الدولة العربية الحديثة وخطر التشظيات الداخلية
11-10-2013 د. يوسف بن يزة جامعة باتنة
تواجه الدولة العربية الحديثة عديد التحديات الداخلية والخارجية التي تجعلها على محك الاستمرارية أو الاندثار، فبعد التغيرات التي حملها النظام العالمي الجديد، وبعد انهيار المعسكر الشرقي ثم بروز العولمة بكل تجلياتها الإيديولوجية والتكنولوجية، بدأت تتجلى في أفق الدولة العربية كثير من الأخطار التي تتهدد وجودها واستقرارها، بعضها قادم من بيئتها الخارجية والبعض الآخر بفعل تشظيات داخلية تختلف حدتها من دولة إلى أخرى.
تمر كثير من الدول العربية منذ سنوات بأزمة يشتد خناقها عاما بعد عام، بعضها مهدد بالتفتت الداخلي وبعضها انداح تحت وطأة التدخل الأجنبي، والبعض الآخر مهدد بالمصيرين معا، وتبقى عدة أقطار مهددة بالتطرف الديني والطائفي والإثني، وهي جميعا تشكو من فجوة متزايدة بين المجتمع والدولة تكاد تصل إلى حد القطيعة الكاملة بين الشعوب والنخب الحاكمة.
هذه القطيعة أفضت إلى انفجار الأوضاع وتمرد الشعوب عن قياداتها في شكل ثورات شعبية لا نظير لها في تاريخ المنطقة، حيث أطاحت هذه الثورات متعدية الحدود بالأنظمة الحاكمة في كل من تونس وليبيا ومصر واليمن، وما تزال كثير من الدول تعاني من ارتدادات هذه الموجة. لقد كشفت هذه الثورات عن هشاشة تكوين الدولة العربية، ويبدو أن عدم جاهزية مجتمعاتها لمرحلة ما بعد الثورة وعدم جاهزيتها لإحلال نظم ديمقراطية محل النظم الساقطة، فتح أبوابا جديدة من الصراع على السلطة لا تقوده النخب السياسية والاجتماعية، وإنما انخرطت فيه الولاءات التقليدية والدينية بزعاماتها التي لا تتقن لغة بناء الدولة الحديثة وإنما تنتصر للموروث الذي تنبثق منه.
إن بناء الدولة الحديثة في العالم العربي لا يتوقف فقط عند الموارد المادية التي تزخر بها المنطقة ولم تستفد منها، وإنما يتطلب تكريس ثقافة الدولة في النخب والناشئة، وذلك من خلال مجموعة من العوامل التي تقود إلى تجاوز التشرذم إلى الوحدة، وتجاوز الهويات الجزئية إلى هويات أكبر كالهوية الإسلامية أو العربية أو الانخراط في منظومة العولمة بكل إكراهاتها.
فإذا كانت العولمة تهدف في فلسفتها إلى تجاوز الخصوصيات والقضاء عليها، ونشر القيم الثقافية الغربية كقيم عالمية، فإن إكراهاتها بدأت تلج العقل العربي وتعيد بصورة مختلفة اجترار وتكرار تلك الصراعات الفكرية التي عايشتها المنطقة في مهد الدولة الإسلامية، وهذا ما ولّد سباقا للانبعاث من جديد لكل الهويات الجزئية والفرعية التي أزاحتها الدولة في نسختها الوستفالية.
يتجلى هذا الانبعاث في ما تعيشه سوريا ولبنان والعراق من إعادة لإنتاج الصراع الدموي بين السّنة والشيعة، والذي عرفته المنطقة قبل أكثر من ألف سنة. وهو الصراع المقدس الذي لا يكاد ينتهي، وقد يخمد مؤقتا باستئثار كل طائفة بحدود جغرافية تفصلها عن الطائفة الأخرى، وهذا هو نتاج الفكر التجزيئي الذي أنتج الدول العربية الحالية، التي قامت وفق اتفاقية سايكس بيكو على تجزيء المجزأ وتفتيت المفتت الذي يخدم أهداف مشروع الشرق الأوسط الجديد. إن إحدى عشر دولة عربية تعيش حاليا صراعات داخلية بين تكوينات مختلفة فيما بينها من جهة وبينها وبين الدولة من جهة ثانية، منها ما هو معلن ومنها ما هو مستتر، ومنها ما هو في طور النشأة، ويتعلق الأمر بالصومال وسوريا وليبيا ولبنان والسودان واليمن وفلسطين والبحرين ومصر والكويت والسعودية، ويبدو أن هذه الصراعات آيلة إلى إعادة تشكيل خارطة العالم العربي بتفريخ وحدات جديدة، في ظل ضعف وانعدام عوامل الالتئام والتوحّد.
إن المجتمعات العربية لا تكاد تنتصر على عوامل الجذب القوية نحو الماضي والتراث، فهي تعيش حالة جمود بفعل تساوي قوة الجذب بين عوامل الانتصار للحمية والقبيلة والطائفة والفخر والتفاخر بالماضي من جهة، والاتجاه من جهة ثانية إلى التحديث في شتى المجالات، وإحلال الأساليب الحديثة لإدارة الدولة والمجتمع، فضلا عن دمقرطة الحياة السياسية واحترام حقوق الإنسان. ولذلك يمكن تحديد ثلاث مجموعات متمايزة من الأزمات التي تواجه الدولة العربية، تتمحور المجموعة الأولى- وهي الأكثر إلحاحا وخطورة- حول احتمال انهيار الدولة أو فشلها، وهي الحالة التي تنطبق على اليمن السائرة على درب الفشل، في ظل تراجع قدرة السلطة المركزية فيها على السيطرة الأمنية على أراضيها وإدارتها. ومع تنامي حضور وزيادة وزن عدد كبير من القوى اللادولتية القبلية والمذهبية التي تصارع السلطة وتتصارع مع بعضها البعض، وهذا ما يعزز الاعتقاد بأن بقاء الدولة اليمنية بكيانها الراهن أمر غير حتمي. أما السودان فقد انفصل جنوبه عن شماله، مع تواصل إدارة أزمة دارفور بطريقة غير سليمة إلى الحد الذي أضحت معه مؤسسات الدولة غير قادرة على القيام بوظيفتي الأمن وتخصيص الموارد لسكان المنطقة. ومع أن مؤسسات الدولة العراقية قد تبدو أكثر تماسكا وأقل عرضة لخطر الانهيار الآن عما كان عليه الحال في عامي 2005 و2006، إلا أنها ما زالت تعاني تصارع قوى سياسية ومجتمعية على النفوذ بداخلها وتهافتها على السيطرة عليها، انطلاقا من رؤية متناقضة للدولة ووظائفها تتقاسمها مختلف التكوينات المذهبية والعرقية.
وترتبط المجموعة الثانية بالحالات التي تنتزع فيها القوى اللادولتية بعض الأدوار والوظائف التي عادة ما تضطلع بها مؤسسات الدولة، ولا شك أن لبنان يمثل الحالة الأكثر وضوحا، فالدولة تخلت تدريجيا عن دورها في الإدارة الأمنية ومختلف الخدمات في الضاحية الجنوبية من بيروت والجزء الجنوبي من البلاد، الذي يرزح تحت حكم حزب اللّه الذي أصبح مسؤولا عن كل شيء فيه، والوضع ذاته تشهده بعض الأقاليم اليمنية، وإقليم دارفور في السودان.
أما المجموعة الثالثة فتتمثل في التفاوت المسجل في كثير من البلدان العربية، بين حداثة البنى الاجتماعية والاقتصادية من جهة، وتقليدية الأنظمة والمؤسسات التي تدير الدولة وتضطلع بوظائفها من جهة ثانية؛ ففي دول الخليج، يتغيّر المجتمع والاقتصاد بوتيرة أسرع من التغير في أنظمة ومؤسسات الحكم، ما يدفع الأخيرة إلى محاولة التكيف من خلال تأسيس ترتيبات لإدارة الطبيعة المتغيرة للمجتمع ويتجلى ذلك في قطر والكويت، بينما ينطوي النموذج السعودي والإماراتي على مفارقة المزاوجة بين الحداثة في الاقتصاد وممارسة الحكم بنمط تقليدي جدا.
مما سبق نستنتج إن إعادة هندسة المنطقة العربية على أسس عرقية وطائفية أصبح مشروعا قيد التنفيذ كانت قد بشرت به نظرية الفوضى الخلاقة ومشروع الشرق الأوسط الجديد وجسدته الثورات العربية التي فقدت بوصلتها بعد الانطلاقة المباركة، لتصبح أداة فعالة لإعادة تقسيم المنطقة إلى كانتونات عرقية وطائفية يطبع الصراع علاقاتها ببعضها البعض على الثروات الطبيعية والرموز الدينية، وبذلك يقبر مشروع الدولة الحديثة في المنطقة نهائيا.
http://www.elkhabar.com/ar/autres/mousahamat/359979.html