من روائع أبي العلاء المعري ....( تــــعــــبٌ كـــلـــهــــا الــحــــيــــاة )
تــــعــــبٌ كـــلـــهــــا الــحــــيــــاة
غَـيْرُ مُـجْدٍ في مِلّتي واعْتِقادي نَــوْحُ بـاكٍ ولا تَـرَنّمُ شـادِ
وشَـبِيهٌ صَـوْتُ الـنّعيّ إذا قِيسَ بِـصَوْتِ الـبَشيرِ في كلّ نادِ
أَبَـكَتْ تِـلْكُمُ الـحَمَامَةُ أمْ غَنَّـت عَـلى فَـرْعِ غُصْنِها المَيّادِ
صَـاحِ هَـذِي قُبُورُنا تَمْلأ الرُّحْبَ فـأينَ الـقُبُورُ مِنْ عَهدِ عادِ
خَـفّفِ الـوَطْء ما أظُنّ أدِيمَ الأرْضِ إلاّ مِـنْ هَـذِهِ الأجْـسادِ
وقَـبيحٌ بـنَا وإنْ قَـدُمَ الـعَهْدُ هَــوَانُ الآبَـاءِ والأجْـدادِ
سِـرْ إنِ اسْطَعتَ في الهَوَاءِ رُوَيداً لا اخْـتِيالاً عَـلى رُفَـاتِ العِبادِ
رُبّ لَـحْدٍ قَـدْ صَارَ لَحْداً مراراً ضَـاحِكٍ مِـنْ تَـزَاحُمِ الأضْدادِ
وَدَفِـيـنٍ عَـلى بَـقايا دَفِـينٍ فـي طَـويلِ الأزْمـانِ وَالآبـاءِ
فـاسْألِ الـفَرْقَدَينِ عَـمّنْ أحَسّا مِـنْ قَـبيلٍ وآنـسا مـن بلادِ
كَـمْ أقـامَا عـلى زَوالِ نَـهارٍ وَأنــارا لِـمُدْلِجٍ فـي سَـوَادِ
تَـعَبُ كُـلّها الـحَياةُ فَـما أعْجَـبُ إلاّ مِـنْ راغبٍ في ازْديادِ
إنّ حُـزْناً فـي ساعةِ المَوْتِ أضْعَافُ سُـرُورٍ فـي سـاعَةِ الـميلادِ
خُـلِقَ الـنّاسُ لـلبَقَاءِ فضَلّتْ أُمّــةٌ يَـحْـسَبُونَهُمْ لـلنّفادِ
إنّـما يُـنْقَلُونَ مِـنْ دارِ أعْـمالٍ إلــى دارِ شِـقْوَةٍ أو رَشَـادِ
ضَـجْعَةُ المَوْتِ رَقْدَةٌ يُستريحُ الجِـسْمُ فيها والعَيشُ مِثلُ السّهادِ
كـيفَ أصْبَحتَ في مَحلّكَ بعدي يـا جَـديراً مـنّي بحُسْنِ افتِقادِ
قـد أقَـرّ الـطّبيبُ عَنْكَ بِعَجْزٍ وتَـقَـضّى تَــرَدّدُ الـعُـوّادِ
وَانْتَهَى اليأسُ مِنكَ وَاستشعَرَ الوَجْدُ بـأنْ لا مَـعادَ حـتى الـمعادِ
هَـجَدَ الـسّاهرُونَ حَوْلَكَ للتمْريـضِ وَيـحٌ لأعْـيُنِ الـهُجّادِ
أنـتَ مِن أُسْرةٍ مَضَوْا غَيرَ مَغْرُوريـنَ مِـنْ عَـيشَةٍ بِذاتِ ضِمادِ
فَـعَزيزٌ عَـليّ خَـلْطُ الـلّيالي رِمَّ أقـدامِـكُمْ بِـرِمّ الـهَوَادي
كُـنتَ خِـلّ الصِّبا فلَمّا أرادَ البَـينَ وَافَـقْتَ رأيَـهُ فـي المُرادِ
ورأيـتَ الـوَفاءَ للصّاحِبِ الأوَّلِ مِـنْ شـيمَةِ الـكَريمِ الجَوادِ
وَخَـلَعْتَ الـشّبابَ غَضّاً فَيا لَيْتَــكَ أَبْـلَـيْتَهُ مَـعَ الأنْـدادِ
فـاذْهَبا خـير ذاهـبَينِ حقيقَيْن بِـسُـقْيا رَوائِــحٍ وَغَـوَادِ
ومَــراثٍ لَـوْ أنّـهُنّ دُمُـوعٌ لـمَحَوْنَ الـسّطُورَ فـي الإنْشادِ
والـفَتَى ظاعِنٌ ويَكفيهِ ظِلُّ السَّـدْرِ ضَرْبَ الأطْنابِ والأوْتادِ
بـانَ أمْـرُ الإلَـهِ واختَلَفَ النّاسُ فَـداعٍ إلـى ضَـلالٍ وَهَـادِ
والّـذي حـارَتِ الـبَرِيّةُ فِـيهِ حَـيَوَانٌ مُـسْتَحْدَثٌ مِـن جَمادِ
والـلّبيبُ الـلّبيبُ مَنْ لَيسَ يَغْترُّ بِـكُـوْنٍ مَـصـيرُهُ لـلفَسادِ
أبو العلاء المعري واسمه أحمد بن عبد الله بن سليمان
( 363-449 )
يعد شعره من أفضل الشعر في العصر العباسي
الذي عاش حياة قاسية جدا..إذ فقد بصره في صغره وفقد والده بعمر 14 وفقد والدته عندما كان عائد إليها من بغداد..
هو من الشعراء الذين بنوا لنا صروحا عالية من الأدب..
وهذه القصيدة في رثاء/ الفقيه الحنفي الحلبي تعدّ من أعظم قصائد الرثاء في تراثنا العربي
القديم والحديث ..
والشاعر هنا يتكلم عن الموت والحياة وينظر إليها نظرة الفيلسوف الحكيم .
يبدأ أبو العلاء قصيدته بطرح الفروق بين الموت والحياة فيذكر أن الحياة كالموت , والغناء كالبكاء . يقول :
غيرُ مجدٍ في ملّتي واعتقادي ** نوح باكٍ ولا ترنم شاد
ثم يقول أن صوت نعي الميت والبكاء عليه عند وفاته شبيه بصوت البشير الذي يبشر به عند ولادته في كل الأماكن والمجالس , ويشبّه الصوتين والتشابه بينهما بصوت الحمامة عندما تنوح فوق الأغصان , فنحن لا نعلم أحزينة هي أم سعيدة :
وشبيهٌ صوت النعيّ إذا قِيـ ** س بصوت البشير في كل ناد
أبَكَت تلكم الحمامة أم غـ *** نّت على فرع غصنها الميّاد
ثم يقول : يا عاقل و يافهيم! إذا كانت قبورنا نحن في حاضرنا تملأ الأرض الرحبة وفي كل مكان !!
فكيف بقبور الذين سبقونا ؟؟
لا شك أن الأرض عبارة عن مقبرة كبيرة ! :
صاح هذي قبورنا تملأ الرُحـ ** بَ فأين القبور من عهد عاد
ثم يقول لك أيها الحافظ لتراث أبائه وأجداده ألا يجدر بك أن تحترم رفاتهم وتقدر بقاياهم فقبيح بك أن تهينهم و إن طال العهد !!
وأقل ذلك أن تخفف من وطئك على الأرض فلا أظن ترابها إلا من أجساد أسلافك الذين سبقوك :
خفف الوطء ما أظن أديم الـ ** أرض إلا من هذه الأجساد
وقبيح بنا وإن قدُم العهـ ** د هوان الآباء والأجداد
ثم يذكر لك حلاً لذلك , فيقول لك :
إن استطعت أن تسير في الهواء على مهل فافعل ، بدلاً من أن تمشي باختيال على رفات وبقايا العباد !! :
سر إن اسطعت في الهواء رويداً ** لا اختيالاً على رفات العباد
ويقول في البيت التالي :
رب لحد قد صار لحداً عدة مرات حيث وضع فيه ميت وبعد فترة وضع فيه ميت آخر وهكذا !!
حتى إن اللحد نفسه ليضحك من كثرة من مر عليه من الأموات المتضادّين في الصفات مابين صالح وطالح وخير وشرير وذكي وأحمق وكريم وبخيل ... الخ , ويقول أيضاً أنه قد يدفن جسد في بقايا جسد سابق على مر العصور والسنين :
رُب لحدٍ قد صار لحداً مرارا ** ضاحكٍ من تزاحم الأضداد
ودفينٍ على بقايا دفين ** في طويل الأزمان والآباد
وبعدما بين لنا الشاعر أن تراب الأرض ماهو إلا بقايا من سبقونا , يحثنا هنا على سؤال الفرقدين وهما نجمان في بنات نعش الصغرى
"الدب الأصغر "، عن الأقوام والجماعات التي أقامت وارتحلت قبلنا , وعن البلاد التي أبصراها على مر الزمن , ويقول لك أيضاً إسألهما كم مرة مر عليهما منظر غروب الشمس وكم من مرة أنارا للسائرين في الظلمات واهتدى بهما التائهون في الصحراء السوداء ؟! :
فاسأل الفرقدين عمّن أحسّا ** من قبيلٍ وآنسا من بلاد
كم أقاما على زوال نهار ** وأنارا لمدلج في سواد
وفي البيت التالي يفجر الشاعر الحكيم قنبلة , حيث يقول أن الحياة الدنيا كلها تعب وشقاء , و أعجب شيء يحصل فيها هو حب الناس لها ورغبتهم في الزيادة منها مع أن كلها شقاء وتعب :
تعبٌ كلها الحياة فما أعـ ** جب إلا من راغبٍ في ازدياد
ثم يوضح لنا الشاعر بعد ذلك أمراً مهماً يدل على أن الحياة كلها تعب وعناء , فيقول إن الإنسان عند وفاته يحزن عليه الناس حزناً أضعاف ما سعدوا به عند ولادته :
إنّ حزناً في ساعة الموت أضعا**ف سرورٍ في ساعة الميلاد
وهنا ينتقد الشاعر على الأقوام التي تظن أن الناس قد خلقوا للفناء و أن الموت هو المحطة الأخيرة وأنهم لن يبعثوا . ويقول لهم: أن الناس إنما ينتقلون من الحياة الدنيا إلى الحياة الآخرة والتي إما أن تكون دار سعادة وإما أن تكون دار شقاء .
خُلق الناس للبقاء فضلّت ** أمة يحسبونهم للنفاد
إنما ينقلون من دار أعما ** لٍ إلى دار شِقوة أو رشاد
ثم يشبه الشاعر الموت بالنوم , والعيش بالسهر . فيقول أن ضجعة الموت إنما هي رقدة يستريح بها الجسم من الحياة التي هي مثل السهر المؤرّق وهو السهاد :
ضجعة الموت رقدة يستريح الـ ** جسم فيها والعيش مثل السهاد
المصدر: منتديـات العوالـق للموروث الشعبـي - من قسم: ~منظرة الادب العــــــــــام~