صورة طفل غريق تدين أمة غارقة



■ بقميصك الأحمر وسروالك الأزرق القصير، ووجهك الملائكي النائم على الرمال، عدت إلينا. كان البحر أكثر رحمة بك من الأمة التي شاء حظك العاثر ان تولد فيها فلم يمسس جسدك بسوء. لم نتبين ملامحك جيدا في الصورة، إلا أننا نعرفك جيدا، فأنت لحمنا الذي صار مشرعا في البحار والمنافي، وأنت مستقبلنا الذي سقط في ثقب أسود هائل من الحقد والصراعات، وأنت وطننا الذي تحول إلى «مقتلة عظمى» لأسباب سياسية وطائفية ودينية، وأحيانا بلا سبب واضح. عدت إلينا لتديننا عن حق، فترفعت عن ان نرى وجهك، أو نلمح بقايا دموعك المتلهفة، أو نسمع صدى صرختك الأخيرة وأنت تتشبث بحضن أمك في مواجهة الموت الذي أنقذك من جحودنا.
لماذا لم تكن واحدا من الأطفال المحظوظين الذين يلهون على الشاطئ في منتجع بودروم التركي الفخم حيث قذفت بك الأمواج؟ من الذي أخرجك من بيتك في المقام الأول سواء كنت آتيا من سوريا أو فلسطين أو أي بلد آخر؟ ومن الذي جعل أسرتك تقرر القاء نفسها في بحر ايجة سعيا إلى حد أدنى من الحياة الكريمة؟ وهل سيعني غرقك أكثر من صدمة أخرى للإنسانية، وصفعة أخرى على وجه ضمير ميت لأمة غارقة في دمائها؟
للأسف بينما تأثر الكثيرون حول العالم وحزنوا لرؤية صورتك القاسية، فان بني جلدتك لم يعيروك اهتماما يذكر سواء إنسانيا أو سياسيا أو إعلاميا، وفضلوا عليك أخبار زعمائهم وصراعاتهم التي قتلتك. بل ان البعض الذين باعوا ضمائهم لم يتورعوا عن استغلال صورتك لتسجيل نقاط سياسية رخيصة هنا وهناك. حتى الموت تحول إلى سلعة تجارية ان لزم الأمر في هذه الحرب الهستيرية التي تحكم المشهد العربي البائس.
ان أفضل رثاء لهذا الطفل ومعه آلاف من ضحايا تفاقم هذه المأساة التاريخية للاجئين الساعين للوصول إلى أوروبا، هو محاولة فهم ملابسات التطورات الأخيرة، سعيا إلى حل فوري لانقاذ حياتهم، تمهيدا للتوصل إلى تسوية دائمة للصراعات التي هربوا منها. وينبغي هنا التوقف عند نقاط محددة في هذا المشهد الذي أصبح أشبه برمال متحركة.
أولا: ان السبب المباشر للتدفق الأخير للاجئين على حدود أوروبا، هو ان الحكومة التركية قررت فتح الأبواب أمامهم برا وبحرا للهجرة إلى أوروبا. وحسب تقرير نشرته «القدس العربي» فان المهربين أصبحوا يعملون بحرية كاملة انطلاقا من «محطة مترو (أك سراي) الواقعة وسط الجانب الأوروبي من مدينة اسطنبول التركية، حيث يقف عشرات الشبان العرب بصحبة أمتعتهم في انتظار وصول (المهرب) الذي سيصطحبهم إلى نقطة انطلاق أخرى للهجرة إلى أوروبا من خلال اليونان، في مشهد يتكرر يومياً في العديد من النقاط بالمحافظات التركية المختلفة. ولا يتعرض هؤلاء الشبان المتجددون يومياً في هذا المكان إلى أي مضايقات من قوات الأمن التركية التي تقف على بعد عشرات الأمتار». وتتعدد الأسباب التي يحتمل انها دفعت أنقرة إلى هذا السلوك، ومنها انها قررت ان تهدم المعبد بعد تعثر مشروعها لإقامة منطقة آمنة داخل سوريا، بينما يواصل المجتمع الدولي غض الطرف عن الأعباء الاقتصادية التي تحملتها لإغاثة اللاجئين، والتي وصلت إلى ستة مليارات دولار كما تقول، فقررت ان تتخلص من اللاجئين بفتح الحدود في محاولة يائسة لوقف التدهور الاقتصادي الذي أدى إلى استمرار تراجع شعبيتها قبل شهرين فقط من إعادة الانتخابات. لكن هل يمكن ان تبرر كل هذه الأسباب السماح باستمرار هذه المأساة؟
ثانيا: لقد كشفت مأساة اللاجئين هشاشة الاتحاد الأوروبي وبعض اتفاقاته مثل «شينغن» التي هددت دول أوروبية امس بتجميدها وإعادة النقاط القديمة على الحدود، فيما تتصاعد أصوات متطرفة تحذر من ان تدفق المسلمين على أوروبا سيهدد هويتها، بالإضافة إلى أمنها مع وجود احتمال لا يمكن استبعاده، لن يكون هناك متطرفون من «داعش» أو غيره من التنظيمات مندسين بين المهاجرين.
اما «اتفاقية دبلن» التي تلزم الدولة الأوروبية الأولى التي تستقبل اللاجئين بأخذ بصماتهم والتعامل مع طلباتهم للجوء، فقد انهارت عمليا بعد ان اضطرت المانيا إلى قبول آلاف دخلوا إليها من هنغاريا، حيث تعاملت الشرطة بوحشية مع المهاجرين حتى ان بعضهم شبهها بالشرطة في البلاد العربية التي أتوا منها. والسبب ان اللاجئين كانوا يرفضون اعطاء بصماتهم في المجر التي لا يريدون البقاء فيها، حيث لن يحصلوا على مساعدات تذكر، مفضلين المرور إلى المانيا والسويد حيث المساعدات السخية الفورية للاجئين. ومن المقرر ان يعقد المسؤولون الأوروبيون اجتماعات عاصفة خلال الأيام المقبلة للبحث عن حل، إذ يسود التوتر والغضب العلاقات بين دوله، مع تزايد الضغوط على البوابات إلى «الجنة الأوروبية» خاصة في اليونان وايطاليا وهنغاريا وفرنسا، فيما ترفض دول مثل بريطانيا فكرة التوزيع العادل للاجئين، ما يشكك في فكرة «الاتحاد الأوروربي» أساسا.
ثالثا: لقد كشفت هذه المأساة الإنسانية الكبرى عن حالة مزرية من العجز العربي والدولي عن القدرة على الارتقاء إلى مستوى الحدث. وقررت الأغلبية في القارة الأوروبية العجوز سواء من دول أو منظمات تلقي المحاضرات يوميا بشأن حقوق الإنسان ان تدفن رأسها في الرمال أمام صور الغرقى، أو فصل الأطفال عن أمهاتهم على الحدود بأيدي الشرطة الأوروبية. أما النظام العربي المتحلل فحاله ليس أفضل كثيرا من اولئك الغرقى الذين تلفظ بهم الأمواج يوميا تقريبا إلى الشواطئ. انها محنة تاريخية كبرى كانت تحتاج إلى زعماء كبار ودول كبرى قادرة على ان تنتج مبادرات كبرى. فهل من نهاية لهذا النفق المظلم؟
٭ كاتب مصري من أسرة «القدس العربي»
خالد الشامي