مالك بن نبي
ندوة إلكترونية حول مالك بن نبي والوضع الراهن
إعداد: فارس بوحجيلةمالك بن نبي أو ابن خلدون الثاني عبقرية العالم الإسلامي في القرن العشرين، من مواليد الفاتح من يناير 1905 بمدينة قسنطينة، رحل عن الدنيا عشية الأول من نوفمبر 1973، عاش حاملا هم ومشكلات المجتمعات المسلمة من طنجة إلى جاكرتا. حلل الحالة التي أصابت هذه الشعوب وجعلتها تحت وطأة الاستعمار، لخصها في مفهوم القابلية للاستعمار الذي يتضمن مجموع هذه الاستعدادات النفسية التي لازمت هذه المجتمعات بعد عصر الموحدين. مالك بن نبي آمن بالتغيير الذي لا يتحقق إلا بتوفر مجموعة من الشروط تدخل تحت عاملين أساسين: إمكانية وإرادة التغيير.
بعد مرور أكثر من خمس وثلاثين سنة عن رحيله، العديد من الأسئلة تطرح نفسها بشدة حول الأفكار التي حملها هذا المفكر:
هل فشلت أفكاره في إحداث التغيير؟ وإلى ماذا يعزى هذا الفشل؟
هل هو ناتج عن خلل في بنية الأفكار على المستوى النظري أم إلى صعوبات التجسيد؟
وهل تزال صالحة لبعث وثبة حضارية في الظروف الراهنة؟
وبمناسبة الذكرى المزدوجة لوفاته ورحيله، جاءت فكرة هذه الندوة، وقد استقبلنا المداخلات الأولى في الندوة من الأساتذة:
- الأستاذ سعيد جاب الخير: صحفي، كاتب وباحث
- الأستاذ صاد العلي: كاتب وباحث
- الأستاذ محمد عمر سعيد: أكاديمي وكاتب، عضو هيئة تحرير مواقع الشهاب للإعلام
- الأستاذ عبد الله بوفولة: كاتب وصحفي
- الأستاذ نذير طيار: أكاديمي، شاعر وكاتب
- الدكتور جمال سالمي: أكاديمي وكاتب
الأستاذ سعيد جاب الخير:
لا أتصور أن أفكار بن نبي فشلت لأني أرى أنه لم يتم تحريكها بتاتا في الساحة الجزائرية. والذي تم منذ الاستقلال وحتى اليوم، لا يعدو أن يكون نوعا من أنواع التحريك السياسي لإسلام أصولي وهابي سلفي الجذور بالمعنى الظلامي اللاعقلاني القروسطي لكلمة السلفية، هذا الإسلام كان أصحابه والداعون إليه يغطون تخلفهم بورقة الانتماء الى فكر مالك بن نبي وهم لا علاقة لهم به في الواقع إذا استثنينا شخصية أو شخصيتين من هؤلاء على أحسن تقدير.
لذلك أتصور أن مالك بن نبي كان وما يزال مجهولا تماما في الجزائر حتى من أولئك الذين ادعوا وما زالوا يدعون الانتماء اليه والى فكره، والغريب أنهم يدعون أيضا الانتماء الى خصوم مالك بن نبي من السلفيين الوهابيين الذين هاجمهم وانتقدهم في مذكراته والذين يشكلون الأغلبية الساحقة داخل الحركة العلمائية الإصلاحية هذه هي الخطوط العريضة لرؤيتي، والتعمق في ذلك يحتاج الى تفصيل.
الأستاذ صاد العلي:
أظن ان الفشل لا يمكن ان ينسب للمفكر الكبير مالك بن نبي و لنكن موضوعيين و لنجعل للندوة عنوانا مناسبا و أقترح أن يكون:” أسباب فشلنا في تقمص أفكار بن نبي”
مما لا شك فيه و مما لا نقاش حوله هو أهمية المفكر مالك بن نبي الذي درست كتبه و أفكاره في كبريات الجامعات الأمريكية كمقدمة لفهم العالم الإسلامي ومحاولة التشريح لنفسية أبناء الدول الإسلامية المستعمرة من طرف كبريات مخابر الأبحاث الاجتماعية، قد أعطى زخما إضافيا لنبوغ مفكرنا و كرس لعبقرية زهد فيها أهلها لردح من الزمن. لكن هل ما تزال أفكاره صالحة إلى يومنا و بدون تغيير ؟؟؟؟؟ هذا ما أشك فيه صراحة و هذا لا ينقص من عبقريته مطلقا لانه لا وجود للثابت الأزلي بداهة.
عندما نعود لفكر مالك بن نبي نجده فكر توفيقي واندفاعي دفاعي عن أصالة الفكرة الإسلاماوية كنتاج بشري قابل للقياس وفق المدرسة الغربية البراغماتية. و فكر بن نبي يعتبر تحولا في النظر لما هو أصلي من حيث تأصله وتجذره في الحقيقة الأولى للفكرة الناشئة لا كموروث تراكمي لترسبات التقمص المصلحي المتعاقب والتفسيرات الخاصة (المذهبية أو السياسية) للفكرة الإسلامية ومن هنا نلاحظ الانجذاب الواضح لمالك بن نبي نحو ابن تيمية وللمدرسة الوهابية الصاعدة آن ذاك كباعث للتجذر (عكس ما ذهب إليه الأستاذ جاب الخير) والصعود نحو الفكرة الأصيلة بعيدا عن القراءات المتولدة عن الخبرات السياسية والاجتماعية التى غالبا ما تعمل على المقايضة والتوائم مع ما هو سائد، في محاولة توفيقية مهادنة. ولعل أهم المعوقات التي واجهت فكر مالك بن نبي مردها لعوامل موضوعية ولو بصورة غير مرتبة لما يلي:
1. الوضع الاستعماري للجزائر،
2. حالة الركود المزمن للنخب المثقفة في البلد– متفرنسين مستلبين حسب تعبيره- ومعربين مخدرين فكريا حسب رأيه،
3. طبيعة تكوين الأستاذ بن نبي الغير نمطية والمتحررة من الإطار الأكاديمي (لم يقبل في السربون و هو يعزو ذلك لحقد ماسنيون عليه لكن ليس هناك أي دليل على ذلك و أنا شخصيا أرجح أن سبب الرفض كان يرتكز على غياب المؤهل العلمي فمالك لم يدخل الثانوية أبدا بل تكون في مدرسة عدلية، تكوينها الأساسي لا يخوله مبدئيا لدراسة جامعية في السربون…..)،
4. غياب المكافئ الفكري القادر على الحراك و الملاقحة، وغياب النقد فمالك بين مغال مبالغ في التقديس وبين حاقد مبالغ في التحقير،
5. الطبيعة الانطوائية و الميل للعزلة المتجذرة في شخصية مالك بن نبي،
6. الاستقطاب الغير مبرر – و المصحوب بالتخوين و النبذ- بين تيارات الحركة الوطنية: الإصلاحيين، المحافظين، والعلمانيين بشقيهم اللبرالي الكولونيالي التوجه والشيوعي الفكر الفرنسي المشرب،
7. الجنوح للعمل النظري التأملي الاستقرائي فبن نبي لم يكن رجل قيادي بالمفهوم الكارزماتي بل كان رجل حكمة وتبصر،
9. غياب الاحتكاك بالفعاليات الفكرية الناشطة على مستوى الحركة الوطنية. وهذا يعود لحالة الاستنفار والاستعداء وفي جانب كبير لطبيعة بن نبي الحدية في الحكم على خصومه الفكريين و خصومه السياسيين فمالك بن نبي لم ينخرط في العمل الإصلاحي (لجمعية العلماء) رغم إعجابه ببن باديس و العقبي في مرحلة ما من حياته وهو يكيل للإصلاحيين النقد اللاذع و كذلك قربه الغامض من السيد مصالي الحاج في مرحلة ما من حياته وهو بدوره لم يسلم من النقد والتجريح وكذلك العمودي وفرحات عباس ومفدي زكريا ….الخ، فهو غالبا ما يصدر احكام تجعله غير مرغوب فيه فمثلا في مذكراته يصف بعض من نعتبره اليوم من رموز الثورة والكثير ممن تحمل شوارعنا أسماءهم بالخونة والعمالة والتأمر عليه شخصيا مع ماسنيون. كما تجدر الإشارة للتشويه المقصود لفكره وكتبه كما أن خصومه السياسيين كانوا يتوجسون منه فمصطفى لشرف يصف مالك بن نبي بالفاشي والنازي في مؤلفه الشهير ” أعلام و معالم”،
10. النظرة الأخلاقية الموغلة في الطوباوية المتعالية عن شوائب المراس السياسي المنبثق عن الفكر الإصلاحي والاندماجي وهذا راجع لكون المفكر بن نبي كان يتصرف وكأنه يخاطب مدارك أناس ناضجين في حين كانت الحركة الفكرية الوطنية بل و العربية غير قادرة على إستعاب الجرعة الزائدة من العقلانية والتبصر الموضوعي الناقد والحاد في نقده بينما كانت الأولوية عند جل المتثيقفين من خصومه تتركز حول الجلاء العسكري.
11. الإغتراب اللغوي الطوعي لان مالك أراد أن يفرض نفسه كمفكر و كفيلسوف بلغة المستعمر الذي كان يقظا لنوعية فكره و متوجسا من توجهاته السلفية بينما حُرم المعربون ذوو التوجه الإصلاحي من التعمق في تأملاته نظرا لاستعصاء اللغة وهم في أغلبهم من خريجي الزيتونة أو الأزهر ثم إزدادت غربته عندما علبت أفكاره من طرف الوصي عليها السيد الشامي المعروف فصارت افكاره تشبه السلع المستوردة من المشرق ….
12. الغياب التام للاستمرارية الفكرية فمالك بن نبي لم يخلف وريثا بالمفهوم الفكري العام ولم تقم معاهد تتابع إنتاجه
13. الهاجس الأمني او الهلوسة “بالمخبر” فهي كانت عائق كبير وشكلت عثرة أظنها نفسية أبعدت الأستاذ عن الحراك الفكري الدائر في الوطن،
14. ولعل أهم عامل في نظري هو غياب الشروط الموضوعية للبيئة المواتية لتجربة أفكاره في الجزائر،
الأستاذ محمد عمر سعيد:
هل فشلت أفكار المفكر الراحل في إحداث التغيير؟
ما المقصود بالفشل؟ هل هو عجز في الأفكار في حد ذاتها؟ أم هو عجز من حمل الأفكار عنه؟ ذلك أن الأفكار ترتبط بظرف الإنسان كأفكار واردة في الفترة التي عايشها بن نبي، ولا أعتقد أن ذلك حصل، فمالك بن نبي كان همه الأساسي نظريا، ولا أدل على ذلك أنه جعل من “الفكرة” مدارا رئيسيا لإنتاجاته، ومن ثم فلا نستطيع الحكم بفشل الفكرة البنبوية ذلك أنها اعتمدت فلسفة تصدر عنها ولم تكن صادرة عن مجرّد الخواطر بل كانت “مكابدة” والمكابدة تعني معانقة الواقع بكل آلامه معية معانقة المعاني الدينية في عمقها كذلك.
وإلى ماذا يعزى هذا الفشل؟
لا مجال هنا للحديث عن فشل، اللهم إلا إذا كان فشل التلاميذ في الإسراع بتحريك دواليب الفكر الناشئ، وأقول الفكر الناشئ تجاوزا وبن نبي في فكره لم يكن بدعا من المسار الفكري الناشئ مذ بدأت الفكرة الإسلامية في الأفول في الزمن الغابر، مالك اعبتر المقدمة الخلدونية درة ثمينة، وهي حقا كذلك، فقد كان مالك منبها ومعيدا الفكر الإسلامي إلى أصوله الصحيحة لا المحرفة، والمواصلة مستمرة لكن ليس على يد التلاميذ التاريخيين ولكن منبثق عن روح مالك نبي في الإنتاج والإبداع النظري المتواصل لكشف الداء والوصول إلى أعماقه. فكر مالك يعمل ويشتغل باستمرار حيث نعيش في زمننا هذا، والأصل في كل هذا تحديد البوصلة.
هل هو ناتج عن خلل في بنية الأفكار على المستوى النظري أم إلى صعوبات التجسيد؟
ذكرت أن الخلل غير موجود في بنية الأفكار ولكنه موجود في بنية الفكر المتلقي لفكر بن نبي حيث لا يستلهمها كما جاءت وإنما يلوي عنقها لذاته، والأمر راجع للتخلي عن المكابدة بشقيها المذكورين آنفا.
هل تزال أفكاره صالحة لبعث وثبة حضارية في الظروف الراهنة؟
لا نتحدث هنا عن صلاحية وإنما عن استمرار ليس لفكر بن نبي كما تقدّم ولكنه استيعاب لمستوى العصر ومستوى الإسلام، بن نبي لم يكن إلا مجتهدا، ومرجعيته تنتهي في كونه الإنسان الأقرب إلينا الذي قرب إلينا روح العصر وقربنا من روح الإسلام.
الأستاذ عبد الله بوفولة :
أعتقد ان الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله واحد من أعظم وأهم مفكري الإسلام في الأزمنة الأخيرة ولم يكتشف في حينه فالرجل أتى وظهر منذ الخمسينات في المنطقة العربية وكانت أغلب بلدانها تعيش تحت قهر الاستعمار… مما ساهم بفعل هذا الاستعمار طبعا في طمسه والمساهمة الكبيرة في التقليل من أهميته واهتمام الناس به وتأجيل التفطن والانتباه اليه الى غاية الستينات والسبعينات. ولسنا هنا بصدد الخوض قي العوامل التي ساعدت على ذلك ومنها بدء ظهور النهضة او الصحوة ومحاولة البحث عن الأداة الفكرية التي تساعد على فهم الواقع وتحليله تحسبا لملامح مشروع المستقبل. والرجل أي مالك على عادة العظماء الذين لا تعرف قيمتهم وأهميتهم إلا بعد ذهابهم إلى الدار الأخرى قد اثار جدلا ونقاشا حيا وميتا ولكن الذي لا نشك فيه أن” الأستاذ” هكذا يتأدب معه اتباعه ومريدوه وتلامذته وقد مكنتنا الظروف لأن نقترب كثيرا من بعضهم كامثال المرحوم محمد السعيد والدكتور بوجلخة والأستاذ الدكتور رشيد بن عيسى والدكتور احمد بن محمد وبوكروح وحمي وابراهيمي و الاستاذ الكريم مختار عنيبة والكثير ممن لا يجب أن نذكرهم هنا… فاصابنا العجب من التكوين الثقافي والروحي والتضحية في سبيل الفكرة والهم الإسلامي المتواصل والإ خلاص والوفاء للاستاذ … لماذا؟ لأن الرجل لا يزال يحتفظ بمكانة هامة كمفكر إسلامي اصيل.عرف في تعليمه الكتاب أي المدرسة التقليدية والمدارس الحكومية ثم فتح عينيه في اجواء تحتدم بالصراع الفكري بين انصار الأصالة وأنصار “فرنسا” ودرس “هندسة الكهرباء” ولا يخفى ما لهذا التكوين العلمي من فائدة في تكوينه عقله النقدي والتحليلي ومارس نشاطا سياسيا وثقافيا في أوساط الطلبة والعمال أثناء تواجده في فرنسا التي عرف من خلال إقامته فيها على شخصيات كثيرة من المشرق ومن غير المشرق كما اطلع على تيارات الفكر والسياسة في المشرق وغير المشرق كما عرف دول المشرق واقام فيها كمصر وسوريا ولبنان وغيرها من البلدان… تصور أنه خلال أحد رحلاتنا الى الكويت وجدنا من يعرفه ويحترمه ووجدنا الكثير من المعجبين به… وإن كان من قول نقوله في الرجل على مسؤوليتنا فإننا نقول أن له مشروعا نستطيع القول “مشروع مالك الإصلاحي” له ملامح يمكن تتبعها كالآتي:
- مشروعه الإصلاحي ينطلق من دراسة واعية نقدية للماضي وفهم منتجاته والاتجاه للمستقبل في إطار الكتاب والسنة وسلوك السلف الصالح مع تجديد آليات التطور الاجتماعي
- نجاح أي حركة ثورية مرهون بخلق الثورة في ذات الإنسان …
- للثقافة دور اساس ورئيس في تكوين الفرد وبناء شخصيته.
- من الثقافة الى التربية وبحل مشكل التربية نحل المشكل الثقافي ونصل في نهاية المطاف إلى إنسان غير مزدوج.
ولا ننسى أن مشروع مالك الإصلاحي خص الاقتصاد بنصيبه فهو يرى ضرورة التمسك باستقلالية الفهم الإسلامي الاقتصادي والتركيز على الإنسان كراس مال اساسي ثم فكرة المساواة وضرورة تنشيط القطاع الزراعي وتقنين الصرف وعدم تبذير وهدر رؤوس الأموال في شراء المنتجات الاستهلاكية . كما يحدث اليوم ، ولا ننسى أفكاره في بناء المجتمعات ونظريته في الحضارة وكيف فهم هذا المفكر أزمة المجتمعات الإسلامية بعد الاستقلال حيث لم تستطع النهوض بفعالية حضارية مطلوبة… واخيرا فالرجل عاش في الغرب ولن يفهم الغرب إلا من عاش فيه وفهمه من الداخل وكمفكر استفاد مما هو إيجابي هناك وهذا ليس عيبا فالهضم ليس سهلا هلى كل من هب وذب بقدر ما هو سهل على الأمخاخ الكبيرة.
الأستاذ نذير طيار :
أبدأ مداخلتي بالسؤال الآتي: لماذا كان ابن نبي ولا يزال مجهولا في بني قومه؟؟
هل لأن مزمار الحي لا يطرب، وفي الإنجيل”لا كرامة لنبي بين قومه”، وفي القرآن الكريم: «كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون. أتواصوا به بل هم طاغون[1]»؟ على حد تعبير أحد تلاميذ مالك المشارقة د. خالص الجلبي.
لا أعتقد ذلك، فقد تعرَّض شاهد القرن لتهميش مقصود، انطلق من فهم خاطئ وسطحي لبعض أفكاره كـ”القابلية للاستدمار”[2] تارة، ومن حرب مفتوحة مقصودة تارة أخرى، سببها معاداة كل ما هو فعَّال وإيجابي وبنَّاء وعميق واستيراتيجي وجوهري، أي حضاري بتعبير مالك بن نبي نفسه.
لن نوزَّع الاتهامات جزافا، فالأدلة الواقعية موجودة والوثائق المكتوبة متوفرة[3].
ومن الأعاجيب أن المغرب هو البلد الوحيد الذي أقام تأبينية لمالك بن نبي[4].
إن كتابات مالك بن نبي تشكل إجابة حقيقية لسؤال الحداثة بكل أشكاله وألوانه، وما يحز في النفس أن كثيرا من النقاشات الجزائرية التي تطرق سؤال النهضة، تجري على هامش الأفكار المدهشة لهذا المفكِّر العظيم. حتى قال مفكر سوري[5] :« مالك بن نبي مفكر جزائري ولكن أقل الناس استفادة منه الجزائريون» في إشارة إلى العشرية الدموية التي عاشتها البلاد خلال المأساة الوطنية.
ويروي الدكتور عبد الرزاق قسوم قصة وقعت له ذات دلالة كبيرة، فخلال مناقشته لنيل شهادة الدكتوراه بفرنسا، تحدث عن مالك بن نبي ونظريته في الحضارة، فجاءه أحد الباحثين المهتمين يسأله عن عنوانه مالك بن نبي حتى يقيم معه صلات فكرية ويستفيد منه، فلما أخبره بأنه توفي تنهد تنهيدة عميقة وقال متأسفا: “كل الطيبين ذهبوا”[6].
لقد كان ابن نبي مفكِّرا مؤمنا، وثيق الصلة بالله، كما سنرى لاحقا، ولكن هذا لم يشكل عائقا منهجيا أمام توغله في تحليل مشكلات العالم الإسلامي تحليلا علميا دقيقا. لن نحلَّ مشكلتنا الحضارية، بمحاربة قيمنا الثقافية أو بالاعتماد عليها وحدها، فالصلاة قيمة عبادية روحية مهمة في أي حركة فاعلة لنا، ولكنها ليست هي التي ستحل مشكلات التنمية عندنا. علينا استيعاب معادلات الواقع وفهم مفردات التنمية لتحقيق التقدم المنشود.
خلال الملتقى الدولي الأول حول فكر مالك بن نبي، الذي عقده المجلس الإسلامي الأعلى أيام 18، 19، 20 من أكتوبر 2003 اعترف المحاضرون القادمون من ماليزيا بدور أفكار مالك بن نبي في تحقيق ازدهار هذا النمر الأسيوي، فقد استوعبتها النخبة هناك وسعت إلى تجسيدها قدر الإمكان. ويقول محمد نور منوطي مدير معهد إسلامي في ماليزيا :«سمع محاضير محمد رئيس الوزراء بمالك بن نبي وبأفكاره عن طريق أنور إبراهيم، فأمر بنشر فكره باللغة الانجليزية»[7]. ويقول د.عثمان شهاب (أندونيسي مقيم بماليزيا) :« الآن في ماليزيا، في جامعة “مالايا”، يعتبر مالك بن نبي من أهم المراجع الدراسية وخاصة في مادة الفكر الإسلامي المعاصر»[8].
إن السبب السياسي لا يكفي وحده، لتفسير هذا الجهل المطبق بأفكار هذا الرجل. فهناك أفكار لا قيمة لها، انتشرت بسرعة البرق بين الشباب، تطبيقا لقانون ڤريشام :« العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة». الأفكار العظيمة، التي تبني النهضة وتؤسس للحضارة، هي بطبعها أفكار فلسفية عميقة، تستعصي على فهم أصحاب الثقافات المحدودة. وقد اعترف جميع الباحثين، الذين قرأوا مالك بن نبي لأول مرة، باكتشافهم لمفكر من طراز فريد جدا، فكيف هو حال الإنسان العادي، يقول الباحث السوري زكي الميلاد :
«وجدته مفكرا لا يكرر نفسه في الآخرين بالطريقة التي نلاحظها بين غيره من المفكرين….وبعد فترة قصيرة… اكتشفت أن ليس من السهولة التعامل مع مؤلفات ابن نبي كغيرها من المؤلفات الأخرى، وأنها بحاجة إلى مزيد من الانتباه والتركيز لهضمها واستيعابها، وتعميق المعرفة بها، لأنها كتبت بطريقة الأدب الصعب. الأمر الذي تطلَّب مني مضاعفة الجهد والتركيز، بدل أن يكون منفراً وممانعاً من التواصل والاستمرار كما حصل عند البعض، خصوصاً الذين يتعاملون مع المطالعة بمنطق الهواية أو التسلية، أو الذين يبحثون عن السهولة والبساطة»[9].
والشهادة نفسها تقريبا نجدها لجودت سعيد (باحث سوري) أحد التلاميذ النجباء لمالك بن نبي في حوارات عدة مع صحف جزائرية، سيَّما حوار مطوَّل أجراه معه مؤلِّف هذا الكتاب سنة 1991[10].
ويقول الدكتور خالص الجلبي (سوريا) «شهد عام 1905م ولادة ثلاث عبقريات:
ـ فأما الأولى فكانت في الفيزياء النووية دشنها (آينشتاين) في نظرية النسبية الخاصة.
ـ وأما الثانية فكانت في الفلسفة، فشهدت ولادة فيلسوف الوجودية (سارتر) الذي كتب حتى عمي، وكان من أغزر من كتب.
ـ والثالثة كانت في علم الاجتماع الذي جدد سيرة ابن خلدون، وجاءت من مهندس كهربائي، من خارج حقل علم الاجتماع كما هو دأب المبدعين، وكانت من جزائري هو المفكر (مالك بن نبي)، كما كان الحال مع ابن خلدون[11] من تونس.»[12]
يقول الأستاذ الطيب برغوث (الجزائر):«مالك بن نبي ظاهرة استثنائية في تاريخنا المعاصر، بتمكنه من تجاوز طوق الاستلاب التراثي والحضاري معا. وخط طريق ثالث في الفكر والسلوك، هو طريق الأصالة الإسلامية المعاصرة…وقد شرعت في إنجاز بحث عن عبقرية التجاوز عند مالك بن نبي أو صدقية وأبعاد وخلفيات هذا التجاوز في فكره، على مستوى المنهج والأفكار والتمثل…»[13].
ويتذكَّر العبد الضعيف، أول احتكاك له بمالك بن نبي في بداية المرحلة الدراسية الثانوية. فقد كان أخي الأكبر سليمان مسحورا بفكر الرجل، يحدثنا عنه دائما، ولكن التيار لم يكن يمر بيننا، بسبب ما بدا لنا حينها أفكارا معقدة تتجاوز قدرات استيعابنا الفكرية. وفي أحد الأيام جلب أخي الهادي (الذي يكبرني بأربع سنوات) كتاب”الديمقراطية في الإسلام”، ولأني وجدت في عنوانه، كلمة إسلام، قررت قراءته. لكني عدلت عن فكرتي منذ الصفحات الأولى، لأنني بحثت عن آيات وأحاديث فلم أجدها؟؟؟. وكان ذاك موقفا طبيعيا، في مرحلة شبابية تتحرك في وسط محكوم بثقافة إسلامية تراثية جاهزة، بعيدة عن التحليل الفكري العميق.
إنني أعتقد جازما، أن مالك بن نبي لم ينل بعد، نصيبا كافيا من الدراسة النافذة إلى عمق أفكاره.
والدراسات المقارنة قد تكون أفضل سبيل إلى بيان قيمة إبداعه الحضاري، وتحديد موقعه من خارطة إنتاج الأفكار على مستوى العالم.
لماذا تتملك الدهشة كل من يقرأ مالك بن نبي لأول مرة؟؟؟
علينا الوقوف طويلا، أمام كل جملة بدأها مالك بن نبي في مذكراته بقوله : ” أنا مدين لـ”، وهو لم يستعملها كثيرا.
مهما كانت دقة الترجمة إلى العربية، على الباحث أن يضع أمام عينيه الأصل الفرنسي لمذكرات شاهد القرن، الجزء الأول: الطفل[14]. وهي فرصة لتصحيح بعض أخطاء الترجمة.
________________________________________
[1] سورة الذاريات الآيتان 52، 53.
[2] أنظر مداخلتنا لاحقا.
[3] أنظر مداخلتنا لاحقا.
[4] أسبوعية رسالة الأطلس (الجزائرية) ص12. عدد 472. 26 أكتوبر 2003.
[5] د. خالص الجلبي. ولادة العبقريات، عن موقع مالك بن نبي على الرابط: http://www.binnabi.net/?p=302
[6]أسبوعية الهلال. ص9. عدد9. 01/11/1994.
[7] المصدر السابق ص07.
[8] المصدر السابق ص07.
[9]زكي الميلاد. أطوار المعرفة والتثاقف مع مالك بن نبي. جريدة الغد (الأردنية) 15 /10 / 2005م.
[10] أنظر كتابنا شاهد القرن من سقوط أم الحواضر إلى علم سقوط الحضارات . (تحت الطبع)
[11] كتب الجزء الأول من المقدمة بقرية بني سلامة في تيارت (الجزائر).
[12] من موقع مالك بن نبي على الرابط: http://www.binnabi.net/?p=302
[13] أسبوعية الهلال. ص8. عدد9. 01/11/1994.
[14] Mémoires d’un témoin du siècle. المؤسسة الوطنية للكتاب.الجزائر. الطبعة الثانية.1990
الدكتور جمال سالمي:
لم يكن مالك بن نبي نبي العرب والمسلمين، بل كان مجرد فقيه للحضارة التي لم تمت بانحطاط أعراب القرن العشرين، ولن تموت إلا يوم قيامة الوعي بالوحي الرباني السليم..
أولا لم ولن تفشل أفكار المفكر الراحل في إحداث التغيي، لقد فشل أعراب الجزائر وبقية المتمسلمين في التقاط أشعة وأنوار هذه الأفكار العبقرية النيرة والمنيرة.. ولكن للفكرة انتقام.. فقد شاءت عناية الرحمن أن يرتمي قادة العرب والمسلمين في أحضان الشيوعية المهزومة ثم الرأسمالية المأزومة، دون الرجوع الحقيقي المريح إلى عزة حراء وإسلام التفوق والنجاح المادي والمعنوي الأكيد..
ثانيا يعزى فشل تفاعل قادة العرب والمسلمين مع أفكار وآراء ونظريات عملاق الفكر الحضاري الإسلامي الإيجابي، الهادف أساسا إلى تحقيق الوعي الجماهيري الجمعي المستنير، إلى خلل في أدمغة الزعماء والقادة والمسيرين، بما فيهم بعض وليس كل، كما يقول صديقي سعيد جاب الخير، رؤساء ومفكري الحكات التي تقول عن نفسها بأنها إسلامية..
ثالثا صعوبات التجسيد أهم عوائق تطبيق رؤى بن نبي الخلاقة في جميع الميادين، فقد تبين أنه ما يزال يسبق عصره وعصرنا أيضا.. وما تزال التربة غير خصبة لالتقاط هذه الأفكار وزرعها بمهارة، خلافا للتربة الماليزية والإيرانية..
رابعا وأخيرا لا تزال أفكاره صالحة لبعث وثبة حضارية في الظروف الراهنة إذا وإذا فقط بلغة الرياضيات تم بناء عقول عربية إسلامية واعية، وتطهير قلوب خواص المسلمين قبل عوامهم من الأحقاد والضغائن والخلفيات المسبقة..
الأستاذ صاد العلي:
هل نحن بحاجة ملحة للاستنجاد بفكر مالك بن نبي علّنا نجد الحلول لمشكلاتنا الراهنة؟ وماهي البدائل لما هو موجود من فكر مالك بن نبي؟
أعيب اساسا على بن نبي كونه ابتعد عن جعل نفسه “سياسيا” تحديدا و هذا في رأي عامل مهم من عوامل فشل مشروعه التنويري النقدي الحثي لان الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن… .
أما عن اصرارك على جعل الانطلاقة الحضارية للأمة واجبة من افكار بن نبي فهذا يتطلب الكثير من العمل في الاتجاه التالي حسب ما اعتقد:
1. العمل النقدي لأفكار مضى على إنتاجها اكثر من 1/2 قرن فهي و ان لم تصبع غير صالحة بالكلية فهي على الاقل تحتاج الى التمحيص،
2. معظم افكار بن نبي لم تعد سوي مستندات فكرية للتدليل على المعرفة و الإلمام بالفكر الحضاري و مشكلاته عند الكثير من المنتسبين لفكره دون الرضوخ لمنطلقاته الفكرية الثابتة،
3. يجب علينا و نحن ندعي توارث المنهج “البنناباوي” ان نعمل على ترقية مداركنا خارج بوتقة بن نبي و ان نقوم بعمل اركيولوجي اي بالتنقيب في طبقات العلماء و المفكرين ثم مماحكة افكار بن نبي و توضيفها في صياغة جديدة للمعطى الكوني الجديد،
4. علينا ان ننزع عن بن نبي البعد “الإسلاماوي” السياسي فهو لم يكن إسلاماويا أبدا بل كان مسلما كما أاكد على إسلاميتنا كمجتمع حكاما و محكوميين،
5. علينا ان نستخلص اهم فكرة من افكار بن نبي و هي عدم القصور الفكري و البحث المتواصل عن الحقائق الكبرى حتى عند أعدائنا،
6. الإنخراط في مشاكل المجتمع و الإنغماس في شتى مجالات العراك الحضاري فالمتغير الجيو سياسي و الجيو إقتصادي قد قلب الكثير من المفاهيم فالعالم متجه لحضارة لم يعد معها عنصر التراب مهما لان المادة الرمادية صارت اهم من الثروات الطبيعية هذا مجرد مثال كما ان المعلوماتية و الأنترنت قلبت موازين التثاقف و علينا ان نعيد صياغة مكونات الحضارة و شروط النهضة و علينا إعادة النظر في الظاهرة القرآنية كما يجب العودة الى الفكرة الإفريقية الأسياوية بالنقد ….والرجوع الى معوقات النهضة بدل مشكلات الحضارة ……الخ.
تعقيب الأستاذ محمد عمر سعيد: محاولة في التأسيس النظري لفكر بن نبي من جديد
من خلال المداخلات المقدّمة أرى أنه من المفيد محاولة التأسيس النظري لفكر بن نبي من جديد، وبيان مركزه ضمن مسار الفكر النهضوي المسلم عموما.
فأولا بن نبي ـ وكما ذكرت في مداخلتي ـ يبقى جزءا من مسار الإصلاح الإسلامي الشامل منذ أن آلت الحضارة الإسلامية إلى الأفول، وأعني بهذا التحديد الزمني أن مساق الإصلاح بدأ قبل السقوط الفعلي للحضارة الإسلامية، ذلك أن الفقه الحضاري يقتضي تحسس الشروط الروحية والنفسية الاجتماعية لجمود الحيوية الحضارية، التي مبدأها الروح ومؤشر أفولها العقل وتبقى الغريزة التحقق الفعلي للسقوط؛ والمقصود من هذا أن مبدأ الأمر ومنتهاه هو مدى الحركية الفكرية ذاتها، هل هي مستندة إلى الروح أم العقل أم الغريزة؟
فانتظار التحقق الفعلي لأفكار بن نبي في الواقع يعد في مرتبة انتظار التحقق الفعلي للغول والعنقاء و الودود التي ليس لها وجود كما في المثل العربي العتيق، وأستسمح إخوتي الأساتذة للقول بأن الحديث عن تحقق مشروع مشكلات الحضارة على المستوى السياسي وتبنيه من قبل الأنظمة قول يدل على مدى الترهل الفكري الذي أصاب النخبة المفكرة عندنا من ذرية وغياب النظرة الشمولية، مالك بن نبي لم يكن يسعى وهو في مرحلته التاريخية إلى تقديم بديل عن الاشتراكية والرأسمالية، وأجزم أنه لم يحلم بذلك ولو حلما، هدف بن نبي في مرحلته التاريخية ومن خلال ما كتب كان البدء في البلورة التأسيسية لأزمة الإنسان المسلم الوجودية في قالب “كلّي” منه يستطيع قارئه أن يضع نفسه في المجال التاريخي الصحيح ومن ثم إدراك دوره. فمالك بن نبي كان تاريخيا جدا فيما قدمه من أفكار، ولم يحاول تجاوز زمنه قيد أنمله. وهنا تحديدا تكمن ميزته الرئيسية. كيف ذلك؟
حارب بن نبي التصور الذي لا ينفي إمكانية أن ينام الإنسان في بلد متخلف ويستيقظ ليجد نفسه في زمن حضاري جديد، أي في بلد متقدم، ووصف بن نبي النظرة هذه بأنها أكبر العوائق التي تعطل الجهود في سبيل التطلع إلى غد أفضل، مالك بن نبي يحلم ربما بأن كتاباته ستخلف في المستقبل أجيالا تبقي أفكاره على المستوى النظري حتى تضمن لها النضج، وهو الذي اعتبر أن للفكرة حياة، وهذا التصرف يوحي بأن الفكرة الفتية التي نريد لها أن تنزل إلى الواقع إنما ستوأد بفعل هذا الإجهاض الذي سنمارسه عليها. من خلال محاولة إسقاطها على الواقع. وأسأل للإثبات: هل قيل أو يقال بأن الفكر الديكارتي أو الكانطي قد تم إسقاطه وتطبيقه على الواقع؟
الآن كيف نضع أنفسنا قبالة أفكاره؟
المؤسف أن الغالبية الساحقة باتت ترى أن الأمر يكمن في “إسقاط” أفكاره على أرض الواقع! ثم ما معنى الكلام عن أن ماليزيا قد تم ما تم لها من التطور بتبنيها لأفكار بن بني، لا شك أن الأمر يتعلق بتبن أيديولوجي لأفكاره من قبل مهاتير محمد مثلا أو عدد من الساسة وحينها لا نقول بأن الفكر البنبوي قد طبق إلا من باب كونه محظوظا، حيث استطاعت أفكار بن نبي أن تقنع رجالا فاعلين في السياسة ومن ثم يحاولون التأسيس لسياسة تنتهل من روح هذا الفكر، على أنه لا يمكننا القول بأن ما حققته ماليزيا من تطور بالمقارنة إلى باقي الدول الإسلامية قد كان كله بفضل رجل واحد أو حتى برجال كثيرين، على أن ماليزيا تبقى دائما في عداد العالم الثالث بشهادة أحد الباحثين من زوارها الذي لاحظ الاختلاف النفسي بين إنسان ماليزي وآخر صيني يعيشان في ماليزيا معا (وذلك في مسألة ضبط المواعيد) خاصة إذا ذكرنا أن مشروع بن نبي كان الهدف الأساسي منه تغيير البنية النفسية للإنسان المسلم نحو الأفضل و هذا ما لم يحدث في ماليزيا حسب شهادة صديقنا الباحث، ومن ثم فالفرق شاسع بين أن نتحدث عن فكر بن نبي أو عن أيديولوجيا بنبوية.
فالسننية في التفكير تقتضي أن يكون الفكر طبيعةً وشريعةً متساوقا مع النمط التاريخي، مهمة المفكر أن يتماهى مع الزمن الطبيعي بالشريعة، وتحقق التماهي هو التحقق الفعلي لوظيفة الاستخلاف، ومن ثم لم يكن المفكر ليرجو إلا التماهي مع الظرف، والتماهي هنا بمعنى الفهم والوعي بالزمن وطبيعيته ومن ثم طبيعة الإسلام وفق ذلك العصر، أعني التعرف إلى روح الإسلام من خلال روح العصر ذاته وهذه الوحدة الفكرية بين الطبيعي والشريعي هو لب المطلوب من المفكر في أية لحظة تاريخية وقيمة الفكرة من ثم تتحدد بمدى وثاقة صلتها بالعصر.
وأما المهمة التغييرية للأفكار فهي مهمة تالية لتحقق التماهي المفترض، على أن شرط التماهي المفترض هو أن الأداء الفكري وجب أن يحصل بالتفكر بما هو تعبد شخصي، وما يحصل بعد ذلك من تواصل المفكر مع العالم الخارجي يعد فعلا تغييرا ما دام قد حصّل ما حصّل نتيجة التعبد وليس نتيجة تحصيل مجرّد عن الهم الإنساني الوجودي.
يقص علينا كولن ولسن في اللامنتمي حكاية أبلغ من أي مقال وفيها أن صانع عجلات دخل على دوق فوجده يقرأ، فسأله صانع العجلات عن ماذا يفعل فقال له الدوق اقرأ حِكَم العلماء وفوائدهم، فرد عليه صانع العجلات بأنها نفايات العلماء وثفلهم، فاستفسر الدوق غاضبا عن هذا القول، فرد عليه صانع العجلات المسن: قد بقيت أعلم ابني سر صناعة العجلات عشرين عاما فلم أستطع تعليمه لذلك أنت ترى بأني قد بلغت الخامسة والسبعين ومازلت أصنع العجلات؛ وأعتقد أن معنى الحكاية أبلغ من يتم التعليق عليه، لكن عندما نربطه بموضوعنا نقول أن بن نبي لم يضع في كتبه سوى ما يرمز ويهدي إلى سبيل ومنهج الوصول إلى الحقيقة، حقيقة القابلية للاستعمار بوصفها المفهوم المحوري في كل ما كتب.
فليس الشرط إذن أن نكون بنبويين حتى نتحدث عن تطبيق مشروع نهضوي، على أن المشروع النهضوي ليس مشروعا سياسيا ولا حتى مشروع اجتماعي ولكنه مشروع فكري غير منته، بل أقول أن بلوغنا مرحلة الايمان بأن ليس لمشروع بن نبي تطبيق شكلي معين في الواقع هو البداية الحقيقية لفكر ابن نبي، لأننا حينها سنتوقف على الاعتماد على “الآخرين” لتحقيق فكر مالك ونؤمن بأن لا أحد سوانا يمكن أن يكون في خدمة فكره. فينتهي التواكل وتزول المشكلة الأكبر من الأنفس بعد أن تزول من الأذهان.
والله أعلم
فاتحة:
أشكر وأحيي الإخوة الذين ساهموا بمداخلاتهم في إثراء محور الندوة وفتحهم لهذا النقاش الجاد والمثمر بإذن الله. أهم ما أسجله هو اتفاق الجميع على الرغم من اختلاف طروحاتهم وتوجهاتهم حول أهمية أفكار الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله في بعث وثبة حضارية في ظل الوضع الراهن للشعوب الاسلامية والمجتمع الجزائري تحديدا.
شكر موصول للأخت الفاضلة جميلة طلباوي من هيئة تحرير المجلة الالكترونية أصوات الشمال على مساهمتها القيمة في إخراج هذه الندوة.
أرجوا من الإخوة المهتمين التفاعل من أجل تثمين محور الندوة والخروج بتصورات تساهم في إرساء منطلقات نهضتنا الحضارية.
http://montada.echoroukonline.com/showthread.php?t=145983