عن بركة الكهنة أو البركة الكهنوتية
أ. د. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
في الديانة اليهودية كغيرها من الديانات عدد كبير من البركات مثل: بركة العجائب الكبيرة (سفر المزامير ٩٢)؛ بركة الإعالة (ن.م. ١٤٥)؛ بركة العروس؛ بركة الصحّة (سفر المزامير ٨٤)؛ بركة المرأة القديرة (אשת חיל, سفر الأمثال ٣١)؛ سبع بركات الزواج؛ بركة البار متسڤا أي ابن الثلاث عشرة سنة المكلّف بتأدية فرائض الدين (سفر فصول الآباء ٥: ٢١)؛ بركة البات متسڤا أي ابنة الاثني عشر عاما المكلّفة بالقيام بالفرائض الدينية (سفر النداه/الطمث ٥: ٦)؛ بركة ضد العين الشرّيرة؛ بركة من أجل النجاح (سفر المزامير ٥٦)؛ بركة الجندي؛ بركة الجندية؛ بركة الضابط إلخ. هنا نتطرق إلى ما يسمى ببركة الكهنة.
هذه البركة، بركة الكهنة، أو بركة رفع اليدين أو بركة مثلثة (ثالوثية في المسيحية أي إشارة لسرّ الثالوث الأقدس، البركة الأولى خاصة بالآب والثانية بالابن والثالثة بالروح القدس) لأنها تضم ثلاث آيات (يربطها الحاخامون بالآباء الثلاثة: إبراهيم وإسحق ويعقوب) ذات ثلاث كلمات فخمس فسبع على التوالي ومن حيث الحروف ١٥، ٢٠، ٢٥، وردت في سفر العدد، وبمقتضاها على الكهنة من نسل أهرون مباركة بني إسرائيل وأيديهم مرفوعة مرة واحدة على الأقلّ يوميا. إنّها من بقايا طقوس العبادة في الهيكل، كانت جزء من قربان الدائم (התמיד) كل يوم صباحاً ومساء، كانت هذه البركة تتلى قبل القربان (משנה תענית 4: 1 ). هذه البركة اليومية غير المشروطة فريضة توراتية وهي الوحيدة المتعلقة بالكهنوت ولم تندثر بعد خراب الهيكل. إنّها إحدى فرائض “إفعل” البالغة ٢٤٨ (רמ‘‘ח מצות עשה) وتتلى في مناسبات أخرى مثل فدية الابن. ونصّ البركة مع مقدمتها في سفر العدد الإصحاح السادس والآيات ٢٥-٢٧ يقول:
22. וידבר יהוה אל משה לאמר.
23. דבר אל אהרן ואל בניו כה תברכו את בני ישראל אמור להם.
24. יברכך יהוה וישמרך.
25. יאר יהוה פניו אליך ויחנך.
26. ישא יהוה פניו אליך וישם לך שלום.
27. ושמו את שמי על בני ישראל ואני אברכם. هنالك ثلاثة فروق بالمقارنة مع التوراة السامرية: 24. אמר, 25. יאיר, 27. ושימו.
٢٢. وكلّم الرب موسى فقال:
٢٣. قُل لهرون وبنيه: بمثل هذا تباركون بني إسرائيل وتقولون لهم:
٢٤. يبارككم الرب ويحفظكم
٢٥. يضيء الرب بوجهه عليكم ويرحمكم.
٢٦. يرفع الرب وجهه نحوكم ويمنحكم السلام.
٢٧. هكذا يجعلون اسمي علامةً على بني إسرائيل، وأنا أبارككم. (الكتاب المقدس، ط. ١، ١٩٩٣).
تتلى البركة بألحان مختلفة في الطوائف الإشكنازية وفق الأعياد، أما لدى معظم السفارديم فهنالك موائمة للحن البركة لمقام الصلاة ولدى اليهود المغاربة لحن واحد لا غير ولا يتغير والكاهن المغربي لا يحقّ له تلاوة هذه البركة إلا إذا كان متزوجا.
يُعتبر نص البركة المقرائي هذا أقدم نصّ معروف لنا، وأول من تلا هذه البركة كان أهرون الكاهن فبنوه تلبية لأمر الله. اليوم لا وجود لكاهن أكبر عند اليهود لخراب الهيكل أما لدى السامريين فهناك كاهن أكبر/أعظم يدير شؤونهم الدينية. نصّ شبيه بهذه البركة مدوّن على لوحة فضية يعود تاريخه إلى عام ٦٠٠ ق.م بالتقريب وهي محفوظة في متحف إسرائيل في القدس. يرفع الكهنة أيديهم إلى مستوى الكتفين ثم إلى الأمام وأصابعهم مبسوطة، مثلا تلاصق السبابة بالوسطى والبنصر بالخنصر والإبهام بأصل السبابة وهكذا يكون بين الأصابع خمس فُسح. رفع اليدين هو تقليد لما فعل أهرون بن عمران عند تدشين خيمة الاجتماع (سفر اللاويين ٩: ٢٢). يُذكر أن الكاهن الأكبر لم يرفع يديه فوق غرّته ويتلو أحد الكهنة هذه الآيات الثلاث ولا يقول الشعب الذي يطئطىء رأسه، آمين إثر كل آية بل بعد الثالثة يقول “مبارك الله إله إسرائيل، من البدء وإلى الأبد”. تتلى هذا البركة بالعبرية فقط، بصوت عال، برفع اليدين (قارن سفر اللاويين ٩: ٢٢ ) وقوفا ووجها لوجه. ينبغي على الكهنة قبل تلاوة هذه البركة غسل اليدين وخلع الأحذية (سوطاه ٤٠) وتغطية الرأس بشال الصلاة (الطاليت) وعدم احتساء النبيذ. يصعد الكهنة إلى المنصّة بجانب خِزانة القدس (ארון הקודש) أي مكان حفظ نُسخ الكتاب المقدس وفق التقليد الإشكنازي أما لدى السفارديم فاسم المكان “هيكل”. والكاهن الذي لا يصعد إلى المنصة لسبب ما عليه مغادرة الكنيس في خلال تلاوة البركة. يقف الكهنة وظهورهم نحو المصلين ويتلون البركة “مبارك أنت يا الله … الذي قدّسَنا بقدسية أهرون وأمرنا مباركة شعبه إسرائيل بمحبة”. عند قول “وأمرنا” أو بعد الانتهاء من هذه البركة يتّجه الكهنة نحو المصلين ثم يتلو الشمّاس بركة الكهنة كلمة كلمة فيرددها الكهنة من بعده وذلك تفاديًا لوقوع خطأ لدى الكهنة، وإثر تلاوة كل آية يُجيب المصلّون “آمين”. يجب أن يتركّز الكهنة عند تلاوة البركة وعيونهم نحو الأسفل كما هي الحال وقت الصلاة. من المألوف عدم النظر إلى أيادي الكهنة وقت البركة وذلك بسبب ما ورد في أقوال الحاخامين من أن الناظر إليها يخفّ نظره لأن السكينة تحلّ على أيادي الكهنة عند تلاوة البركة، لذلك يرتدي الكهنة الطاليت ويغطّون وجوههم وأياديهم. هنالك عادة يغطي الآباء بموجبها أبناءهم بالطاليت عند البركة. تقام هذه البركة في صلوات الصباح في الأيام العادية أما في أيام الصوم فتتلى في صلاة المنحاه أي صلاة الثانية عشرة والنصف (أنظر سفر التكوين ٢٤: ٦٣ مقالة البركات في المشناه ٦:٢) أيضا أما في عيد الغفران فعادة تتلى البركة في صلاة الختام وليس في صلاة المنحاه وهنالك خلاف بين الحاخامين بهذا الصدد (أنظر التلمود البابلي سفر التعنيت ورقة ٢٦ ص. ٢).
في الديار المقدسة تتلى عادة بركة الكهنة في الأعياد فقط وفي أقطار أخرى هنالك عادات وتقاليد مغايرة. في حالة عدم تواجد كهنة ولكن هنالك نصاب لإقامة الصلاة، أي تواجد عشرة بالغين من الذكور على الأقل (מניין)، يقوم الشمّاس بقراءة مقدمة قصيرة للبركة ثم يتلو البركة آية آية ويجيب المصلون بعد كل آية “فلتكن الإرادة”. وفي حالة وجود عشرة كهنة فقط يصعدون إلى المنصة ويتلون البركة لإخوتهم العاملين في الحقول (أنظر سفر سوطاه/المنحرفة، ورقة ٣٨ ص. ٧٢ وسفر العدد الإصحاح الخامس). وفي حالة عدم صعود كاهن إلى المنصة ومباركة الموجودين فإنه يُعتبر وكأنه أبطل ثلاث فرائض توراتية (أنظر سفر سوطاه ٣٨: ٢، رمبام صلاة ١٥: ١٢؛ دليل الحائرين القسم الثالث الفصل الرابع والأربعون). كما ورد في القبالاه באתערותא דלתתא תליא אתערותא דלעילא أي: بواسطة يقظة إرادتنا لقَبول البركة تنهض إرادة عليا لإغداق البركة على إسرائيل”.
جدير بالذكر أن هذه البركة لا تتلى لوحدها فثمة بركات وابتهالات قبلها وبعدها يرددها الكهنة والمصلون ويدل كل هذا على أن المبارِك لبني إسرائيل هو الله سبحانه وتعالى فهو الأصل وليس الكهنة فهم بمثابة رسله وقنواته. وقد حظيت هذه البركة إلى عدد كبير جدا من التفاسير والتخريجات من حيث اللغة والمضمونٌ على حد سواء. من التساؤلات الجوهرية التي أشغلت بال المفسرين على مرّ العصور هي هوية المبارك إذ أننا في البداية نرى “تحدث مع أهرون وبنيه إلخ.” وفي النهاية نجد ذكر الباري ومن حيث اللغة يلاحظ أولا استخدام لغة الجمع ثم لغة المفرد. ويذكر أن جلّ المفسرين يذهبون إلى أن البركة تخصّ الثروة والأملاك بالرغم من أن التوراة لا تُفصح عن كنه البركة. في الواقع أمامنا بركة الله الشخصية للإنسان، لقاء الخالق بالإنسان الفرد. وكما قال التنّا ربّي إلعزر بن عزريه “אם אין קמח אין תורה” أي : لا توراة بدون المال (الطعام، الدقيق، سفر فصول الآباء ٣: ١٧).
يذكر أنه في عام ١٩٧٠، في أثناء حرب الاستنزاف، بدأ الراب مناحيم مندل چِفْنِر (מנחם מנדל גֶפְנֵר) بتلاوة البركة المذكورة بحضور أكثر من ثلاثمائة كاهن بكثير أمام جمهور مصلين غفير في باحة حائط المبكى في خلال أيام عيدي العرش والفسح وفي هذه المناسبة يتوافد مئات الكهنة وآلاف اليهود لقبول البركة (أنظر: WWW.THEKOTEL.ORG).
من عادات اليهود الشائعة تلاوة الآباء وفي بعض الطوائف الأمهات أيضا البركة على ذريتهم ليلة السبت. وفي طوائف معينة تجذّرت عادة تلاوة هذه البركة قبيل سفر بعيد للأبناء أو التوجه للقيام بعمل خطير. كما وهنالك من يدوّن هذه البركة على ورق رقّي يوضع على جسمه كحجاب أو تميمة.
جاء في سفر الطمث (נידה, ورقة ٣١) أن الإنسان نتاج ثلاثة شركاء، الوالديْن اللذين أنجباه والخالق الذي منحه نسمة الحياة وقل الأمر ذاته بالنسبة لبركة الكهنة: موسى كليم الله وأهرون والله. نقرأ في مدراش المزامير، المزمور السابع ضمن أمور أخرى “منذ خراب الهيكل لم يمرّ يوم دون لعنة” والتتمة “قال راب آحا: بفضل من نحن باقون؟ بفضل بركة الكهنة”.