لكي لا نبكي الجزائر كنساء
حميد لعدايسية جامعي وباحث04-10-2013
لا أبالي إن كنت مغردا خارج السرب، ولا أحزن إن ارتفعت أصوات الوجوه المستعارة، وكثرت تضليلاتهم، ولا أجزع إن خذلني من لا يؤمن بهذا [الطرح]، وإنما يؤرقني أشد الأرق، أن لا يصل هذا [الطرح]، إلى من أقصد، فأنا أخاطب شرفاء الأمة لا منكوبيها، وأصحاب الرأي لا أرباب المصالح، ومعتنقي المبادئ العليا لا محترفي العمالة والنذالة، وقصاد الحق لا مدمني الفساد، وأنصار الحكمة، لا محبي الحكم، وأتوجه إلى المستقبل من حيثيات الحاضر المسموم والملغم، والتصق بوجدان الجزائر لا بخيراتها التي بددت في غير اتجاه من أجل تلغيم الأوضاع، ولا ألزم بهذا [الطرح] صديقا يرتبط بي، وحسبي إيماني بما أكتب، وبضرورة أن أكتب ما أكتب، وبخيانة أن لا أكتب ما أكتب.
ذلك لضرورة أخلاقية مفادها أن الكاتب الحقيقي هو قلب يخبر وقلم يسطر، فحيث لا شعور فلا فكر، وحيث لا فكر فلا وضوح، وحيث لا وضوح فلا وعي. فالشعور والفكر والوضوح ثلاثة لا يكون الكاتب كاتبا إلا إذا توافرت له أكثر من توافرها لغيره من الناس، ولولا تفاوت الناس بعمق الشعور واتساعه، ووحدة الفكر واندفاعه، ووضوح الموقف وجلائه، لكان كل من يعرف الكتابة والقراءة كاتبا. وفي جزائرنا السائرة في طريق الضياع، والعابث بها، قلوب عديدة غير أن أكثرها تتدفق المؤامرات من حولها ومن فوقها، فتنحدر انحدار الموجة على الصخرة. إلا أن أمثال هذه القلوب لا تخبر، وإن خبرت عن تخمة في البطن، أو إدمان خمر، أو لذة في الجنس.
وفي جزائرنا المحتضرة عقول كثيرة، وأكثره تتناوله المؤامرات ولا يتناولها، فأمثال هذه العقول لا تفكر. بل تدور في الليل والنهار بقوة العادة والاستمرار: ”لهم قلوب لا يفقهون بها”.
وفي جزائرنا العابث بقضاياها المصيرية، قناطر من الأقلام لكنها تكتب خارج مجال التغطية. إن مثل هذه الأقلام لا تسطر، وإن سطرت فحروفا سوداء على أوراق بيضاء لا علاقة بينها وبين عقل الكاتب وقلبه. ومن نكد الجزائر السائرة في طريق المآسي المفجعة، أن أمثال ما ذكرت من القلوب والعقول والأقلام هي القاعدة السائدة، وما اختلفت عنها فشذوذ. وكل شاذ نادر لذلك ندر وجود الكاتب والمفكر وأصحاب المواقف المبدئية.
لكن في لحظات المآسي والتردي والأفول تتوهج مواقف مبدئية فردية، لا تسلك مسالك سائر الناس، ولا تستكين لمنطق الذل والنذالة، الذي ديدانه حساب الخسائر والمغانم، ومن ثم يعطي هذا التوهج الفردي للحياة معناها، وللأوضاع مبناها، والحياة هنا المعرفة بـ ”الـ«، لا الحياة النكرة التي نفاها القرآن الكريم على اليهود الراضين بأي حياة، ولو كانت حياة السائمة والهوام، و«لتجدنهم أحرص الناس على حياة”.
ومن استقصائنا لحوادث التاريخ، سندرك أن الهزيمة لا تحيق بأمة ما إذا كانت على قوتها المعنوية.. ولو كانت الجزائر الملحمية نوفمبريا على قوتها المعنوية لكان الوضع قد تغير كثيرا، ولكن التاريخ لا يعترف بـ«لو”.
ومحاولة استقصاء الانتفاضات المفتونة التي تدور في الجوار الحضاري والتي ستطالنا، إن آجلا أو عاجلا، إن بقينا على وضعنا المؤلم، وفتحنا المجال للدسائس والخيانات السرية، والتبريرات الرسمية التي فقدت وعيها، وأصيبت بفقدان المناعة في كل اتجاه.
وأخاف أن نصل إلى ما وصل إليه موسى أبي الغسان، البطل الغرناطي الأسطوري، الذي رفض أن يسلم ”غرناطة” آخر درة جميلة في عقد الإسلام الأندلسي، حيث رأى موسى المشهد الحزين في بهو الحمراء.. العيون دامعة، والقلوب راجفة بلغت الحناجر، حينئذ نطق صوت كأنه ينبعث من أعراق الأزل، هو صوت الحق المختنق الذي تلتهمه القوة الغاشمة، حيث جاء صوت موسى: ”اتركوا العويل للنساء والأطفال، فنحن رجال لنا قلوب لم تخلق لإرسال الدمع ولكن لتقطر الدماء، وإني لأرى روح الأمة قد خبت، ولكن ثمة بديل للنفوس النبيلة ذلك موت مجيد.. ولئن لم يظفر أحدنا بقبر يستر رفاته، فإنه لم يعدم سماء تغطيه، وحاشا أن يقال إن أشراف غرناطة خافوا أن يموتوا دفاعا عنها”. كان صوت موسى وسط هذه اللجّة الكثيفة من الأحزان، ووسط تسليم وإذعان، وربما كانت عائشة أم أبي عبد الله حين رأته ينشج، هي التي شاركت موسى شطرا من آرائه التي اتخذ فيها السبيل البطولي إلى آخره، رمقته عائشة بقولها:
ابك مثل النساء ملكا مضاعا
لم تحافظ عليه مثل الرجال
فما أقرب حقائق التاريخ بين الجزائر النوفمبرية وغرناطة الدرة الجميلة في قلب الأندلس الإسلامي، وما أنصع الملابسات التاريخية بين الدرتين، وبطولة موسى الذي استشهد في المعركة ضرب من البطولات الفردية التي تصنع تاريخها، وأصحابها الذين لم ولن يكونوا من الشخصيات المصنوعة الموجودة في [جزائر العزة والكرامة؟!]. والتضحيات البطولية التي من هذا النمط هي شرف الإنسان، وهل هناك شرف بلا تضحية. فالجزائر تبحث عن شرفاء يضحون قبل السقوط الغرناطي الزاحف من دول الجوار الحضاري. إن لنا مجدا نوفمبريا قد أشفقت أن تجرفه المتوسطية المتصهينة. هكذا يقول التاريخ وتؤكد الأحداث فطوبى لمن اتعظ بالتاريخ، ودخل محرابه المقدس بدماء شهداء الملحمة النوفمبرية، وبئس لمن عفن التاريخ وأراد أن يسلم الأمة لأعدائها بلا ذاكرة ، وأقول له إنها استجابة ”بافلوفية” لأعداء الجزائر التقليديين، الذين أرادوا أن يعودوا عن طريق المتوسطية.. ولملحمة الخطاب بقية.
lhamid54@yahoo.fr
http://www.elkhabar.com/ar/autres/mousahamat/358549.html