معرفة اللغة العربية أمر نسبيّ
أ. د. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
www.yle.fi/teema/ylenavoin/keskustelu.html
في هذا الموقع الفنلندي لمحطة الإذاعة، جرت مراسلة قصيرة في الواحد والعشرين من شهر كانون الثاني لعام 2005 وهذه ترجمتها للعربية ليطلع عليه القارىء العربي وكل من يعرف العربية في كل مكان والتعليق على فحواها، عيش كتير بتشوف كتير:
أنا مسلم: ألا يوجد مختصّون مسلمون في فنلندا يمكن إحضارهم إلى البرنامج لشرح أمور متعلقة بالإسلام لنا؟ إن هيكي بالفا وهمين-أنتلا مسيحيان وخلفيتهما تؤثر على آرائهما، أضف إلى ذلك، همين-أنتلا لا يعرف العربية بالرغم من كونه أستاذا، بروفيسورا، لها. أهناك من مستغرب مستهجن؟
وفي الثامن والعشرين من الشهر ذاته علّق الوقواق الأبله قائلا: لقد شتّ هذا عن الموضوع ولكن بما أن لدينا في النقاش خبيرا خاصّا فقد وجهتُ السؤال الذي أثاره المسلم مستوضحا، فيما إذا كان إدعاؤه في محله، أي أن أستاذ اللغة العربية الحالي في جامعة هلسنكي لا يعرف العربية، وهذا حقا قول شديد الخطورة. والأستاذ بالفا يعرفه فهو السابق في المنصب والآخر اللاحق، مع الشكر سلفا على الإجابة.
وفي اليوم نفسه وبعد أقل من ساعة على توجيه السؤال ردّ بالفا مجيبا:
عزيزي الوقواق الأبله، الإجابة على سؤالك تتوقّف على ما هو المقصود بقولنا معرفة اللغة. لا أحد، لا عربي ولا أي انسان آخر يسيطر على كافة أنماط اللغة العربية، وعليه فإن مقدرة كل واحد محدودة. الأستاذ همين ـأنتلا كباحث في اللغة العربية مطّلع، قبل كل شيء، على الفيلولوجيا العربية والأدب العربي الكلاسيكي، وهو مترجم لهذا الأدب وكذلك الأدب الحديث ولا ريب في أنه يعرف لغة تلك النصوص. إنه لم يكن بحاجة في أبحاثه إلى اللغة المحكية وهذا في اعتقادي يؤثر على الجانب اللغوي العملي لديه. ومن الجيد التذكر انه في الحالات والمناسبات غير الرسمية تستخدم العربية المحكية بلهجاتها المتباينة وهي لغة الأم الحقيقية لدى العرب وهي بعيدة جدا عن اللغة الأدبية ، لغة العرب الثقافية. إن القدرة في اللغة العربية هي دائما جزئية.
مع تحياتي، هيكّي
أودّ في هذا السياق التنويه بالحقائق التالية والتي قد تسلّط بعض الضوء على ما جاء أعلاه
أولا: الأستاذ بالفا كان أستاذ همين أنتلا ومرشدَه في إعداد أطروحة الدكتوراة.
ثانيا: مما ترجم همين أنتلا للفنلندية القرآن الكريم.
ثالثا: الكتاب الأدبي الحديث الذي ترجمه همين-أنتلا إلى الفنلندية هو رواية حنان الشيخ، إنها لندن يا عزيزي ولا ذكر للغة المترجم منها.
رابعا: لا وجود لأي بند في السياسة الأكاديمية يقضي بوجوب معرفة الأستاذ للغة التي يدرّسها علما وعملا، أي من الناحية النظرية والناحية التطبيقية على حد سواء. ولا يختلف اثنان في أن معرفة أية لغة حية تعني أول ما تعني التحدث بها، ثم القراءة والكتابة.
خامسا: الترجمة من لغة أجنبية إلى لغة الأم لا تعني بالضرورة السيطرة العملية على لغة الأصل وهذا من الأمور البدهية في اللغويات. هناك مترجمون لا حصر لهم للعربية إلى لغات مختلفة وهم لا يتكلمون العربية البتة، وينسحب الأمر ذاته بالنسبة لباحثين في اللهجات العربية الحديثة.
سادسا: في الواقع معرفة أي شيء في العالم هو جزئي والعلم للخالق للباري وحده.
سابعا: لا بدّ من قول الحقيقة كاملة وعارية دون رتوش أو دبلوماسية ليست في محلها.
ثامنا: إني عرفت أستاذا فنلنديا فذا، يوسّي أرو (١٩٢٨-١٩٨٣)، رحمه المولى، وقد امتلك ناصية العربية المحكية الشامية والأدبية كابن قحّ لها. معيار معرفة اللغة أية لغة قد يكون مثلا إلقاء محاضرة مرتجلة أمام مختصّين في مجال التخصّص لمدة نصف ساعة بدون تحضير مسبق والإجابة على الاستفسارات والتعليقات، وفي اللهجة القدرة على التحدث مع ناطقيها الأصليين لا سيما الأطفال بسلاسة ودون عناء.