أتناول غدا الثلاثاء الحلقة الأخيرة من نقد محددات العقل السياسي العربي برؤية الجابري، متطرقا إلى الغنيمة، التي أيضا لحقها التشويه بفعل التوظيف السلبي السياسي وإسقاطه على مظاهر الفساد السياسي والإقتصادي لدى السلط الفاسدة قديمها وحديثها..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأستاذ/ عبد الحفيظ بن جلولي
الغنيمة والإرادة الفاعلة:
تتحدّد الغنيمة في سياق رؤية الجابري كمرتّب تاريخي يتحرّك في خضوعه لعملية تحويلية، "تحويل (الغنيمة) إلى اقتصاد (ضريبة)، وبعبارة أخرى تحويل الاقتصاد الرّيعي إلى اقتصاد إنتاجي"، وهذه الالتفاتة نحو نقد اقتصاد الغنيمة قد تفيد في التنبيه إلى مستويات أخرى تدمج العلاقة الاقتصادية في جوهر الانطلاق من عتبات حداثية لممارسة اقتصادية تستجيب لمنطق العصر وأدواته، إلا أن الرّؤية الجابرية كما بعض الرّؤى الأخرى تبقى قاصرة عندما لا تأخذ في عين الاعتبار الحركة العضوية للمفهوم في التاريخ، فالغنيمة ليست على الدّوام تلك الظاهرة السلبية التي تعتبر عنصرا من عناصر التراجع الاقتصادي، لأنّها تأسّست ضمن ظرف تاريخي مميّز، ووفق ثقافة قبلية تتحكم في اواليات وعناصر ذلك المفهوم الاقتصادي، فالحرب في بداية الدّعوة وبعدها أي في مراحل توسّع الدّعوة الإسلامية وقيامها بحركة الفتوحات، كانت تمثل مصدر دخل بالنّسبة للجماعة الإسلامية التي سوف تؤسّس في ما بعد الدولة، وطبيعي أنّ الغنيمة كانت تعبّر عن مظهر تقسيم الثروة طبقا للرّؤية والمنطق التي تتحصل بهما، ويحفظ التاريخ للغنيمة إنّها كانت تقسّم بالعدل الذي كان شاهدا ومؤسّسا لمنطقه الرّسول (ص)، ثم بعد ذلك تطوّر المفهوم حسب ما توصل إليه المجتمع الإسلامي من رقي وفكر، والثابت في فكرة الغنيمة إنها تخضع لعنصري الإرادة والرّغبة، اللتان يُستشفَّان من حركتها في التاريخ الاقتصادي العربي الإسلامي، في تفريعاته الما بعد غنيمية، كما أورد ذلك أبي يوسف في كتابه "الخراج"، والوقوف على المنجز المادّي العمراني والاقتصادي في مكة يحيل على أن المال وحده لا يمكن أن يكون دافعا إلى إحداث عملية التغيير التّنموية، فكثير من البلدان الإسلامية تملك المال لكن بنياتها التحتية ما زالت هشّة وبدائية، فالإرادة لدى الفاعل الاجتماعي والسياسي في مكة تمثل الفارق الأساس في عملية التنمية، إلا أن الإرادة وطبقا لمظاهر التنمية هناك تكشف عن عنصر تابع لها وهو تنفيذ الإرادة، وهو العنصر الذي تفتقده عملية التنمية، إذ الذي يقوم بتنفيذ الإرادة هو الفاعل الأجنبي، وهو ما قد يعيق عملية التّنمية لحين، إلا أنّ الرّغبة في تحقيق عملية التّغيير التّنموي توازن أطراف المعادلة الاقتصادية الناتجة عن الوفرة في الثروة الطبيعية والمتمثلة في البترول، فمعادلة الإرادة وتنفيذ الإرادة والرّغبة، تستكمل أطرافها بالمقدرة المالية التي تمثل محصول الغنيمة المرَشَّد بالمفهوم الاقتصادي التراثي، والذي تنفق إيراداته في وجوه تمثل أولوية بالنّسبة للمكان الذي يمثل قلب العالم الإسلامي النابض بمحدّدات العقيدة، ولذلك اختلفت الرؤية للمال وتعيّنت بدقة مجالات صرفه.
إن مركب الإرادة وتنفيذ الإرادة والرّغبة هو الذي يمنح مفهوم الغنيمة معنى موضوعيا وحقيقيا بعيدا عن أي تمييع مفاهيمي أو تسطيح اصطلاحي، ولهذا لمّا استعمله الروائي الجزائري للتعبير عن امتلاك ناصية اللغة الفرنسية على أساس أنها "غنيمة حرب"، لم يحصر المعنى في الاتّجاه السلبي بل راح ينظر للحظة المنتصرة التي اكتسبت لغة قاومت بها الاستعمار ذاته والتي هي لغته في الأساس إلا إنها كانت من بين عوامل التحرر الذاتي من ربقة الاحتلال، فتوظيف مفهوم الغنيمة كان مرتفقا بعناصر حركته في التاريخ، حيث الهوية النهائية للمفهوم توّجت بالاستقلال، ولو نظر اليه كاتب ياسين من ناحية المحدد السلبي في تاريخية الفعل السياسي أو الثقافي الإسلامي لتجاوزه إلى معنى من مكونات حضارة الغالب. فالذي جعل مفهوم الغنيمة ابتداء كما أنجز في مرحلة البداية يمتلك مصداقية الوجود هو أرادة التغيير والرغبة في تنفيذ هذه الارادة مع بساطة الحياة التي جعلت تنفيذ الإرادة بيد الفاعل الحركي الإسلامي على كل المستويات، فالتغيير في مجال مكة مع ما تمثله من تضاريس جبلية ومناخ جاف وحار والمساحة القاحلة والطبيعة الجرداء يفسّر طبيعة وعظمة الجيل الأول الذي قاد عملية التغيير ليس على مستوى البنيات التحتية وإنّما على مستوى نظام الحياة الذي يختلف اختلافا جذريا عن ما كان سائدا، مع العلم أن ما كانوا يمتلكونه من منجز مادي لم يكن بتلك الدرجة التي توفر لهم القدرة على نشر مبادئ الدين الجديد ليس داخل الجزيرة وحسب، بل تجاوزوا به حدودها إلى اقتحام دوائر حضارية تفوقهم في العدة والعدد وتفضلهم في طبيعة المكان، ولهذا لا يمكن أن نقارب المفاهيم دون أن نمنحها فرصتها في تلقيها من خلال حركتها في التاريخ وقراءتها من خلال الحضور في المكان.
https://www.facebook.com/groups/malekbenabbi/