سعد الله رجل أمة فرطت ولم يفرط بها
الكاتب سهيل إدريس
عرفت الأستاذ الدكتور أبا القاسم سعد الله في سبعينيات القرن الماضي وكتبت عنه في المجاهد الأسبوعي، وكنت حريصا على أن أستمع إلى كل كلمة يقولها في محاضرة أو ندوة، وأن أقرأ كل كلمة ينشرها في مجلة أو كتاب، ولا أحب أن يفوتني أي شيء منها، وقد فاتني الكثير، فمن هو الذي يستطيع أن يتابع كتابات سعد الله؛ فالرجل بالإضافة إلى أنه غزير الإنتاج، فإن الصحف والمجلات الجادة في الوطن العربي وغيرها مفتوحة له في أي وقت، ولكنه كان دقيقا في الاختيار يعرف أين ومتى ينشر.
لم يكن أبو القاسم سعد الله الذي فارقنا السبت 13/12/2013 مؤرخا فقط يسرد أو يعيد صياغة ما يجده في بطون الكتب والمخطوطات، فإنه قبل ذلك كان موقِفًَا، وكان يختار موقفه بعناية ودقة، وكان عفيف اللسان كما هو عفيف القلم، وظل مجاهدا عالي المقام طوال حياته، لم يقتصر رفضه على المناصب الإدارية والوزارية التي عرضت عليه، بل رفض تغيير عنوانه، فلم يتأمرك ولم يتفرنس، رغم ماقدموا له من مغريات وظل يحب طلبته سواء منهم الذين في جامعات الجزائر أو في الجامعات الأمريكية أو في الجامعات العربية.. تجول في العديد من البلدان العربية والأجنبية بحثا عن المخطوطات والمراجع التي تخص التاريخ الجزائري والعربي في اللغات التي يتقنها؛ العربية والفرنسية والإنجليزية والألمانية والفارسية. وكتب وترجم أهم الموضوعات التي تهم الجزائر والجزائريين، فهو الذي ترجم مذكرات الأمير عبد القادر التي كتبها هنري تشرشل، وقد قارنت ترجمته بترجمة أخرى مخطوطة وجدتها في دمشق فرأيت ترجمة سعد الله ليست ترجمة عارف باللغات، بل ترجمة عالم بثقافات الشعوب. أما أطروحته لنيل الدكتوراه عن الحركة الوطنية الجزائرية فيكفي أنها أول أطروحة يكتبها جزائري باللغة الإنجليزية.
وفي كتاباته كشف كثيرا من المؤرخين أصحاب المدرسة الاستعمارية في كتابة تاريخ الشعوب، سواء كانوا من الأوروبيين أو العرب، فهو الذي كشف أجيرون وشارل أندري جوليان الفرنسيين والمؤرخ الأمريكي من أصل لبناني فيليب، حتى أن سعد الله هو الذي كتب لي مقدمة كتابي "الإشعاع المغربي قي المشرق العربي" وأرشدني ووجهني في كثير من القضايا وفي الندوات التي أحضرها ويكون موجودا، لا أجرؤ على الكلام في حضرته سواء في العاصمة أو في وادي سوف، ولكنني في بغداد تجرأت على تقديمه لمجموعة من المثقفين العرب المناضلين، كان أقلهم الكاتب المناضل صلاح المختار. وأعجب به القوم أيما إعجاب، وأثنوا على دقته العلمية وقدرته على الإقناع وثقافته الموسوعية.. فقد كان - رحمه الله - يملك ذاكرة جد ممتازة. والتقينا مرة في مطار الجزائر وطلب مني أن أحدثه عن دور جزائريي المشرق في الحرب العالمية الأولى، اكتشفت قدرته على الاستماع ودقته في الأسئلة، رغم أني كنت أعرف أنه أعلم مني بالموضوع. لكن أدبه وعاليَ أخلاقه يجعلانه قادرا على استيعاب محدثيه.
وبينما أنا أقلب موسوعته "تاريخ الجزائر الثقافي" كدت أطير فرحا.. فهاهو العالم العلامة والمؤرخ الدقيق والكاتب الموقف يعتمد على بعض ما أكتب كمراجع له.. إنه شرف كبير لي. لم أكن أتوقعه أو اأطمح إليه. كان رحمه الله يتتبع أخباري، يسأل عني أو يسألني عنها.. وحين عدت من دمشق عام 2012 هاربا من تلك الحرب التي لاتزال مستعرة حتى كتابة هذه الحروف حصل على هاتفي من الأستاذ الدكتور مصطفى نويصر، وهاتفني وأنا في مخيم اللاجئين في سيدي فرج، مستفسرا عن صحتي واحوالي.. فكانت لفتة كريمة من عملاق كبير. اعتز بها ما حييت، صحيح جدا إن وفاة سعد الله بالنسبة إلي خسارة شخصية، حرقتها ستظل في كبدي طويلا، ولكنها أيضا خسارة وطنية وقومية كبيرة.. وهنا أقول إن الجزائر والعرب عموما فرطوا بمثقفيهم الكبار.. وفي فرص سنحت لفرط هؤلاء بوطنهم وعروبتهم بل وبإسلامهم وغيروا قبعاتهم.. إلا أبي القاسم سعد الله، فقد فرطت به أمته، ولكنه لم يفرط بها، وهاهو يلقنها درسا كبيرا.. فأبى أن يموت في مستشفيات أمريكا وغير أمريكا، وفوجئنا جميعا بوصيته أن يدفن في قريته ڤمار التي كرمته زاويتها التيجانية يوما، ولازالت صوري معه في ذلك التكريم لقطاتٍ من اعتزازي بأني عشت في زمن عاش فيه سعد الله.. لقد تركنا الرجل في أروع حالة يترك فيها عاقل وطنه.. فقد ألف وبنى وأنجب، بل أكثر من هذا، لقد عرّفنا على أنفسنا، فمن كتبه عرفنا من نحن.. وكم أتمنى أن أكون من رفاقه في الجنة..
http://www.echoroukonline.com/ara/articles/188301.html