المجاهدة إيفلين سفير لافاليت
بمجرد أن اكتشفت بيان أول نوفمبر تبنّيت أفكارهالجمعة 18 أكتوبر 2013 الجزائر: حميد عبد القادر
http://www.elkhabar.com/ar/autres/ziyara/361085.html#sthash.RjqWycrQ.dpuf
بن يوسف بن خدة هو من علّمني أبجديات النضال الثوريما تزال المجاهدة إيفلين سفير لافاليت تحتفظ بعنفوانها وذكرياتها عن حرب التحرير، رغم بلوغها سن الـ83 عاما. شاركت في الثورة، قادمة من الجهة الأخرى؛ جهة الأقدام السود التي تنتمي إليها عائلتها التي استقرت في الجزائر على مدى جيلين، ورفضت مغادرة البلد مع بني جلدتها، مفضلة الاستقرار في البلد الذي شهد مولدها. .
كانت تعيش قبل رحيل زوجها الصحفي القدير عبد القادر سفير، الذي رحل يوم 13 جانفي 1993، في منزل على هضبة صغيرة ناحية ”بن شيكاو”، لكنها سرعان ما تخلت عن هذا البيت، أين قضت سنوات طويلة رفقة زوجها، وفضلت الاستقرار في المدينة. ومن هنا كان زوجها عبد القادر يكتب مقالاته في التسعينات، ويعطيها تسمية ”رسائل بن شيكاو”، التي أعادته للكتابة الصحفية بعد أن انقطع عنها لسنوات طويلة.
ولدت السيدة ايفلين بالرويبة سنة 1927، وهي سليلة عائلة من الأقدام السوداء، استقرت بالجزائر منذ جيلين، ورفضت الانصياع وراء أوهام وأفكار المنظومة الكولونيالية المتعالية والمتعجرفة، والتي تسميها بتجاوزات غير إنسانية. قضت طفولتها وجزءا من شبابها اليافع بالرويبة، وما تزال تتذكر إلى اليوم، تلك الأيام البعيدة التي قضتها وسط الحقول، التي تمتد على مرمى البصر.
تقول السيدة ايفلين، وهي تستحضر مذكراتها التي صدرت عن منشورات ”البرزخ” بعنوان ”كجزائرية فقط”: ”في الأربعينيات عملت كمدرّسة بالقصبة السفلى. وفي تلك المرحلة لم تكن الطائفتان المسلمة والأوروبية تلتقيان. وهل بإمكاننا اليوم أن نتصور أن حجم ذلك التنافر كان موجودا”. وتضيف أن النظام الكولونيالي اتسم بانعدام المساواة والعنف والعنصرية والابتعاد عن القيم الإنسانية. وكل هذه المظاهر كانت تشكل يوميات ”الأنديجان” في المدرسة أو في العمل”. لكن هذا لم يمنع بعض الأوروبيين، تضيف السيدة ايفلين، من الالتفاف في جمعيات كانت تسعى لإيصال التعليم للأطفال الجزائريين المحرومين منه. لقد كانت شاهدة على أهم التحولات التي حصلت عقب نهاية الحرب العالمية الثانية، والتي مكّنتها من الانغماس في العمل الجمعوي، بالأخص بعد منح النساء حق الانتخاب. وأشارت إلى جمعية ”الشباب الجزائري من أجل الحركة الاجتماعية”، التي كانت عضوا فاعلا فيها. هذا المد الأوروبي في اتجاه الأهالي، من قِبل النخبة الأوروبية، أدى إلى ميلاد مجلة ”الوعي المغاربي” الشهيرة، التي أسسها أندري ماندوز، وكانت السيدة ايفلين إحدى المساهمات في توزيعها. وهذه المجلة هي التي مكّنتها من التقرب من بن يوسف بن خدة، وبالتالي من الحركة الوطنية والثورية الجزائرية. وقالت: ”بعد زلزال مدينة ”أورليانس فيل”، اكتشف مأساة الأهالي. وبعد فترة وجيزة اكتشفت بيان أول نوفمبر، وقمت بتبني أفكاره”.
المرأة التي آوت عبان وبن مهيدي في بيتهاتضيف السيدة ايفلين أنها انخرطت في العمل النضالي مع جبهة التحرير الوطني بواسطة بن يوسف بن خدة، وحددت مهامها الثورية في الحصول على شقق لإيواء المناضلين، والقيام بالاتصال بين المجاهدين، وإيصال الرسائل للحاج بن على بالولاية الخامسة. ومن بين المهام التي كلفت بها السيدة ايفلين تذكر تحديدا إيواء كل من العقيد عمر أوعمران والعقيد صادق دهيليس وكريم بلقاسم والعربي بن مهيدي وبن يحي، بمنزلها الكائن بشارع ”داغير” بالجزائر العاصمة. وقالت بكل فخر: ”لقد التقى عبان رمضان وبن يحي ببن يوسف بن خدة في بيتي”. كانت تذرع شوارع العاصمة وهي تحمل رسائل الجبهة، على متن دراجتها النارية من طراز ”لامبريتا”. ساهمت السيدة ايفلين في حرب التحرير بشكل كبير، حيث قامت بطبع المناشير على آلة ”الرونيو”، وكذا الأعداد الأولى من جريدة ”المجاهد”، كما قامت برقن الرسالة التي وجهها الشهيد أحمد زبانة لعائلته. وهو ما تسبب في توقيفها من قِبل مصالح الشرطة الفرنسية بوهران يوم 13 نوفمبر 1956 . وفي الوقت نفسه تمكنت الشرطة الاستعمارية من إلقاء القبض على مناضلات أخريات شكلن نواة العمل الثوري في مدينة وهران، على غرار دونيس بلا وزوليخة بقدور وجاكلين أورينغو. تروي ايفلين أنها تعرضت للتعذيب في مركز الشرطة، حيث حاولوا أن ينتزعوا منها اعترافا بمكان تواجد الحاج بن علة قائد الولاية الخامسة. فاتهمت بإثارة الفوضى، وحكم عليها بثلاث سنوات سجن، وتعرضت للتعذيب، ونقلت من سجن إلى آخر. من وهران إلى الحراش، فالسجن العسكري بمدينة ”أورليانس فيل” (الشلف) ثم عودة إلى الحراش.
وخاضت إيفلين من داخل السجون معركة أخرى من أجل تحسين أوضاع السجينات، وقالت: ”في عالم السجن، يمنح الصمت إمكانية اكتشاف الذات”. وانتقل هذا الصمت لاحقا إلى حياتها، حيث تصر على رفض الحديث عن عذاباتها خلال ثلاث سنوات فظيعة قضتها محرومة من الحرية، وفي تلك السجون الفظيعة التقت ايفلين بعدة مناضلات أصبحن بمثابة رموز حرب التحرير من جميلة بوحيرد إلى جاكلين قروج وجميلة بوعزة وآني ستاينر.
والفظيع في الأمر، كما كتبت غنية موفق خلال تقديمها للمذكرات، هو أن أفراد عائلتها قرروا مقاطعتها ”مقاطعة باردة، من غير كلام، ولا معاتبة”، مثلما كتبت في مذكراتها. ومن داخل السجن راحت تكتب شذرات من يومياتها. كتبت سرا، على كراس صغير، حرصت عليه حرصا شديدا ليظل بعيدا عن أعين حارسات السجن المتربصات بهن في أي لحظة، من طراز حارسات النظام الكولونيالي البائد.
- See more at: http://www.elkhabar.com/ar/autres/ziyara/361085.html#sthash.RjqWycrQ.dpuf
النظام الاستعماري هو قلب الحقدترددت ايفلين سفير لافاليت لسنوات طويلة قبل أن تقرر نشر محتوى ما كتبته في كراسها الثمين، على شكل مذكرات. وفي هذه الشذرات كتبت، وهي في السجن، وراحت تعبر عن شوقها وحنينها للحرية، ولفضاءات الشريعة الشاسعة، مستذكرة حياتها الماضية في المنزل العائلي بالرويبة. وأضافت لهذه المذكرات نصوصا أخرى كتبتها في التسعينيات، موضحة أنها كانت تنام لسنوات طويلة في ذاكراتها، بعد أن علّقت بها، رافضة أن تنمحي، واعتبرتها جزءا من حياتها داخل السجون. فالمسافة الزمنية تنفع أحيانا للكتابة بشكل أحسن. وبالفعل جاءت بعض نصوصها على وقع سرد مكثف، على خلاف شذرات السجن التي كتبت شعرا، للتعبير عن ”قلب الحقد” على حد تعبيرها، كعالم مخيف تروي كثير من تفاصيله الدقيقة، وعذاباته التي تدفع بالسجينات إلى حد التفكير في محاولة وضع حد لحياتهن، كسبيل للخلاص من قسوة ”البرد وهو ينخر العظام”. وتقول ايفلين في مذكراتها أن ”البرد عدو قاتل”، وتضيف ”هناك عذابات لا يمكن تحملها، لما نعجز عن إيجاد مسكنات لها وإدراكها”.
وتذكر غنية موفق، في تقديمها للمذكرات، أن بن يوسف بن خدة هو المناضل الذي لقنها أبجديات العمل الثوري، فلم يكشف لها حتى اسمه الحقيقي، كان يقول لها: ”كلما قلت معرفتك بالأمور، كلما قل كلامك”. فكانت تسميه ”جوزيف”، وكانت تجهل دور السياسي ومكانته في الثورة، ولا منصبه كعضو في لجنة التنسيق والتنفيذ. وتضيف محدثتنا: ”أطلق سراحي سنة 1959، وتعرضت لمحاولة اغتيال من قِبل منظمة ”اليد الحمراء الإرهابية”، التي شكّلها غلاة الدفاع عن الجزائر الفرنسية”. وبالفعل قام عناصر من ”اليد الحمراء” بتتبع آثارها إلى غاية باريس، وهناك كادوا يفلحون في اختطافها واغتيالها خلال نهاية سنة 1960.
في باريس تقول إنها عثرت على مجتمع فرنسي مسالم في غالبيته، يرفض منطق الحرب ويدعو إلى السلم، حتى إنها عثرت على كتابات حائطية تعود للأربعينيات تدعو إلى وقف الحرب في فيتنام.
كان مسار السيدة ايفلين ثريا ومليئا بالمغامرات والمواقف، ما حذا الصحفية غنية موفق كتبت عنها: ”لقد انتقلت ايفلين إذن إلى الجانب الآخر من الجدار. لم تعد مسيحية، ولا أوروبية، ولا مسلمة، أصبحت فقط جزائرية”. وتضيف موفق أن السلطات الاستعمارية وضعتها في خانة المجانين، لأنها قامت ”بخيانة بني جلدتها وأهلها”. وتتذكر السيدة ايفلين هذه اللحظة المأسوية من حياتها بكثير من الألم، وكتبت: ”استيقظت ذات يوم واعتقدت أنني في زنزانتي، لكن حارسة أخبرتني أنني موجودة في رواق المجانين بمستشفى مصطفى باشا”.
الشعر أنقذني من السقوط في الهاويةوتروي محدثتنا أنها تمكنت من الفكاك من مصيرها، أثناء تعرضها للتعذيب بقراءة الشعر، حيث كانت تردد قصائد ”لافونتان” و«كورنوي”، وقصائد لشعراء آخرين مكنتها من الحفاظ على إنسانيتها ”كحاجز ضد الحيوان الذي كانوا يرغبون في تحويلي إليه”، على حد تعبيرها. وتقول إن كثيرا من معارفها أصروا على سؤالها عن السبب الذي جعلها لم تكتب مذكراتها بشكل أوسع، ولماذا اكتفت بهذه الشذرات الصغيرة، وذات يوم أجابت قائلة: ”لأننا لسنا جيل ”أنا”. وفي الحقيقة هذا الجواب هو للمرحوم عبد الحميد مهري، الذي أخبرها بدوره عن سبب تردده في كتابة مذكراته باللجوء إلى الجواب نفسه. بيد أن الحسرة تملؤها كثيرا بسبب هذه التصرفات التي أوصلتها بدورها إلى لحظة الصمت المطبق لسنوات طويلة، تخللها رفض قاطع للكتابة والنشر، والعودة إلى تفاصيل الماضي وآلامه، وكأن الجميع كان يرغب في حياة مغايرة، جديدة، عبر الإصرار على النسيان.
بعد مكوثها في باريس لفترة وجيزة عقب مغادرتها السجن، انتقلت ايفلين إلى مقر جبهة التحرير الوطني بتونس، حيث استقبلها قادة الثورة بحفاوة كبيرة. وفي صيف 1962 دخلت إلى العاصمة مجددا. وجدت المدينة في هرج ومرج، الإخوة يتصارعون من أجل السلطة ضمن ما أصبح يسمى بفتنة صيف 1962، والأوروبيون يغادرون بكاء وهم يجرون أذيال الخيبة.
بعد الاستقلال عاشت حياة هادئة، رفضت الهجرة مع الأقدام السوداء، وفضّلت البقاء في الجزائر، إلى جانب الأهالي الذين ناضلت إلى جانبهم من أجل الاستقلال. حصلت على شهادة المشاركة في حرب التحرير، وأصبحت جزائرية، تعيش مع القلة القليلة من الأصدقاء الذين فضلوا الجزائر مثلها، على غرار عائلة شولي التي ربطتها بهما صداقة متينة. كما ربطتها أواصر صداقة مع عائلات جزائرية أخرى. وعلى العموم تقول إن أهل المدية استقبلوها بحفاوة كبيرة. وفي عام 1967 تزوجت من الصحفي عبد القادر سفير الذي رحل سنة 1993، ومنذ ذلك التاريخ وهي تقاسي آلام الوحدة وتعيش على وقع الذكريات. وكانت سنوات التسعينيات صعبة وقاسية عليها، لأن رفيق دربها رحل، ولكون البلاد دخلت في دوامة العنف والتطرف الأعمى. وقالت ايفلين وهي تصف تلك السنوات الصعبة والقاسية: ”كان يجب الحذر حتى من الجار”. ووصفت ما يحدث بأنه ”اقتتال بين الإخوة”. وتستعيد تفاصيل ما جرى من اغتيال عبد القادر علولة في مارس 1994، وقرار الرحيل إلى فرنسا خوفا من الموت هذه المرة، واستقرت في ”أفينيون” إلى غاية سنة 1997، لتعود مجددا إلى الجزائر، وتعود إلى المدينة، لكن ليس في ”بن شيكاو”، بل في منزل آخر، في قلب المدينة. لقد فضلت ترك ”بن شيكاو” بعد رحيل رفيق دربها وزوجها عبد القادر سفير. انشغلت خلال السنوات الأخيرة بإعداد مذكراتها، وسعدت كثيرا بصدورها عن منشورات ”البرزخ”، وسعدت أكثر بتحويل مسارها إلى جزء من تاريخ نضال الجزائر ضد الاستعمار. - See more at: http://www.elkhabar.com/ar/autres/ziyara/361085.html#sthash.RjqWycrQ.dpuf