أن كان دون العاشرة من عمره، ولكنّه قرأ كتابًا أو مقالة لا يفصح عنهما حول الرفق بالطيور والحيوانات وذم الصيد، فهجر بندقيته من فوره.
استحكمت في السكاكيني لأوّل عهده بالحياة فلسفة سوداء كانت زي ذلك الزمان، وعندما طالع فلسفة فريدريك نيتشه (Friedrich Nietzsche, 1844-1900) فيلسوف القوة والحياة بترجمة فرح أنطون (١٨٧٤-١٩٢٢) إلى العربية، تخلّص من تلك الفلسفة والسوداوية. ويضيف السكاكيني بأنّه لا ينسى فضل شاعر العرب الأكبر، شاعر القوة والحياة، أبي الطيّب المتنبي (٩١٥-٩٦٥م.)، الذي أمدّه شعره بالنشاط وتجديد الآمال. ويستشهد بمثل هذه الأبيات ويشير إلى ما يقابلها لدى نيتشه:
إذا غامرتَ في شرفٍ مرومٍ فلا تقنع بما دون النجومِ
فمالي وللدنيا؟ طِلابي نجومُها ومعايَ منها في شدوق الأراقم
دعيني أنَلْ ما لا يُنال من العلى فصعب العلى في الصعب والسهل في السهل
وفي الناس من يرضى بميسور عيشه ومركوبُه رِجلاه والثوب جلدُه
ولكنّ قلبًا بين جنبيَّ ما له مدًى ينتهي بي في مرادٍ أحدُّه
عش عزيزًا أو مت وأنت كريمٌ بين طعن القنا وخفقِ البنود
واطلب العزّ في لظى ودع الذلَّ ولو كان في جِنان الخلود
ونيتشه يقول: نحتاج إلى الكبرياء لا إلى التواضع.
ويكتب خليل السكاكيني بعد مقارنة خاطفة بين ما نظم المتنبي وما كتبه نيتشه:
”لو رحت أقابل بين ما قاله المتنبي وما قاله نيتشه لوجدت - مع احترامي لنيتشه واعترافي بفضله - ان المتنبي يضع مئة نيتشه تحت ضبنه“ (أي: إبطه) (ص. ٤٣).
وينهي السكاكيني إجابته متطرقًا إلى الجوّ الخرافي الذي نشأ فيه، فالخرافات كانت سيدة الموقف فهي من مصلحة الحكومات والرئاسات الدينية وقتذاك. ظلت الحال على هذا المنوال حتى صدور مجموعتي الدكتور شبلي شميِّل (١٨٥٠-١٩١٧) الأولى والثانية اللتين امتازتا بالصراحة بلا تردد وبأسلوب جديد لم يعرفه الشرق، وبعد قراء تهما تخلّص السكاكيني من الخرافات التي كانت تعشّش في قلبه وعقله. وكان السكاكيني قد قرأ كتبًا ورسائل كثيرة ردّت على آراء شميّل مثل ما كتبه إبراهيم الحوراني والأب فرج صغير، إلا أنّها لم تقنع السكاكيني. ومن أعلام التفكير الحرّ يذكر السكاكيني سلامة موسى ومنصور فهمي وطه حسين ومحمود عزمي.
ويقول الساكيني في نهاية جوابه، إنّ المدارس آنذاك لم تُعن بالحياة بل كان ديدنها تحضير تلاميذها للآخرة، الخير كل الخير، معناه اعتزال الحياة والشرّ كله كامن في الحياة. الغاية من المدرسة مثلا كانت حفظ الدروس بدون فهم، والكتب التي كانت متداولة في المدرسة لم تكن مستمدة من الحياة.
وأخيرًا يصرح السكاكيني أنّ أوّل كتاب عالج مؤلِّفه مواضيعَ حياتيةً وقرأه ففهم ما تيسّر له آنذاك، هو كتاب الفارياق (المقصود: كتاب الساق على الساق في ما هو الفارياق) لأحمد فارس الشدياق (١٨٠٤-١٨٨٧). ويعلّق السكاكيني (١٨٧٨-١٩٥٣) عليه بقوله:
”ويسوءني ان اقول ان ذلك الجانب الذي فهمته من الحياة من ذلك الكتاب لم يكن لامعًا. وعلى قدم عهد ذلك الكتاب لا يزال أسلوبه جديدًا إلى اليوم!“.