كبير اليساريين الجزائريين.. الطاهر بن عيشة في حوار شامل لـ"الشروق" / الجزء الثاني
والدي بنى مسجدا لتعليمي وجرائم 08 ماي أنهت مشواري في الزيتونة
حاوره: عبد الحميد عثماني
2014/01/12
[img]http://static.echoroukonline.com/ara/dzstatic/thumbnails/article/2012/TAHAR_BENAICHA_108222727.jpg[/img
]
الطاهر بن عيشة
سافرت إلى تونس على البغال ومنها وقع "الانفجار الجديد" في حياتي
تحدث عميد الصحفيين الجزائريين الكاتب الطاهر بن عيشة في الجزء الثاني من حواره مع "الشروق" عن تفاصيل رحلته التعليمية الأولى، حيث كشف عن تكفل والده الأمّي ببناء مسجد في القرية بهدف تعليمه، كما يروي القصّة الشيّقة لسفره على البغال منتصف الأربعينات من القرن المنصرم، لاستكمال مساره البيداغوجي بجامع الزيوتنة بتونس، قبل أن تفاجئه جرائم الاحتلال الفرنسي في 08 ماي 1945، وتجبره على الرجوع إلى مسقط رأسه بتسريح من إدارة الجامع، إذ ركب القطار عائدا لبلدته بوادي سوف، لكن قبل مواصلة الرحلة على متن إحدى الشاحنات من بسكرة نحو قمار، كان متعبا جدا، فقرر الاستراحة مؤقتا في إحدى المقاهي بعاصمة الزيبان بسكرة، في انتظار إقلاع الشاحنة عبر رحلة شاقة كانت تستغرق 48 ساعة في ذلك الزمن، وقد كان حديث الناس في تلك الأيام لا يدور سوى عن تلك المجازر الشنيعة ضد الشعب الجزائري، وفي أثناء مكوثه بالمقهى، جلس بالقرب منه خمسة رجال راح أحدهم يتلو أبيات شعرية في توصيف الجريمة الشنعاء، لتختزنها ذاكرته القويّة دفعة واحدة ومن سماع واحد.
ويقدم الطاهر بن عيشة شهادة صديقه المرحوم عبد القادر الياجوري في حقّ أعضاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي كان عضوا بها، قبل أن يصدم بموقفهم معه بعد دخوله السجن نهاية الثلاثينات، إذ بقي في سجن قسنطينة معزولا، لا يزوره أحد منهم سوى الإمام عبد الحميد بن باديس، ما دفعه إثر الخروج من السجن لإطلاق صرخته الشهيرة قائلا: "لقد كفرت بكلّ العمائم إلا عمامة بن باديس".
حدثنا عن الخطوات الأولى في مسيرتك العلمية ومدى تأثير البيئة الاجتماعية والثقافية في صقل شخصيتك المتمرّدة بطبعها، والتي لا تقبل المداهنة والمهادنة في كل الظروف؟
أولاً ..كل إنسان ليس تكوين لحظة معينة، بل هو نتاج مراحل وتجارب يخوضها في معترك الحياة. أما عن مولدي ونشأتي الأولى، فقد رأيت النور عام 1924 في قرية "غمرة الوطى"، أي غمرة المنخفضة، وهي مركز مدينة قمّار وقتها، والتي تقع بولاية وادي سوف، حتى أن المثل الشعبي الشائع كان يقول "من لا يملك نخيلاً في غمرة فليس من أهل قمَّار"، وقد تميز مسقط رأسي بهدوء أكبر وسط الهدوء العام الذي طبع واحات سوف في تلك الفترة، لكن حينما بلغت سنّ الوعي والإدراك، وجدت الأوضاع الاجتماعية قد تدهورت بفعل وصول جيش الاستعمار الفرنسي، وسيطرته على مصادر رزق الناس وتضييقه على حياتهم الخاصة.
كانت عائلتي تشتغل بالزراعة وتحترف في الوقت ذاته تربية وتجارة الإبل والأغنام في المنطقة، مع أنها كانت مستقرة بالقرية، ولم تعرف أبدا ظروف البدو الرحّل في فيافي الصحراء، فكان إخوتي يستعملون الجِمال في النقل والسفر نحو الحدود، خصوصا تجاه تونس المجاورة لصحراء سوف، وقد مارسوا عبرها الأنشطة غير الشرعية وفق النظام الفرنسي، وهي تجارة السلاح والسجائر، وقد كانت ظروف المعيشة الصعبة تدفعهم إلى تلك المغامرة التي يتعرضون فيها إلى ملاحقة عيون الاستعمار من جهة، وتحرشات اللصوص من جهة أخرى.
في خضم تلك الظروف الاجتماعية القاسية، متى وكيف التحقت بالتعليم الأوّلي؟
في الحقيقة.. قبل أن أبحث أنا عن مركز تعليمي أتوجّه إليه، كان والدي رحمه الله قد فكّر في الأمر، باعتباري الأخير في ترتيب إخوتي، فهيّأ لي ظروف التعلّم رغم الحرمان وشظف العيش، فالفضل يعود إليه هو بالأساس في تعليمي وتعليم أبناء قرية غمرة كلّهم، وفي سبيل ذلك، شيّد والدي بمفرده أول مسجد في القرية، وكان تفكيرُه الأول هو أن يوفر لي شخصيّا مرفقا تعليميّا، ويكون أيضا منارة إشعاع على سكان القرية المحرومين من التعلم وقتها، والقصة رواها عميد المؤرخين أبو القاسم سعد الله في مؤلفاته.
هل كانت لوالدك علاقة بالتعليم؟
لا، أبداً، لم يكن متعلما أصلا ولم يكن في قريتنا فردٌ واحد يحسن الكتابة أو القراءة، فهو كان يمارس التجارة المتنقلة، وتلك الأميّة المفروضة من الاستعمار هي التي حزّت في نفسه، وغرست فيه رغبة التحدي في تكريس ماله من أجل كسر جدار الجهل، ورفع الغشاوة عن أهل قريته، فبنى المسجد في المرحلة الأولى مثلما أسلفت لك، ثم جلب له واحدا من خيرة مثقفي الولاية وهو الحاج علي، ابن الفقيه الإباضي سيد أحمد دغمان الذي كان "قاضي سوف" عام 1870 حينما دخلت قوات الاحتلال إلى المنطقة، وهو معروفٌ في معظم المصادر التاريخية، فقصده والدي رحمه الله، وأقنعه بأن ينتدب نجله "علي" مفخرة حفظة القرآن، للتدريس والإشراف على شؤون مسجد "غمرة"، فوافق على الطلب، وجاء إلى القرية عام 1934، بعد أن بنى له والدي منزلاً للسكن، ومنذ تلك السنة بدأتُ رحلتي مع التعلم وحفظ القرآن الكريم، رفقة قرابة 40 طفلاً من أبناء القرية، وسأكون فيما بعد، من أوائل منْ يحفظ بينهم القرآن كاملاً، وأعدتُ ختمه أربع مرات في غضون أربع سنوات حتى عام 1938.
النظام التعليمي في مسجد القرية كان يقتصر فقط على حفظ القرآن؟
نعم، تقريبا.. ما نتلقاه كان على صلة بعلوم القرآن فقط، لأن النظام البيداغوجي المعتمَد كان ابتدائيا وتقليديا جدا، فكنّا نقرأ القرآن، ونتعلم الكتابة على الألواح، ونُلقّن قواعد اللغة الأساسية، وندرس أحكام التلاوة والقراءات المشهورة، حتى نتقن النطق ونتحكم في مخارج الحروف.
بعد هذه المرحلة (1934/1938)، هل دخلت الحياة المهنية أم توجهت لاستكمال مشوارك العلمي؟
مكثت سنتين ونصف سنة في مساعدة أفراد العائلة في العمل الزراعي، وفي غضون ذلك، كان والدي رحمه الله بمعيّة شقيقي الأكبر يخططان لإرسالي إلى جامع الزيتونة بتونس لاستئناف التعلم من جديد في مستويات أعلى، لكن قبل سفري إلى الزيتونة استفدتُ من حلقات الدروس التي كان والدي يحرص على تنظيمها في المسجد، من خلال استضافة شخصيات علميّة مرموقة وقتها، كانت تتناوب على إلقاء دروس شرعية عامة، نروي بها عطشنا المعرفي في ظل انعدام الكتب وأدوات التثقيف الأخرى.
هل تتذكر بعض الأسماء التي درّست بمسجدكم؟
كانوا من الأعلام الثقافية في المنطقة، وقدماء خريجي جامع الزيتونة، أبرزهم عضو جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الشيخ الجليل عبد القادر الياجوري، والأستاذ عبد العزيز الشريف نجل شيخ الزاوية الهاشمية بواد سوف، وغيرهم كثير لا أستحضر أسماءهم الآن.
وهذان الرجلان من الوطنيين الثوريين الحقيقيين في المنطقة، ودعني أقص عليك ما رواه لي الشيخ الياجوري نفسه، فقد حدثني عن دخوله السجن الذي مكث فيه بين عام 1939 و1940 بناحية قسنطينة، ولم يكن أحدٌ من أعضاء جمعية العلماء المسلمين يزوره في محبسه إلا الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي يحمل إليه يوميّا قفّة الطعام طيلة شهور. دخل عليه الفرنسيون يومًا، وطلبوا منه التوقيع على تعهد بعدم العودة إلى النشاط السياسي مقابل الإفراج عنه، فرفض رفضا قاطعا هذا الشرط، حتى يئس الفرنسيون من ثنيه عن إرادته، فقررت الادارة إخراجه من السجن، حيث توجّه مباشرة صوب بيت الإمام ابن باديس، فهنّأه علاّمة الجزائر وحمد الله على إطلاق سراحه، قبل أن يسأله - حينما رآه عاري الشعر- عن عمامته أين ضيّعها؟ فردّ عليه الشيخ عبد القادر الياجوري: "لقد كفرت بكلّ العمائم إلا عمامة ابن باديس"، وقد كان هذا الموقف، تعبيرا منه عن استيائه الشديد من تنكّر أفراد الجمعية له، وتقصيرهم في حقه وهو خلف أسوار السجن الاستعماري.
لنعود إلى سفرك نحو تونس، أفهم من كلامك أن انتقالك إلى جامع الزيتونة حصل عام 1941، كيف تمّت الرحلة؟
نعم.. بالضبط في هذه السنة سأنتقل إلى الزيتونة، حيث شرع إخوتي في الاتصال ببعض الطلبة الزيتونيين الذين قدموا لقضاء عطلتهم الصيفية وسط أسرهم، بهدف معرفة الإجراءات البيداغوجية والاستفسار عن ظروف التمدرس والإقامة هناك، ومن حسن حظّي أن ابن قريتي "العزوزي بن حمَّة باهي" كان موظفا في الأمانة العامة لجامع الزيتونة مكلفا بشؤون الطلبة، ما سهل عليّ عملية الالتحاق، وفي فترة مكوثه بالقرية دعاه والدي إلى المنزل العائلي، لأن العادة جرت باستضافة الوافد المغترب، خصوصًا من أعيان المنطقة، وفي أثناء تلك الضيافة، رتّبت العائلة مع المعني إجراءات انتقالي إلى جامع الزيتونة.
في الخريف، ومع بداية الموسم الجديد (1940 / 1941) توجهت الى تونس برفقة الطلبة القدامى العائدين من عطلتهم، وقد صحبني شقيقي الأكبر "علي"، حيث ركبنا البغال مدة يوم كامل من منطقة "قمَّار" حتى مدينة "الجريد" بجنوب تونس، وبعدها واصلنا سفرنا على متن القطار من منجم "المتلوّي"، في حين تكفّل مرافقان آخران من الأقارب بإعادة البغال، وبعد رحلة استغرقت 48 ساعة نزلت مع أخي الأكبر "علي" في العاصمة تونس.
كيف وجدتها، وأنت القادم من صحراء قاحلة ثقافيّا وعمرانيّا؟
هناك تفتحت عيناي لأول مرة على معالم المدينة العصرية التي لم يسبق لي أن رأيتها البتة، وفيها حصل "الانفجار الجديد" في حياتي، لأنطلق في المشوار الطويل الذي سأكرس له فيما بعد نضالي وقلمي.
ماذا عن باقي الإجراءات حتى اندمجت في جامع الزيتونة؟
أتذكر أنّ رئيس جامع الزيتونة حينها كان هو الأستاذ عبد العزيز المالطي، فكان أول ما قام به شقيقي هو استئجار شقة صغيرة جدا للإقامة، بسعر 55 فرنكا فرنسيا للشهر الواحد، وهو مبلغ معتبر في ذلك التاريخ، وقد مكثت فيها أربع سنوات دون انقطاع حتى المغادرة عام 1945، وبعدها توجهنا للتسجيل بالإدارة المركزية حيث وجدنا "العزوزي بن حمة باهي" للوقوف إلى جانبنا.
وأشرفت لجنة خاصة على إجراء امتحان الدخول، وكان أهم مقياس هو استظهار القرآن الكريم، وقد تفوقت فيه، وأفرحهم ذلك كثيرا لأنه كان نادرا بين الطلاب الجدد من يحفظه كاملا، كما نجحت في امتحان الكتابة، ما سمح لي بدخول فرع "جامع سيدي خالد" في مرحلة أولى، وهو ملحقٌ ابتدائي تابع للزيتونة، درست فيه مدة سنة واحدة، ثم تأهلت لجامع الحفصي الذي تابعت فيه الدراسة طيلة سنتين، وبعدها التحقت بجامع الزيتونة الأمّ عام 1944، وفي تلك الفترة نضجت أكثر، وظهرت من وقتها إرهاصات الشعر على كتاباتي واهتماماتي الأدبية.
ماذا تستحضر اليوم من تلك الفترة الذهبية في حياتك العلمية؟
كان وقتها "بحر العلوم" الفاضل بن الطاهر بن عاشور من أبرز أعلام الزيتونة، مع أنّي لم أدرس على يديه مباشرة في مسيرتي البيداغوجية، لكني كنت مواظبا على حضور دروسه التي يقدمها للطلبة الزيتونيين في الصف الأعلى، كان من المفترض أن أستمر أربع سنوات في الطور الزيتوني، حتى أنال الشهادة النهائية أي الجامعية، لكن شاءت الظروف المأساوية في الجزائر الناجمة عن أحداث 08 ماي 1945، أن تتوقف رحلتي عند مستوى الشهادة الأهلية عام 1945، بعد أن عجلت هيئة جامع الزيتونة بإجراء امتحان الطلبة الجزائريين وطلبت منهم العودة إلى بلادهم فورا لتتبع أخبار عائلاتهم إثر المجازر الرهيبة التي ارتكبت من قبل السلطات الاستعمارية، فركبت القطار عائدا إلى بلدتي بوادي سوف، لكن قبل مواصلة الرحلة على متن إحدى الشاحنات من بسكرة نحو قمار، كنت متعبا جدا، فقررت الاستراحة مؤقتا في أحد المقاهي بعاصمة الزيبان بسكرة، في انتظار إقلاع الشاحنة عبر رحلة شاقة كانت تستغرق 48 ساعة في ذلك الزمن، وقد كان حديث الناس في تلك الأيام لا يدور سوى عن تلك المجازر الشنيعة ضد الشعب الجزائري، وفي أثناء مكوثي بالمقهى، جلس بالقرب منّي خمسة رجال راح أحدهم يتلو الأبيات الشعرية التالية التي اختزنتها ذاكرتي دفعة واحدة:
تبسة الجميلة تشكو ما ألمَّ بها فتجيبها بدموع الحزن وهرانُ
من واد سوف إلى عنابة أفئدة قد جُرعت بكؤوس الظلم ألوانُ
رب طفل صغير مسه ألم وشيخ كبير مات عطشانَ
وفجأة سمعت أحدهم يقول إن الشاحنة ستنطلق الآن نحو قمار، فـحزّ في نفسي عندها الحرمان من مواصلة الاستماع إلى بقية القصيدة التي لا أعرف ناظمها إلى حد الساعة، غير أنّي مازلت أحفظ أبياتها منذ سمعتها للمرة الأولى والأخيرة في ذلك اليوم من شهر ماي عام 1945.
يُتبع ..
http://www.echoroukonline.com/ara/articles/191548.html