افتتاحيّة سمير العيطة > حزيران/يونيو > 2013
افتتاحية النشرة العربيّة
سمير العيطة
أنا مواطن.. وحر
في أيّامٍ مضت، كانت للثورات طوباويّات. وكانت الثورات تنتقد نفسها وتراجع سياساتها في مسار صنع أحلامها. "دور يا كلام على كيفك دور، خلّي بلدنا تعوم في النور (...) يكشف عيبنا ويلهلبنا، لسعة بلسعة نهبّ نثور"، كما قالها
أحمد فؤاد نجم. إلاّ أنّ "الثورة" في "ربيع العرب" قد أضحت موضوعاً بحدّ ذاتها، وليس ما ستؤول إليه، ولا أهدافها.
وسائل إعلام، تدفعها حكومات لا علاقة لها بما هو ثوريّ، لا عربيّاً ولا خارجيّاً، تغنّي "للثورة" و"لثوّار". لا سياسة لهم سوى "الإسقاط" و"الإدانة" و"طلب العون والتدخّل"، حتّى لو جاء هذا العون من دولٍ لا علاقة لها بحلم الحريّة والكرامة الذي قتل الشباب الخوف من أجله، وذهبوا إلى الموت في مواجهة آلة قمعٍ رهيبة. "ثوار" تخبّطوا في السياسة وتحجّجوا بأنّ عقوداً من القمع منعتهم من ممارستها. "ثوار" كلّفتهم خطاباتهم ما كلفت من الضحايا، ولا يعترفون بالمسؤولية. وعدوا بنصر وشيك لم يأتِ، ولم يمارسوا أي نقد ذاتي. مارسوا، بعضهم مع بعض، قمة السياسة الذاتية السياسوية، البعيدة كل البعد عن سياسة صنع أحلام شعوبهم، من دون أن يكلّفوا أنفسهم باعتذار.
فالسياسة، هي، من ناحية، إطار لتنظيم المجتمعات حول قيم معيّنة. ومن ناحية أخرى، فنّ الحكم والسلطة. وكلتا الناحيتين ولدت في مشرقنا العربيّ قبل أن تعمّ على الإنسانيّة. لكنّها منذ ذلك الحين، فقدت في بلادنا صفتها الأولى، لدى السلطات القائمة أو لدى المعارضات، ولم يبقَ منها سوى صفة فنون التسلّط. والسخرية أنّ ميزة هذا الفنّ الرئيسة، ما يشار إليه بالفرنسيّة بـ cynisme (التصّرف من دون مرجعيّة للقيم)، ليس لها مرادف عربيّ دقيق، ويترجم عادةً بالصلافة.
في سوريا، أدّى تهرّب هؤلاء السياسيين من المسؤوليّة إلى الانزلاق في حربٍ أهليّة طائفيّة، وإلى خراب الدولة؛ وهو ما كان النظام القائم يدفع إليه لحماية نفسه. فما الفرق بينهم وبينه إذاً؟ بالنسبة إليهم، ورغم كلّ البشاعات التي تجري، وكلّ الآلام، الطرف الآخر هو وحده الطائفيّ، والطرف الآخر هو المجرم. "الثوار" وحدهم المعصومون، ولا حاجة لأن يدينوا طائفيّة ظهرت بين جوانحهم، أو جرائم ارتكبها أناسٌ يُحسبون في صفوفهم.
وفجأة، يجدون أنفسهم أمام ورطة كبيرة: كيف يُمكن إيقاف ما أضحى حرباً طائفيّة إقليميّة، حتّى وإن سقط النظام؟! وكيف تُعاد لحمة شعب كان نموذج تعايش، وسيادة وطن بات الجميع يتلاعب بمصيره؟ ماتت "السياسة" في هذه الورطة، بينما هي فكر وممارسة للخدمة العامّة، أي لخدمة كلّ المجتمع وعموم الناس، حتّى أقلّ أقلّويّ بينهم، مذهبيّاً واجتماعياً وسياسياً وإثنيّاً، ألخ.
لا يا سادة! "الثورة" ثورة بما تؤسّس إليه من قيم، وبما فيها من قسوة على الثوّار لأنّهم لا يحفظون هذه القيم. "مرّ الكلام، زيّ الحسام يقطع مكان ما يمرّ، أمّا المديح سهل ومريح، يخدع لكن بيضرّ" (أحمد فؤاد نجم أيضاً). و"الثورة" ثورة إن حافظت على هذه القيم، حتّى لو هزمت، وحتّى لو استشهد من أجلها جميع الثوّار.
هذا كلامٌ طوباويّ في ظلّ القمع والقتل والقصف. حتماً! وهذا القصد منه. أن يتأسّس للربيع العربيّ طوباويّة تحلم بمجتمعات عربيّة مختلفة وترسي الأسس السياسة لها. والديموقراطيّة وحدها لا يُمكن أن تكون هذه الطوباويّة، لأنّ سيادة الشعب تتطلّب سياسة وسياسيين، وهذه وهؤلاء لهم وجهان، وجه القيم ووجه الفنون التي قد تنعزل عن القيم وتخضع للمال، وللتدخّلات الأجنبيّة، إذ حتّى الديموقراطيّات السياسيّة يُمكن أن تكون عنصريّة، كما في إسرائيل وجنوب إفريقيا.
أنا شخصياً أفضّل طوباويّتي المساواة التامّة في المواطنة والحريّات. وأن نكشف عيبنا بالتحديد في ما يخصّ هذين الهدفين. إذ لا يُمكن إرساء نظامٍ يقوم على "الشريعة" الإسلاميّة في ظلّ المساواة التامّة في المواطنة، حتّى لو كان الإسلام دين الأغلبيّة وحضارة المجتمع كلّه. ولا يمكن إقصاء أيّ مدرسة فكريّة في ظلّ صون الحريّات.
ما زال الطريق طويلا نحو طوباويّاتنا، في سوريا، كما في مصر وتونس وليبيا، تلك التي يقال إنّ "الثورة" نجحت فيها، في حين لم يحدث سوى إسقاط حاكم. وما زال علينا التعلّم كثيراً من الشعوب التي سبقتنا، حول مضمون ثوراتها والقيم التي أرستها، ولو بعد حين. كما يفترض بنا التأمّل مليّاً بما آلت إليه "الثورة" في إيران، وكيف يتنفض الأتراك اليوم، على الرغم من كلّ رخائهم الاقتصاديّ النسبيّ وديموقراطيّة دولتهم وحداثتها، كي يندّدوا هم أيضاً بمن مسّ... بالمساواة في المواطنة والحريّات.
أنا مواطن وحرّ، فقط، ولا أنظر إلى الآخرين إلاّ كمواطنين وأحرار...
* اقتصادي، رئيس تحرير النشرة العربية من لوموند ديبلوماتيك، ومؤّلف: Les Travailleurs Arabes Hors-La-Loi, L’Harmattan, 2011. ورئيس مجلس ادارة موقع مفهوم A Concept mafhoum, www.mafhoum.com
حقوق الطبع محفوظة لكافة البلدان
http://www.mondiploar.com/article4408.html