قازان عاصمة جمهورية تتارستان ولؤلؤتها
أ. د. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
تعود بداية حياة الإنسان في تتارستان إلى القرن الثامن ق.م. ثم نشأت دولة البلغار هناك ثم سيطر المغول على البلاد في القرن الثالث عشر. يرجع الوجود الإسلامي في تتارستان إلى العام ٩٢٢م. إثرَ زيارة العالِم والرحّالة، أحمد بن فضلان، في رحلته الشهيرة “رحلة ابن فضلان” الدينية السياسية إلى روسيا التي شملت قرابة خمسة آلاف شخص أرسلهم الخليفة العباسي المقتدر بالله (أنظر: http://www.al-hakawati.net/arabic/civilizations/148.pdf). تعتبر مدينة بولغار الصغيرة الواقعة على بعد ١٤٠كم من قازان، مهد الإسلام في روسيا وفيها الآن نسخة فريدة من القرآن أعدّت في إيطاليا، ٢م x ١,٥م ووزنها ٨٠٠ كغم وعدد صفحاتها ٦٣٢ وهي مرصّعة بجواهر ثمنها ١,٣ مليون دولار (https://www.youtube.com/watch?v=yVdgqfGsEwc). في بداية القرن الخامس عشر استقلت مملكة قازان برئاسة الملك علي محمد وأقامت علاقاتٍ مع موسكو وفي عام ١٥٥٢ انضمت إلى مملكة روسيا. التتر أو التتار/التارتار (عند ابن خلدون: التَّغزعز) عبارة عن كنية لقبائل منغولية غزت أوروبا في القرن الثالث عشر وهم اليوم أحفاد بُلغار الڤولچا ويبلغ تعدادُهم سبعة ملايين تقريبا، يعيش معظمهم في روسيا، وفي تتارستان زهاء المليونين وهم موزعون وفق بعض الأبحاث على أربع طوائفَ كبيرة مقسّمة إلى ست عشرة قبيلة في ثلاثين دولة، ورأي آخر يشير إلى وجود ٣٨٠ فرعا للتتار. إذن التتار مجموعة بشرية متنوعة جدا إثنيا وجغرافيا.
قازان/كازان/غازان، عاصمة جمهورية تتارستان، جمهورية التتار الاشتراكية السوفيتية سابقا، منذ العام ١٩٢٠ ومركز الثقافة التتارية. تأسستِ المدينة عام ١٠٠٥ وتحتل المرتبة الثامنة من حيث عدد السكان بين مدن روسيا الاتحادية ومنذ عام ٢٠٠٩ أصبحت العاصمة الثالثة لروسيا بعد موسكو وسانت بطرسبورغ. كما وتحتل قازان المرتبة الثالثة في روسيا من حيث ارتفاعُ مستوى المعيشة بعد المدينتين الآنفتين. إنها عاصمة الشعب التتاري ذي الثقافة القديمة أينما تواجد ومركز الإسلام في روسيا برمّتها. في العام ذاته اختيرت قازان عاصمة للرياضة في روسيا وهي العاصمة الثقافية لحوض الڤولغا. تقع قازان بين أوروبا وآسيا عند ملتقى نهري الفولچا وكازانكا وتبعد عن موسكو ٨٢٥ كم، رحلة ساعة ونصف تقريبا بالطائرة. مساحتها ٥١٦ كم٢ مقسّمة إلى سبع مناطقَ إدارية وعدد سكانها قرابة المليون و١٤٤ ألف نسمة نصفهم من المسلمين السنّة والنصف الآخر تقريبا مسيحيون أرثوذكس ويعيش فيها أيضا أناس ينتمون إلى أكثرَ من ١٠٠ قومية. في المدينة زهاء ١٥٠ منظمة دينية، ٦٨ إسلامية، ٤٨ مسيحية أرثوذكسية و٣٠ مسيحية بروتستانتية ومنظمتان كاثوليكيتان ومعبد كل الأديان، معبد إلدار خانوڤ. عدد المساجد في قازان ٦٨ وعدد الكنائس الأرثوذكسية ٥٩ وواحدة لوثرية وأخرى كاثوليكية ويوجد أيضا كنيس يهودي حبّادي. قبل اثنتي عشرة سنة كان عدد المساجد في تتارستان كلها ١٤ فقط أما اليوم فوصل العدد إلى ١٥٠٠ مسجد. مما يجدُر ذكرُه وجود تتار مسيحيين أو مسيحيين من أصل تتار الفولجا مثل النجايبَك والكِراشين ويبلغ عددهم قرابة الاثني عشر ألفا. عاش ليون تولستوي في قازان ست سنوات، ١٨٤١-١٨٤٧، والمدينة ذات شهرة بارزة في الاستشراق منذ العام ١٨٠٧ وفيها عاش غوردي سابلوكوف أول مترجم للقرآن للروسية.
“قازان” باللغة التترية تعني “المِرجل” إلا أن تأثيل الاسم غير متّفق عليه وهنالك عدة حكايات وأساطير بهذا الصدد. يُروى مثلا أن أجداد تتار الفولغا اليوم، البلغار القدامى، استشاروا ساحرا لتعيين مكان بناء مدينة لهم. أشار الساحر إلى بنائها حيث يغلي الماء بلا نار في قِدر دُفنت في جوف الأرض. عثر على مثل هذا الموقع في نهاية المطاف بالقرب من بحيرة كابان ومن هنا جاءت التسمية. يبدو أن أبسط الروايات قد تكون أصدقَها، يُحكى أن الاسم مشتقّ من اسم نهر قازنكا حيث تقع المدينة على ضفافه. إنها أبرد عاصمة إسلامية في العالم حيث قد تصل درجة البرودة فيها في الشتاء إلى أكثر من ٣٠ درجة تحت الصفر. تأسست المدينة في أواخر القرن العاشر وأوائل الحادي عشر وفي ١٥٥٢ احتلّها القيصر، إيڤان الرابع (الرهيب)، وغدت جزءً من روسيا، وفي عام ١٨٠٤ أسّس القيصر ألكسندر الأول جامعة ولاية قازان، أوليانوف سابقا، برئاسة عالم الرياضيات الشهير، نيقولاي لوڤتشڤسكي. تعدّ هذه الجامعة (منطقة الڤولچا) الفيدرالية (KFU) ثاني أقدم الجامعات في روسيا وتحتلّ مرتبة ضمن أفضل عشر جامعات في البلاد وعدد طلابها ٤٠ ألفا. تتمتّع الجامعة بصيت طيب في الرياضيات والفيزياء والكيمياء وعلم الأحياء واللغويات. تعود بداية المعهد للعربية والإسلاميات إلى العام ١٨٠٧. تضمّ مكتبة لوباتشيڤسكي زهاء الخمسة ملايين مجلد منها حوالي ٣٠ ألف مخطوط يعود أقدمُها إلى القرن التاسع ميلادي ومنها ١٧ ألف مخطوط بالعربية. لعلماء الجامعة باع طولى في مضمار الأبحاث والاكتشافات، فمثلا في عام ١٨٤٢ تمكّن الباحث ن.ن. زينين من استخراج صبغة الأنيلين من النتروبنزول. بعد ذلك بسنتين اكتشف الأستاذ ك.ك. كلاوس عنصرا كيماويا جديدا أسماه روثينيوم (Ruthenium) ومعناه باللاتينية “روسي” وهو العنصر الطبيعي الوحيد الذي اكتُشف في روسيا. يذكر أن الجامعة المذكورة كانت قد أصبحت في النصف الأول من القرن التاسع عشر أكبر مركز للدراسات الشرقية في أوروبا وقد أسسه الأستاذ كريستيان مارتن يوآخيم من فران (١٧٨٢-١٨٥١) عام ١٨٠٧. كما يُعزى أول تسجيل لصورة بيانية كهربائية للقلب ( electrocardiogram، تخطيط للقلب) لسمويلوڤ، مؤسِّس مدرسة الفيزياء الإلكترونية. وكان الوالد أ. ي. أربوزوڤ وابنه ب. أ. أربرزرڤ قد أوجدا مجالا دراسيا جديدا، كيمياء مركّبات الفسفور العضوي. خلال قرنين من الزمان على تأسيس الجامعة نجد ثمانين عضوا كازانيا في الأكاديمية الروسية للعلوم. يُشار إلى أن مؤسِّس الدولة السوڤياتية، ڤلاديمير ألييتش أوليانوڤ المعروف بلينين (١٨٧٠-١٩٢٤) وشخصيات مرموقة أخرى مثل تولستوي درسوا في جامعة كازان. في عام ١٩٩٨ أُسست الجامعة الروسية الإسلامية في قازان وفيها اليوم ألف طالب وطالبة وتحتوي مكتبتها على أربعين ألف مجلد، حول ٢٢ ألف عنوان، قُدمّت هدية من العاهل السعودي، عبدالله بن عبد العزيز آل سعود، عام ٢٠١١. تُعنى هذه المؤلفات بالإضافة طبعا للدراسات الإسلامية، باللسانيات والأدب والثقافة والفلسفة. اللغة العربية تُسمع في أروقة الجامعة وسنحت لي الفرصة للتحدث مع بعض الأساتذة الشباب التتار بالعربية المعيارية الحديثة وعلمت أن الطالب التتري يبدأ بدراسة العربية من الصفر ويصل إلى مستوى جيّد علما وعملا بعد خمس سنوات أكاديمية. مثل هذا الإنجاز نادر جدا حتى بالنسبة لأساتذة اللغة العربية والإسلاميات في العالم الغربي.
يتكلم التتار البالغ عددهم زهاء السبعة ملايين نسمة، منهم حوالي خمسة ملايين في روسيا الاتحادية، اللغة التترية، فرع من عائلة اللغات التركية (التي تشمل مثلا: ألأزربيجانية، بشكير، قرغيز، نوغاي، تُركومان، أزبِك) وهي لغة رسمية في تتارستان كالروسية ومستخدمة في عدة أقطار أخرى مثل باشكورتوستان وموردفيا وأوربكستان وكازاخستان وأذربيجان وقرغيزستان وطاجيكستان وتوركمنستان. يرجع أقدم نصّ تتاري موجود اليوم إلى القرن الثالث عشر. استخدم التتار أولا الحروف العربية حتى عام ١٩٢٧ حيث استبدلت بالأحرف اللاتينية ومنذ العام ١٩٣٩ استعمل الحرف الكيريلي، السلافي، ولكن أعيد الحرف اللاتيني مؤخرا. هنالك ثلاث لهجات تترية أساسية، لهجة غربية، مِشار، ولهجة وسطى في قازان ولهجة شرقية في سيبيريا. من الملاحظات الأولية التي استحوذت على اهتمامي كانت مكانة اللغة التترية في قازان الشبيهة لحد لافت للغة العربية المحكية في الديار المقدسة، الروسية طاغية هناك والعبرية كاسحة هنا.
من معالم مدينة قازان، متعددة الثقافات ورمز التعايش بين الأديان لا سيما بين المسلمين والمسيحيين، نذكر ما يلي:
كرملين قازان:
موقع من مواقع التراث العالمي وقلب المدينة النابض. يقع على الضفة اليسرى العليا لنهر الفولغا، عبارة عن مجمع معماري وآثار تاريخية، شيّد في عهد إيفان الرهيب. الكرملين عبارة عن قلعة محاطة بسور طوله ١٨٠٠م فيه أبراج عديدة. في البداية كان السور خشبيا ثم حجريا في القرن الثاني عشر. بعد ثورة أكتوبر ١٩١٧ أصبح المقر الإداري لجمهورية تتارستان ومنذ عام ١٩٩٢ المقر الرسمي لرئيس جمهورية تتارستان والوزارات والمؤسسات الرسمية. الفن المعماري تتاري إيطالي روسي بلغاري وإسلامي.
متاحف ومسارح:
مثل المتحف الوطني؛ متحف الفنون الجميلة؛ المتحف الأدبي لعبدالله توكاي، متحف مكسيم غوركي؛ مركز إيرمتاج-كازان؛ متحف الثقافة الإسلامية، متحف بيت لينين؛ متحف التاريخ الطبيعي لتتارستان؛ مسرح موسى جليل الأكاديمي التتري للأؤبرا والباليه؛ مسرح أكلديمي روسي على اسم كاخالوف؛ مسرح الدولة الأكاديمي على اسم جاليسكر كمال؛ مسرح تتري للدراما والكوميديا على اسم كريم تنخورين؛ قاعة الدولة للكونسرت على اسم صالح سيداشيف؛ مسرح الأولاد.
كاتدرائية البشارة:
بنيت أولا من الخشب خلال ثلاثة أيام بأمر القيصر إيڤان الرهيب. أعيد بناء الكاتدرائية عام ١٥٦٢ بالحجر ثم أجريت أعمال ترميم وتعديلات خلال المدة الواقعة ما بين ١٦٩١-٢٠٠٥. هنالك مكتبة ثرية وفيها مخطوطات ترجع للقرنين السادس عشر والسابع عشر.
بيت الأساقفة:
مستطيل الشكل، ثلاثة طوابق، الآن مقر الأكاديميا للعلوم.
المسجد، قل شريف:
يقع هذا المسجد الرئيس في تتارستان وهو ثاني أكبر مسجد في روسيا وأوروبا (بعد مسجد “قلب الشيشان”) في الجزء الغربي من كرملين قازان. شيد ما بين ١٩٩٦-٢٠٠٥، قل شريف هو الإمام والشاعر والبطل القومي التتاري الذي ضحّى بحياته دفاعا عن مدينته أمام جيش إيڤان الرهيب عام ١٥٥٢. مسجد تتارستان الرئيسي، فيه ثماني منائر، ارتفاع القبة ٣٦ م ونوافذها بشكل زهرة الخزامى، خمسة طوابق في المسجد من الداخل، يتسع المسجد لـ ١٥٠٠ شخص، أما ساحته الأمامية فتتسع لـ ١٠ آلاف مصل. كانت حكومة إيران قد أهدت الزخارف الداخلية والسجاجيد وتوجد ثريا تزن حوالي الطنين وقطرها خمسة أمتار. هنالك على الجدار الداخلي نقوش بالعربية لأسماء معروفة في التاريخ مثل إبراهيم خليل الله، يسوع روح الله، موسى كليم الله. يوجد في سرداب المسجد متحف إسلامي يحكي تاريخ الإسلام في روسيا.
قصر رئيس الجمهورية:
طابقان، شيد بين ١٨٤٥-١٨٤٨.
برج سيومبيكي:
برج مراقبة مائل، على اسم الملكة التي شيدته على ما يُروى تخليدا لذكرى زوجها صفا-غيري المتوفى عام ١٥٤٩. أشهر معالم قازان ورمزها المعماري، ورمز تتارستان. ارتفاعه ٥٨م، لا علم بتاريخ تشييده، ربما أواسط القرن ١٦ فيه سبعة طوابق. تحكي الأسطورة أن الأميرة التتارية سيومبيكي وافقت على الزواج من إيڤان الرهيب شرط أن يبني أعلى برج في كازان خلال أسبوع فلبّى الطلب، إلا أن الأميرة لرفضها الخضوع هي وشعبها للروس، ما كان منها إلا أن تسلقت إلى قمة البرج وقفزت أرضا فلاقت حتفها. يلمس الشباب والصبايا جدار هذا البرج للتبرك متمنين مستقبلا زاهرا في مجال الحب والزواج الناجح.
كنيسة الروح القدس، كنيسة القصر:
شيدت في القرن ١٧، حرقت مرتين، أعيد بناؤها عام ١٨٥٢، ٥ قباب، ارتفاع ٢٧م، أغلقت الكنيسة عام ١٩١٨ وحولت إلى مطعم والآن متحف تاريخ التتار.
معبد كل الأديان/معبد الكون:
أقيم عام ١٩٩٢، فيه كنيسة ومسجد وكنيس ومعبد بوذي، معبد إلدار خانوڤ.
البحيرة السوداء، حديقة لينين، بحيرة كابان، متنزه النصر وفيه ١٤١٨ شجرة على عدد أيام الحرب الوطنية العظمى.
شارع باومان:
أشهر شارع في المدينة وهو طويل جدا للمشاة فقط، في نهايته المول الضخم، كلت سو.
رحلتي القصيرة لمدينة قازان ضمن مجموعة صغيرة من أعضاء لجنة العمل “الكنيسة والإسلام” مؤخرا كانت موفقة .
Fakhroutdinov, Ravil, History of the Tatars. Kazan, RU: Magarif Publishing House 2004.
Kauppinen, Antti, Tatarstan. Sankarimatkailijan. Helsinki: Like, 2010.
Rorlich, Azade-Ayse. The Volga Tatars: A Profile in National Resilience . Stanford, Calif.: Hoover Institution Press, 1986.