النقد التلفزيوني
الآفاق والمحددات
د. نصر الدين لعياضي
يتساءل أستاذ اللسانيات لمبرت فريدريك Frédéric Lambert عن كيفية بناء نقد للتلفزيون عندما يأخذ هذا النقد مكانة أساسية في أنشطتنا، فبفضله نصوغ سردياتنا وأساطيرنا، وبه نصنع يومياً إيديولوجياتنا، ونشخص ذاتنا(1).
إن هذا التساؤل يثير العديد من القضايا التي تتعلق بالنقد، منها ماهية النقد ومكانته في الممارسات الثقافية المختلفة، وما هي وظائف نقد التلفزيون؟ وكيف يتشكل الخطاب النقدي المتعلق بالتلفزيون؟ وما هي علاقة هذا النقد بالأفكار الرائجة عن التلفزيون، والتي تشكل اللحمة الإيديولوجية للحديث اليومي عن التلفزيون، سواء ذاك الذي يجري في الأوساط الشعبية (الجمهور) أو الصحفية أو الأكاديمية.
إن النقد التلفزيوني هو وجهة نظر مختصة لخبير يملك الكفاءة المعرفية والفنية اللازمة للحديث عن التلفزيون. فلا يقوم بعمل دعائي لمنتج تلفزيوني أو قناة تلفزيونية، ولا يندد بهما. ولا يعالج مضمون ما قيل في التلفزيون فقط، لأن الحكم على المضمون يندرج في آخر المطاف في خانة الرأي الذي قد يجد من يخالفه، أو ينال من مصداقيته. لذا يمكن القول أن التلفزيوني هو خطاب يتضمن جملة من الملفوظات التي تنتج أحكاما تقديرية للمنتجات التلفزيونية في سياقات بثها وتلقيها. وهنا يجب التأكيد على أن النقد التلفزيوني لا يختصر في نقد المادة التلفزيونية المجردة والمسلوخة عن وسيلة البث، والمفصولة عن موقعها في شبكة البرامج التلفزيونية، ووقت بثها. وذلك لأن هناك فرقاً بين نقد المادة التلفزيونية ونقد التلفزيون؛ فالأول يعني تقديم رأي حول منتج موجه للبث التلفزيوني، بصرف النظر عن طبيعة القناة التي تبثه ومتى؟ ونسق المواد التي تسبقه في البث أو تلحقه. هذا إضافة إلى أن معيارية نقد مادة إخبارية تختلف عن معيارية نقد مادة درامية، بل حتى نقد المواد الدرامية ذاتها يختلف، فنقد فيلم تلفزيوني(2)، على سبيل المثال، يختلف عن نقد مسلسل تلفزيوني. أما نقد التلفزيون فينصب على نوعية الوساطة التلفزيونية، ويطرح السؤال المضني عن الحقيقة في التلفزيون. وعن المعنى المتلبد في المواد التلفزيونية التي تبثها قناة تلفزيونية معينة.
يعتقد البعض أن التلفزيون لا يمكن أن يشكل موضوعاً للنقد، لأن ما يبثه لا يعد منتجاً أو مؤلفاً واحداً، وليس من إنتاج شخص واحد ومحدد(3). ولا يملك بداية و نهاية؛ أي أنه مفتوح على المزيد من الإنتاج، وتمتزج فيه الأنماط التلفظية المختلفة. ويجمع الواقعي بالخيالي، والعام بالخاص، والمترجم بالمدبلج، والأشخاص الناطقين بصوت نكرة آت من خارج الشاشة Voiceover.
إن نقد التلفزيون يجب أن يتكئ على عُكَّازتين في حركته، الأولى موضوعية، وتتمثل في فحص ما يبثه على ضوء المعايير المهنية والجمالية التي رسختها الممارسة التلفزيونية، والثانية تتمثل في البعد الذاتي المرتبط بالذوق والمتعة والتي تجعل تقدير الناقد مختلفاً من منتج إلى آخر. ويُقصد بالذوق هنا ذائقة الجمهور الذي توجه له المادة التلفزيونية، والحساسية الفنية والجمالية المتناغمة مع العصر(4).
إن اقتصار النقد التلفزيوني على عُكَّازَة واحدة، يفقده قدرته الإقناعية، وحتى جدواه. فالاقتصار على المعايير الموضوعية التعبيرية والجمالية ذات الطبيعة المعيارية قد يؤدي إلى الجمود، ويمكن أن يقضي على النزعة الإبداعية التي تجنح،دائماً، إلى تجاوز الموجود وتقديم الأفضل حتى وإن استدعى الأمر التمرد على هذه المعايير. وهذا ما يفسر تجديد قوالب التعبير والمعايير الجمالية.
كما أن الاقتصار على البعد الذاتي في تقدير المنتج التلفزيوني قد يؤدى إلى وقوعه سجين الإسقاطات غير المنطقية . وإذا جاريناه يصبح العمل التلفزيوني رهين لحظة مزاج، وليس وليد مؤسسة لها ضوابطها، ونتاج وسيلة إعلامية تخضع لجملة من الإكراهات التقنية والاجتماعية والاقتصادية.
يختلف النقد التلفزيوني عن النقد الأدبي والسينمائي، فهذا الأخير على سبيل المثال يملك تاريخاً طويلاً حافلاً بالإنجازات. فظهور السينما في ديسمبر 1885 أثار العديد من الكتابات الصحفية، التي لم تكن في البداية مرتبطة بالمدارس الفكرية والجمالية، بل كانت منصبة على الجانب التقني لهذه الوسيلة الجديدة والمدهشة، بدليل أن النقد السينمائي ظل إلى غاية العشرينيات من القرن الماضي ينشر في المجلات المهتمة بالصورة الفوتوغرافية. هذا لا يعني مطلقا خلو الصحافة من الكتابة عن السينما، بل كانت تنشر في الصفحات الخاصة بالمسرح لاعتقاد بأن السينما ستكون بديله.
واجه نقد التلفزيون العديد من الصعوبات في مسيرته، لعل أبرزها كان نابعاً من النظرة المتعالية عن التلفزيون التي كانت تسود بعض الأوساط الثقافية والفكرية في العديد من مناطق العالم، بما فيها المنطقة العربية. بالفعل، لقد كانت هذه الأوساط تترفع عن الحديث عن التلفزيون، لاعتقادها بأن ما يبثه سطحي وتافه ويتميز بالتكرار وإعادة إنتاج الصور النمطية، ولا ينتمي إلى الثقافة العالمة التي تبجل نمط الاتصال المكتوب، وتستقطب الاهتمام والنقد، مثل: الكتاب، الرواية، الشعر، القصة القصيرة، والمسرح باعتباره ضلعا من الأدب، وبهذا فقد جسد تعالي المثقفين على «الثقافة الشعبية». فما يلفت الانتباه ليس وجود النظرة السلبية إزاء التلفزيون، بل بقاءها، أي بقاء التلفزيون مدة طويلة فاقداً الشرعية الاجتماعية والجمالية، خلافا للسينما والإذاعة اللذين امتلكا شرعية اجتماعية بسرعة وإن كانت متواضعة(5).
إن نقد التلفزيون يجب أن يتكئ على عُكَّازتين في حركته، الأولى موضوعية، وتتمثل في فحص ما يبثه على ضوء المعايير المهنية والجمالية التي رسختها الممارسة التلفزيونية، والثانية تتمثل في البعد الذاتي المرتبط بالذوق والمتعة والتي تجعل تقدير الناقد مختلفاً من منتج إلى آخر. ويُقصد بالذوق هنا ذائقة الجمهور الذي توجه له المادة التلفزيونية، والحساسية الفنية والجمالية المتناغمة مع العصر
لكن كيف تكسب وسيلة إعلامية شرعيتها الاجتماعية والجمالية؟
يؤكدالباحثون المهتمون أن تشكيل الخطاب العلمي عن التلفزيون وكسبه الشرعية، ليس فعلا محدودا في الزمان والمكان، بل إنه مسار معقد يتناغم مع استقرار الصور الاجتماعية عن التلفزيون التي تتحرك في الفضاء العمومي، وتتسرب إلى الوعي الجماعي. ويتدخل العديد من الفاعلين في نشر هذه الصور وتعميمها، نذكر منهم المؤسسات التربوية، والأوساط الأكاديمية، والمؤسسات الثقافية والإعلامية المختلفة بما فيها التلفزيون ذاته والنقاد(6).
فهل يمكن أن ننسب تأخر شرعية التلفزيون الاجتماعية والجمالية لعدم استقرار صورته في الفضاء العام وتخاذل الفاعلين في نشرها وتعميمها؟
ليت البرامج التعليمية في المدارس لم تتضمن أية إشارة للتلفزيون فقط، بل قامت المنظومة التعليمية التلفزيونية بمحاربة التلفزيون في بداية عهده، واعتبرته إما منافساً خطيراً لها؛ أي مدرسة موازية، أو مضيعة لوقت التلميذ الذي يجب أن يخصصه لمراجعة دروسه أو تحضيرها، أو مؤسسة تقدم مادة سطحية بعيدة عن العلم والمعرفة.
لقد خصصت العديد من الصحف في العالم، منذ الخمسينيات، أعمدتها لنقد التلفزيون. فرغم انبهارها به إلا أنها أثارت المخاوف منه، والتي نقلها الخطاب الصحفي الذي تميز بعدم تجانسه، وتأرجحه بين التهليل لهذه الوسيلة التي تجعل الثقافة أكثر ديمقراطية وشعبية تثري الممارسة الثقافية وتطور التعليم، ومعارضته بشدة. هذا ما يستشف من تحليل مضمون الصحافة الشعبية الأمريكية في الخمسينيات من القرن الماضي التي تطرقت لموضوع التلفزيون واعتبرته معول يهدم الحياة الأسرية، ويقوض سلطة الأب، ويشجع سلبية الأطفال ويحرفهم عن نشاطهم المدرسي، ويشجع الشباب على العنف(7). ويُبلّد الأشخاص، ليس لكونه يسليهم عوض أن يحفزهم على التفكير، بل لأنه «يسليهم حتى الموت» على حد تعبير الباحث الأمريكي بوستمان نيل( Postmann Neil، مقارنة بالنمط المكتوب الذي يزعم الكثيرون ـ على غرار مارشال مكلوهان ـ بأنه هيكل الفكر، وسمح بتطور النزعة العقلانية لدى القراء(9).
ونعتقد أن هذا التذبذب في موقف الصحافة من التلفزيون ما زال قائماً لحد الآن، وإن كان بدرجة أقل حدة. فتارة تشيد الصحافة بدوره في تنشيط الممارسة الديمقراطية خاصة في الحملات الانتخابية، وطورا تندد بسعيه إلى إفراغ الديمقراطية من محتواها، وإزاحتها عن أهدافها. ولم يجد التلفزيون من يروج له أفضل من الذين مارسوه (منتجون، مخرجون، صحافيون) والذين تحدثوا ـ بنوع من الافتتان ـ عن ميلاده كوسيلة جديدة تقدم «الحقيقة» العارية والساخنة «على حد تعبير أحد رواد العمل الإذاعي والتلفزيوني جون رتيفوا Jean Thévenot في كتابه الموسوم: «عصر التلفزيون ومستقبل الإذاعة» في 1946.
إذاً، ساهمت كل هذه العوامل مجتمعة في إبطاء منح الشرعية الاجتماعية والجمالية للتلفزيون. لكنه اكتسبها لاحقاً بشكل تدريجي، بفضل ارتفاع عدد مشاهديه الذين عثروا فيه على قسط من الترفيه والإعلام، وبتزايد عدد المجلات المختصة التي اهتمت به.
إذاً، إن تأسيس الخطاب النقدي عن التلفزيون لم يتحقق لقوة الصحافة المحايثة، بل لتزايد مكانته في الحياة الاجتماعية والسياسية، الخطاب الأكاديمي وتأثيره على النظرة للتلفزيون.
تطور التفكير العلمي حول التلفزيون في الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية انطلاقاً من مفهوم الاستهلاك الثقافي، الذي يلبي حاجة الرأسمال الخاص في امتلاك قنوات تلفزيونية، ومعرفة عائدات استثماراته في مجال الإنتاج والبرمجة التلفزيونية والإعلان المتلفز على صعيد حجم المشاهدة والتأثير. ولتحقيق هذه المعرفة اعتمد على ما توصلت إليه أدوات البحث الاجتماعي الوظيفي- الأمبريقي.
ظلت أوروبا أكثر من عقد من الزمن تقريبا غير مهتمة بالتلفزيون على الصعيد الأكاديمي مقارنة بالولايات المتحدة الأمريكية. وبهذا جسدت مفارقة كبرى، ما زالت تعيشها الدول العربية لحد الآن، وتمثلت في كثرة الاهتمام الشعبي ببرامج التلفزيون وقلة الاهتمام الأكاديمي به.
بدأ الحقل الأكاديمي في الدول الأوربية، ينظر باهتمام، لكن باحتشام، للتلفزيون في مطلع الستينيات من القرن الماضي، حيث شرعت بعض الأعمال الأكاديمية في الاقتراب من التلفزيون من زاوية تموقعه في الممارسة الثقافية. ومفهوم الممارسة الثقافية ولد من رحم السياق الأوروبي الذي تميز باحتكار الدول لملكية التلفزيون. وبهذا تجاوز مفهوم الاستهلاك الثقافي، الذي تمحور حول الهاجس الاقتصادي، فوضع التلفزيون ومنتجاته في قلب الظاهرة الاجتماعية والثقافية والسياسية. لقد انجذب العديد من الباحثين من مشارب علمية مختلفة لموضوع التلفزيون من زاوية الممارسة الثقافية.
ولزخم إن الخطاب العلمي حول التلفزيون، الذي أثر في تطور الصورة عن التلفزيون في الفضاء العمومي، تعزز بالفعل المؤسساتي المتمثل في ظهور المعاهد وكليات الإعلام التي اكتسبت شرعيتها العلمية بعد أن أخذ خريجوها موقعا في منظومة التلفزيون. وترسخ نتيجة تطور التفكير في وسائل الإعلام بصفة عامة، والتلفزيون على وجه التحديد.
لقد تعددت تصورات التفكير في التلفزيون، نذكر منها، على سبيل المثال، التسليم بتأثير التلفزيون انطلاقا من دوره السياسي والثقافي من خلال تكميم محتوياته أو قياس مشاهديه، والتركيز على المعنى المنتج في أثناء عملية التلفظ من زاوية تحليل الخطاب التلفزيوني في بعده السيميائي، كما يعبر عنه لاشار غي Lochard Guy وسولاج جون كلود Soulages Jean-Claude بالقول إن التلفزيون (يمثل وضعا من الوساطة المشكلة من التعابير الخاصة والمؤسسة للعديد من الأشكال من التوزيع والضبط اللفظي لأنماط الاتصال المرئي والايمائي)(10). هذا بعد أن كان الاعتقاد سائداً بأن التلفزيون لا يقوم بأي دور سوى أنه يشكل أرضية للعرض المثالي للخطاب الاجتماعي والسياسي، بصرف النظر عن الإكراهات التقنية التي تتحكم فيه.
كما اتجه البحث في مجال التلفزيون إلى فهم العلاقة بين الدولة والتلفزيون والديمقراطية من منظور الاقتصاد السياسي، والعلاقة بين التأويل والسلطة ضمن أطروحات نظريات التلقي التي اعتمدت على إثنوغرافية الاتصال.
كما كسب التلفزيون شرعيته الاجتماعية من خلال تزايد عدد قنواته، وامتداد مدة بثها، وتزايد عدد مشاهديها، وحضورها في الحياة اليومية كرابط اجتماعي، وكمنتج للتمثّلات الاجتماعية عن العلاقات بين البشر، والسلطة، والعمل، والملكية، والأسرة، والترفيه، والإعلام. وتعززت هذه الشرعية بخطاب التلفزيون عن التلفزيون، الذي يتجلى في البرامج التلفزيونية التي تناقش العمل التلفزيوني وتفكر فيه ليس بغرض تبرير ما يقوم به، وممارسة المدح الذاتي، بل للتأمل في أبعاده المهنية والجمالية والسياسية والأخلاقية، ورصد طريقة بنائه للواقع.
لقد أطلقت القنوات التلفزيونية، في العديد من دول العالم، برامج تنتقد فيها التلفزيون بأساليب مختلفة، منها الساخر والجاد، سميت برامج «التفكير الذاتي في التلفزيون» The self-reflexivity، إذ يمكن أن نذكر، على سبيل المثال، أن التلفزيون الفرنسي يبث ستة برامج تنقد بطرق مختلفة التلفزيون، سواء باستعادة أرشيفه وذكريات الأشخاص الذين تربوا في كنفه، أو من خلال توجيه نظر الصحافيين ومسؤولي القنوات التلفزيونية إلى الانحياز أو التجاوزات أو القصور الذي يشير إليه المشاهدون، أو عبر قراءة الصور التلفزيونية بمعية المختصين والمهنيين لاستنطاق المسكوت عنه فيها، أو للسخرية من نجوم التلفزيون ورجال السياسة، والاستهزاء ببعض البرامج التلفزيونية لغبائها. وهكذا يتضح أن غاية تدخل التلفزيون في النقاش العام حول التلفزيون واستراتيجيته تختلفان من قناة تلفزيونية إلى أخرى، بيد أنها ساهمت، بدرجات مختلفة، في ترسيخ «الثقافة التلفزيونية»، وعززت «الثقافة النقدية» في المجتمع.
يكتسي التلفزيون في المجتمعات الديمقراطية أهمية كبرى، ليس لكونه وسيطاً يوزع الكلمة بين الفاعلين الاجتماعيين والقوى السياسية الحاضرة في ساحة المنافسة والتدافع الحكم، بل لأنه يشكل، أيضاً، أرضية للصراع. لذا تتعامل القنوات التلفزيونية مع البرامج النقدية المتلفزة حسب استراتيجيتها وولاءاتها. فبعض القنوات التلفزيونية تتخذها وسيلة لمناقشة العلاقة بين السلطة السياسية والتلفزيون، أو للرد على الاتهامات التي توجهها لها الأحزاب السياسية وقوى المجتمع المدني.
يؤكدالباحثون المهتمون أن تشكيل الخطاب العلمي عن التلفزيون وكسبه الشرعية ليس فعلا محدوداً في الزمان والمكان، بل إنه مسار معقد يتناغم مع استقرار الصور الاجتماعية عن التلفزيون التي تتحرك في الفضاء العمومي، وتتسرب إلى الوعي الجماعي
تملك بعض الدول هيئات مستقلة لضبط البث التلفزيوني ومراقبته. فهي عين الرقيب على نشاط القنوات التلفزيونية، تلفت نظرها إلى بعض الاختراقات والتجاوزات المهنية والأخلاقية. فمثل هذه البرامج النقدية تحمي القنوات التلفزيونية من الانزلاقات، وتشكل مادة توعية ونقاش حول القضايا الشائكة التي يطرحها المجتمع، وتطور وسائل الاتصال الجماهيري والفردي والتي لم ينضج تدخل العديد من الهيئات السياسية والاجتماعية لحسمها أو تقنينها.
تعيّن بعض القنوات التلفزيونية شخصا مشهوداً له بالاستقامة وبالخبرة في مجال العمل الصحفي كوسيط Ombudsman تتمثل مهمته في حماية الجمهور والدفاع عنه، وأخذ حقوقه من الوسيلة الإعلامية، وتفتح له منبرا للقاء جمهوره؛ فالقناة الثانية من التلفزيون الفرنسي، على سبيل المثال، أطلقت برنامجا بعنوان: «أسبوع الوسيط» لنقد التلفزيون وتشخيص جوانب قصوره أو تجاوزاته في تغطية الأحداث، وقد ساهم هذا البرنامج في شحذ الحس النقدي لدى الجمهور.
تغيرت مكانة نقد التلفزيون ووظائفه تدريجياً عبر السنين، وهذا تماشياً مع التغيرات التي عرفتها بنيته الاقتصادية والتقنية، والتطور الحاصل في برامجه الثقافية والإعلامية والترفيهية، وبالنظر إلى تطور الممارسة الثقافية في المجتمع وما أفرزته من خطابات سياسية واجتماعية، وحسب مصالح البحث. فهو كائن تاريخي متطور، لا يركن إلى زمان راكد، و يتموج مع التيارات الفكرية التي تساهم في تأسيس المتن الابستمولوجي للتلفزيون.
لقد كان هاجس نقد التلفزيون في بداية عهده مركزا على الجانب التقني، ثم زال الاهتمام بهذا الجانب بعد تغلغل التقنية في الحياة الاجتماعية واندماجها في المألوف اليومي(11). وفي الستينيات اتجه نقد التلفزيون إلى القيام بالتعريف بما يبثه التلفزيون وشرحه وتبسيطه، وبهذا رافق النقد الجمهور في متابعته للبرامج التلفزيونية(12). وحاول أن يترجم ذوقه ووجهات نظره مما يبثه التلفزيون، لكن في العقد السابع وبداية العقد الثامن من القرن العشرين خضع نقد التلفزيون لهوس الحرب الباردة والتنافس بين القنوات التلفزيونية، فانزلق من موقعه كوسيط ومتحدث باسم ذوق الجمهور وحاجاته، إلى الاهتمام بالمؤسسة التلفزيونية والقائمين عليها، للدفاع عن مصالح اقتصادية أو إيديولوجية.
تطور التفكير العلمي حول التلفزيون في الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية، انطلاقا من مفهوم الاستهلاك الثقافي، الذي يلبي حاجة الرأسمال الخاص في امتلاك قنوات تلفزيونية، ومعرفة عائدات استثماراته في مجال الإنتاج والبرمجة التلفزيونية والإعلان المتلفز على صعيد حجم المشاهدة والتأثير
نقصد بالنقد في المتن المعرفي الغربي نوعاً صحفياً على غرار التحقيق أو الريبورتاج الصحافيين، أي يعتبر شكلا من الكتابة التي تمكن الصحيفة من متابعة الإنتاج الثقافي والفني: المسرح، السينما، التلفزيون، الموسيقى والأغنية،الرقص، الفنون التشكيلية، وغيرها. ليس لتلبية هاجس إخباري، بل لتأويل هذا الإنتاج وتقييمه وتقويمه من أجل ترقيته والسمو بالذوق الفني والجمالي، وإثراء الثقافة النقدية في المجتمع. وبهذا المعنى فإنه يختلف عن النقد الذي يمارسه الدرس الأكاديمي الذي ازداد عمقاً وثراءً. فانشغال العلوم الاجتماعية والإنسانية بالتلفزيون في العصر الحالي أخذ منحى نقدياً، سواء تعلق الأمر بتاريخ التلفزيون، أو اقتصاديات التلفزيون، أو التحليل السيميائي للخطاب التلفزيوني، أو علم الاجتماع الإعلامي (نظريات التلقي، علم اجتماع الاستخدامات، علم اجتماع مهن التلفزيون)، فحتى الفلسفة اهتمت بالتلفزيون. ولا يمكن أن نتصور الاهتمام الفلسفي بالتلفزيون بمنأى عن النقد- انظر الجزء الخاص بالخطاب الفلسفي عن التلفزيون في هذا الكتاب).
يشتكي اليوم الكثير من المهتمين بنهاية نقد التلفزيون بالمعنى الأول المذكور أعلاه، وينسبون ذلك إلى طفح الإعلام والمعلومات والآراء المتدفقة عبر قنوات الاتصال، فصوت الصحافة الناقد للتلفزيون «ذاب» في الإنتاج التلفزيوني الذي يزداد غزارة، ويُبث بسرعة فائقة لا تسمح حتى بمتابعته، ناهيك عن تقييمه(13).
نعتقد أن نهاية نقد التلفزيون في الصحافة لا يعود لغزارة الإنتاج الثقافي والفني فقط، بل يعود للتغيير الذي طرأ على الصحافة، وعلى مكانة الصحافيين وموقعهم، والذي لخصه أحد الإعلاميين في مدونته بالقول إن الإعلام قد غير حامضه النووي(14).
بالفعل، إن ظهور صحافة المشاهير People press أفرغ النقد الصحفي من محتواه، أو لنقل أفقدته أهميته. ويقصد بهذه الصحافة تلك التي تهتم بأخبار الفنانين والمطربين، وممثلي السينما، ونجوم الاستعراض والرياضة، ورجال المال والأعمال.
لقد كان قراء هذه الصحافة، قبل ثلاثة عقود من الزمن، يعتبرون مستلبين ومغتربين عن واقعهم ومجتمعهم. لكن هذا النمط من الصحافة لم يعد مقتصرا على بعض المجلات المختصة، وبعض صحف الإثارة التي تسعى للثراء في ظل المنافسة الشرسة بين عناوين الصحف، بل تحولت إلى أنموذج إعلامي يدفع حتى الصحف الجادة إلى نشرها، وكذا برامج تلفزيونية وإذاعية، وحتى شريط وكالات الأنباء الكبرى.
لقد فهمت هذه الصحافة على أنها نظام من الدلالات والقيم الخاصة بمجموعة اجتماعية، التي تضفي عليها شرعية أو ترفضها(15). إن هذه الدلالات التي تخضع العمل الصحفي لمعيارية محددة، تفسر لنا السبب في نعي الكتابة النقدية في الصحافة المعاصرة، أو جنوح ممارسيها إلى الحديث عن ذاتهم، والتعبير عن مشاعرهم تجاه الإنتاج الثقافي والفني(16). لأنها تكشف ـ ببساطة ـ عن انتقال الكتابة النقدية الصحفية من الحديث عن الإنتاج الثقافي والفني إلى سرد تفاصيل في حياة منتجيه بأسلوب مرح ذي مسحة ساخرة. الـمراجـع:
1)- Lambert Frédéric: La critique de télévision par la caricature stéréotypes et présomption de crétinisme, Médiamorphoses, France, - n.1 - 2001, PP 53- 56
2) - Hélène Romeyer : L’autoréflexivité télévisuelle comme redéfinition d’un espace public de débat, Actes du XVIIe congrès international des sociologues de langue française, Tours, 5-9 juillet 2004
3)- Jean Ungaro: La critique improbable, Revue MédiaMorphoses, France, n.1- 2001, PP17-21
4) - Ibid
5)- Jerome Bourdon, Jean-Michel Frodon : L’œil critique, le journaliste critique de la TV, INA- Deboerk 2003, p 136
6)- Ibid, p 136
7)- Lynn Spigel ( 1996) La télévision dans le cercle de famille, Actes de la recherche en sciences sociales. Vol. 113, juin. pp. 40-55 this article is the second chapter of the book Make Room for TV, television and family ideal in postwar America, The University of Chicago , press, 1992 Room for TV, television and family ideal in postwar America, The University of Chicago, press, 1992
- Postmann Neil( 1985): Amusing ourselves to death, Public discourse in the age of show business, Usa, Penguin
9)- Flichy Patrice ( 1997). Introduction. In: Sociologie de la communication, Revue Réseaux, volume 1 n°1.,pp. 151-163
10) - Lochard Guy, Soulages Jean-Claude ( 1994( : Les imaginaires de la parole télévisuelle. Permanences, glissements et conflits, Revue Réseaux, France, Volume 12, No 63, Année , pp. 13-38 Ibid
11-Ibid
12-Ibid
- Caroline Ulmann-Mauriat ( 2001) : 13) De la critique à la chronique, Revue MédiaMorphoses, France, n.1; p 34- 37
14) benoit-raphael: demain tous journalistes, published January 10,2008 retrieved 30 August 2009, from : http://benoit-raphael.blogspot.com
15) Dictionnaire de( 1999) Akoun André, et Ansart Pierre (dir.) sociologie, Paris, Editions Le Robert/Editions du
Seuil. P 265
المصدر