كتب العميد الدكتور امين محمد حطيط في جريدة البناء بتاريخ 14\9\2012
زيارة البابا إلى الشرق رسالة الفاتيكان لسلام شامل.
في ظل ظروف واحداث تعصف بالمنطقة، اقل ما يقال فيها انها استثنائية وتاريخية، وامام كم من المخاطر والتحديات تضرب شعوب المنطقة ومكوناتها وتواجه الأنظمة والدول المعنية بها، يقوم البابا بندكتوس السادس عشر بزيارة الى الشرق، ويطل عليه من قمم لبنان التي منها ترى الصحراء والنفط والأنهار، وأكثر ما يمكن ان يرى النار التي أضرمت في المنطقة منذ نيف وستة عقود، يوم اغتصبت فلسطين بقرار غربي صهيوني، نار لم تنطفئ منذ ذاك الحين رغم ان اوارها كان يخبو بين الفينة والأخرى، لكن مواقدها والريح التي توجهها تتنقل على مساحة المنطقة حتى استقرت في السنتين الاخيرتين بشكل خاص في كل من سورية والعراق، فضلاً عما جرى في لبنان وفلسطين اللذين كانا أول ما التهمتهما نار صهيون.
طبعاً، ان مشاكل المنطقة كبيرة، وامورها معقدة على أكثر من صعيد، لكننا وفي مناسبة زيارة البابا لن نسهب في ذكرها وتفصيلها كلها، بل نكتفي بالملف الأهم الذي يعني البابا، وهو كما نعتقد حريص على متابعته بحكم مسؤولياته الراعوية والدينية الاخلاقية والانسانية. انه ملف الوضع الديمغرافي والوجود المسيحي في الشرق، ومعه ملف الحرية الدينية عامة وحرية المسيحيين بشكل خاص، وهنا يكون الطرح الأساس، كيف يمكن للبابا أن يساهم ان لم نقل يتصدى ويدفع الخطر عن المسيحيين ويثبتهم وجوداً، ويفعلهم دوراً إنسانياً وحضارياً في هذه المنطقة.
ولمقاربة الموضوع بعمق أكثر ينبغي ان نذكر بأن 1400 سنة اي منذ قيام دول في الشرق منها من قال عن نفسه إسلامياً ومنها من حكم باسم الإسلام ومنها من تغطى بالإسلام ليبرر عدم مشروعية حكمه، إن أربعة عشر قرناً مضت ولم يكن فيها حكم مسيحي مباشر. أو حكم ضد الإسلام بشكل علني، رغم ذلك فقد بقي المسيحيون في الشرق، واستمرت جذورهم ضاربة فيه لا بل إن دورهم في نهضة الشرق وترشيد الحكام او معاونتهم كان امرا بينا، ولو لم يرتكب الاتراك تلك المذبحة البشعة بحق الأرمن ـ طبعاً فإن الإسلام منها براء- لما كان في التاريخ المشرقي والعلاقة مع المسيحيين ما يمكن تسميته بالأحداث الدموية،
رغم ان موقعة او أكثر كانت بالغة السوء ارتكبها البعض باسم الإسلام، ضد مسلمين كفروهم، مستندا الى فتاوى انحرفت عن الإسلام كما حدث بتأثير هذا او ذاك ممن فهم الإسلام على طريقته فهماً خاصاً ما أدى الى ارتكاب ما ارتكب بحق من لم يكن من أتباعه وفريقه الديني، كما فعلت فتاوى ابن تيمية.
أ. و خلافاً لهذه الحقائق التاريخية، نجد اليوم أن أمر المسيحيين في الشرق تغير دوراً ووجوداً، وهو في تراجع مستمر الى الحد الذي يمكن القول فيه بأن خطر تهجيرهم وتهميش من يبقى منهم لم يعد كلاماً او ترفاً فكرياً بل إنه بات حقيقة واقعة، وهنا فقط نذكر بوقائع لا يمكن القفز فوقها:
1) قبل اغتصاب فلسطين، كان المسيحيون يشكلون نسبـة 18 % من الشعب الفلسطيني، اما اليوم فقد اضمحل وجودهم في فلسطين الى ان اقتصر العدد على ما جاء في الاحصاءات الاخيرة على 0.8 من المقيمين في ما يسمى «اسرائيل» القاائمة على أرض اغتصبت في العام 1948، وأما من هجر أو بقي في الضفة والقطاع ولم يحصل على جنسية بديلة، فإن عدده لا يتجاوز ال 1.2 من مجموع اللاجئين الفلسطينيين.
2) قبل فتنة العام 1975 في لبنان، والحرب التي اشتعلت نارها فيه لنيف و14 عاما، كان المسيحيون هم حكام لبنان، وكان لبنان الدولة الوحيدة في الشرق العربي الذي تجد فيه الحاكم مسيحياً يمارس السلطة بشكل يقترب من الحكم المطلق، لكن حرباً خططت لها وأدارتها المخابرات الغربية والصهيونية، انتهت بلبنان الى واقع مختلف بشكل جذري، حيث هجر 40% من المسيحيين هجرة في الداخل، و25% هجرة الى الخارج، اما الحكم فقد خسره المسيحيون وباتوا في موقف الدفاع غير الموثوق عن بعض ما تبقى لهم بعد اتفاق الطائف.
3) قبل الاحتلال الاميركي للعراق، كان المسيحيون في عددهم يصلون الى ما يناهز المليون ونصف في العام 2003، ومع الاحتلال الأميركي، وبتشجيع من الاحتلال والأدوات الصهيونية، انخفض العدد الى الحد الذي تنبئ فيه الاحصاءات الغربية بانه لا يتجاوز ال 280 الفاً، وهم أيضاً مهددون في ظل بيئة الرفض للآخر، التي أنتجها الفكر الوهابي التكفيري الذي ترعاه المخابرات الأميركية من أجل تحقيق أهداف المشروع الصهيوني.
4) و نأتي الى سورية حيث نجد أن المسيحين في ظل النظام القائم اليوم هم مواطنون مكتملو المواطنية، لهم الحقوق ككل سوري، وعليهم الواجبات ككل مواطن، لكن العدوان على سورية ونظامها الذي يشن اليوم بقيادة غربية صهيونية، والذي نشر فتنة أسماها ثورة، أدى و في غضون أقل من سنتين الى تهجير جزء من المسيحيين (حتى الآن 18%) وتهديم بعض كنائسهم، ومنعهم من ممارسة عباداتهم في بعض المناطق، كما تعرضوا ولا زالوا يتعرضون لمخاطر الفكر التكفيري الوهابي، الذي يجيز القتل والاغتصاب لمجرد الاختلاف بالفكر والعقيدة والدين. فكر اذا استقام له الأمر، وتولى زمام السلطة، لن يكون حال المسيحيين فيه بأفضل مما سبق، في المواقع الثلاثة المتقدمة الذكر.
هذا هو حال المسيحيين مع حضور السيطرة الغربية الصهيونية الى الشرق، ومع احتضان هذه السيطرة وتشجيعها بأكثر من وسيلة وطريقة للفكر الإلغائي التكفيري، والاخطر مما ذكر، هو أن بعضاً من المسيحيين يؤدون أدواراً بالغة الأهمية، خدمة لذاك الفكر، مباشرة عبر التحالف او بشكل غير مباشر، عبر التسهيل والاستفزاز. لهذا نرى أن مواجهة الخطر على المسيحيين، مواجهة جدية، يكمن في أمرين أو العمل على اتجاهين:
1) الاتجاه الاول وهو اتجاه مسيحي داخلي، يقوم على فهم حقيقة المنطقة وتركيبتها الديمغرافية، ودفع المسيحيين للانخراط فيها ضمن فكرة المواطنة والمساواة بين المواطنيين، لأننا نرى أن أخطر ما يتهدد المسيحيين، هو العزلة او الانعزال، أو الدخول في محاور متنازعة، أو الاستعانة بالخارج من أجل منفعة او كسب شخصي قصير النظر. ولقد دفع المسيحيون في لبنان ثمناً باهظاً مقابل خيارات سياسية خاطئة مارسها البعض منهم يوم قام بالتعامل مع «اسرائيل»، والغريب أن نفس هذا البعض يستمر اليوم في الخيارات ذاتها عبر تحالفه العلني مع الفكر الوهابي التكفيري. وهنا نرى أن من أهم ما يمكن أن يقوم به البابا خلال زيارته وإرشاده الرسولي يكمن في مواجهة هذه السياسة الخاطئة وتصحيحها عبر تصويب المسار على ما ذكرناه أعلاه.
2) الاتجاه الثاني، وهو اتجاه خارجي دولي، ويقوم على تحديد مصدر الخطر الحقيقي على المسيحيين، والذي يتهددهم بالاقتلاع، كما حاول الأميركي يوماً، وجاء ببواخر دين بروان ليخلي مسيحيي لبنان منه، أو كما يتم اليوم عبر التسهيلات المذهلة التي يقدمها الغرب لهجرة المسيحيين من لبنان وسورية والعراق. يجب أن ندرك بأن المشروع الغربي – الصهيوني قائم في أحد أضلاعه الرئيسية على فكرة التغيير والفرز الديمغرافي خاصة عبر إخلاء الشرق من مسيحييه، وهنا تكون ملحمة مواجهة المشروع هذا بكل جرأة وشجاعة وتسمية الأشياء بأسمائها دون خجل من أحد.
في مقابل هذه المخاطر، نعتقد بأن البابا سيجد في لبنان أسسا قد يبني عليها، وبذوراً قد ينميها خدمة للمسيحيين ولتثبيتهم في أرضهم، سيجد ايجابيات، سواء في الساحة السياسية كما هو حال حركة العماد عون وتياره الوطني الحر، الذي يدعو الى العدالة والمساواة بين المواطنيين، وعدم تهميش أحد، وبناء دولة المواطن، أو على الصعيد الكنسي، كما هو حال البطريرك الراعي، الذي رفع شعار الشركة والمحبة، ورفض ويصر على محاربة الهجرة وبيع الأرض، ويدعو الى التشبث بالوطن.
نعم يمكن للبابا أن يقدم خدمة كبرى للوجود المسيحي في الشرق، بتسجيل اعتراضه على المشروع الغربي الصهيوني التهجيري، والدعوة الى دولة المواطنة، ورفض التدخل الاجنبي في شؤون الدول، وأول ما يمكن بلورته الآن، هو رفض التدخل الغربي في سورية، كما يمكنه وعبر الارشاد والتوجيه، ان لم نقل تحذير المسيحيين من الانجرار وراء شهوات خاصة، والدخول في أحلاف مع دعاة الفكر التكفيري الإلغائي، لأنهم سيكونون مثلهم مثل لاحس المبرد اولاً، والمدمر لشعبه ثانيا، خاصة وأن تاريخ هؤلاء شاهد عليهم بأنهم هم من تسببوا بهجرة الجزء الأعظم من المسيحيين داخل لبنان او تركه نهائياً الى الخارج.
العميد الدكتور امين محمد حطيط