برج بابل وبلبلة اللغات
حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
في البداية أُثبت ما ورد في سفر التكوين ١١: ١-٩، لمن لا يعرف القصّة بشكل كامل ودقيق، وقد يكون عددهم كبيرًا.
١) وكان لأهل الأرض كلّها لغةٌ واحدة وكلام واحد.
٢) فلمّا رحلوا من المشرق وجدوا بقعةً في سهل شِنْعار، فأقاموا هناك.
٣) وقال بعضهم لبعض: تعالوا نصنع لِبْنًا ونشويه شيّا، فكان لهم اللِّبْن بدل الحجارة والتراب الأحمر بدل الطين.
٤) وقالوا: تعالوا نَبْنِ لنا مدينة وبرجًا رأسُه في السماء. ونُقِمْ لنا اسمًا فلا نتشتّتُ على وجه الأرض كلِّها.
٥) ونزل الربّ لينظرَ المدينة والبرج اللذين كان بنو آدمَ يبنونهما.
٦) فقال الربّ: ها هم شعب واحد، ولهم جميعًا لغةٌ واحدة! ما هذا الذي عمِلوه إلا بدايةً، ولن يصعُبَ عليهم شيء ممّا ينْوون أن يعملوه!
٧) فلننزلْ ونُبلبلْ هناك لغتَهم، حتى لا يفهمَ بعضُهم لغةَ بعض.
٨) فشتّتهمُ الربُّ من هناك على وجه الأرض كلِّها، فكفّوا عن بناء المدينة.
٩) ولهذا سُمّيت بابل، لأنّ الربَّ هناك بلبل لغة الناس جميعًا، ومن هناك شتّتهم الرب على وجه الأرض كلِّها (ترجمة: سميث وفاندايك، بيروت: دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط، ط. ١، ١٩٩٣، ص. ١٢؛ عن فاندايك أنظر: /المستشرق-كرنيليوس-فان-دايك-مترجم-الكتاب-المقدس-للعربية/http://www.calam1.org/a/3313/ )
موضوع ”دراسة أصل اللغات“ (glottogony) قديم العهد، ولكن لا نصيبَ له في الدراسات اللسانية الجادّة في أيّامنا، وهو من أعقد القضايا في العالم. هناك فرضيات لا حصر لها، حول هذا الموضوع. يعود تاريخ ظهور الإنسان البدائيّ (Early Homo) إلى ما قبل ٢،٥ إلى ٠،٨ مليون سنة. من المعروف، أنّ ثمة نظريتين أساسيتين بخصوص مصدر لغات البشر، أإلهام هي أم اصطلاح، أي هل هي من وحي الله وتوقيفه، أم من تواضع الإنسان واصطلاحه. وتُساق عادة الآيتان: ”فسمّى آدمُ جميعَ البهائم وطيورَ السماء وجميع حيوانات البرية بأسماء، ولكنه لم يجد بينها مثيلا له يعينه“ (سفر التكوين ٢: ٢٠)؛ ”وعَلّم آدمَ الأسماءَ كلَّها ثم عرضهم على الملائكة...“ (سورة البقرة ٣٢)، للبرهنة على صحّة النظرية الأولى، ويجوز أن يكون المعنى هنا، أن الله أقْدر الإنسانَ على ذلك (ينظر في تفاسير كلا الكتابين؛ ينظر أيضا في: أبو الفتح عثمان بن جني، الخصائص، تحقيق محمد علي النجّار، ج. ١، ط. ٢، بيروت: دار الهدى للطباعة والنشر، ١٩٥٢، ص. ٤٠-٤٨، ابن جنّي لا يبتّ في هذه المسألة وينهي قوله بـ ”فأقف بين تين الخَلّتين حسيرا، وأكاثرهما فأنكفىء مكثورا، وإن خطر خاطر فيما بعد، يعلّق الكفّ بإحدى الجهتين، ويكفها عن صاحبتها، قلنا به، وبالله التوفيق“، وانظر ج. ٢، ص. ٢٨- ٤٠). وهناك نظرية اكتسبت بعض المؤيدين وهي ”محاكاة الطبيعة“ (Onomatopeia)، أي تقليد الإنسان لأصوات الطبيعة، الأمّ. في تاريخ الجنس الآدمي، كانت مجتمعات كثيرة حسبت بأن اللغة هبةٌ من الآلهة، كما ورد أعلاه في سفر التكوين. اللغة ظاهرة متأخّرة نسبيًا، إذ أنّها ظهرت للمرة الأولى قبل خمسين ألف سنة تقريبا، ولا وجود للغات بدائية.
قصّة برج بابل ذات الآيات التسع الأولى قديمة وغامضة، ولذلك هناك كم هائل من التفاسير. إنّها تعود إلى عام ٢٤٠٠ ق.م. وفي أسلوبها ضبابية معيّنة، مثلًا عدم ذكر الاثم الذي اقترفه مشيّدو البرج؟ بناء الناس لبرج عالٍ جدّا يصل رأسه إلى عنان السماء (قارن سفر التثنية ١: ٢٨)، لم يرُق ليهوه (יהוה، Jehova, Yahwe، أنظر سفر الخروج ١٨: ١١؛ مزمور ٨٦: ٨)، إله بني إسرائيل (كموش كان إله موآب وداجون إله الفلسطينيين؛ يُذكر أن المفسّر والناقد حيوي البلخي في القرن التاسع للميلاد، اعتبر ’يهوه‘ أنه إنسان، وألّف البلخي كتابا يضمّ ٢٠٠ سؤال أو اعتراض، ضد الله وضد أُلوهية الكتاب المقدس، منها: لماذا خشي الله من بُناة برج بابل ولماذا امتحن إبراهيم الخليل البار؟ واعتبره اليهود والقرّاؤون من الهراطقة وسموه الكلبي احتقارًا له؛ لم يصلنا هذا الكتاب ومعرفتنا عنه مستقاة من مؤلفات ناقديه ومعايشيه الأشداء، مثل أبي سعيد الفيومي ٨٨٢-٩٤٢م. وأبراهام ابن عزرا ١٠٩٢-١١٦٧م.) لأنّ القدرة التي منحها الخالق لخلقه، على ما يبدو، قد استخدمت ضدّه، للتمرّد عليه، ولمنافسته على السلطان (رأي رابي داڤيد قمحي مثلا)، فنزل وبلبل لغاتِهم لمنعهم من إكمال بناء البرج والمدينة. منذ ذلك العهد، صار للناس لغات مختلفة، وتبدّدوا في أصقاع شتّى. تذهب الكثير من التفاسير المسيحية إلى أن قصة برج بابل تعكس غرور الإنسان وغطرسته. ومن المعروف أنّ سفر التكوين يحتلّ مكانة مرموقة في الكنيسة، ولا سيّما في الكنيسة الأولى، إذ تهافت الآباءالأوائل على تفسيره بل واعتبرت بعض نصوصه بمثابة إنجيل سابق؛ ففي نظرهم آدم هو المسيح الأوّل؛ وملكي صادق يرمز إلى المسيح؛ والطوفان يدل على طقس المعمودية.
تُعنى هذه القصّة في موضوع جوهري بالنسبة للبشرية. إنّها تصف التحوّل البشري من حالة الاتّحاد والوحدة إلى الافتراق والفرقة، وهذه الحالة الثانية حافظت على بقاء العالَم وأنقذته من الزوال. يبدو أن بداية هذه القصّة، هي اعتداد الإنسان بنفسه وبقدراته الذاتية للتمرّد على خالقه، في حين أن بدايتي قصّتي الطوفان وسادوم وعاموره، تنمّان عن تفاقم الفساد والشرّ (أنظر سفر التكوين ٦؛ ١٨). وممّا يجدر ذكره أن القصة التالية لقصة البرج هي قصة أبينا إبراهيم الخليل من ذرية سام، وهو الشخص الأوّل الذي انتقاه الله لقيادة شعب الله. والإصحاح العاشر، السابق لإصحاح قصة المدينة والبرج، يتحدّث عن تفرّق الأمم واختلاف لغاتها، ومن الواضح هنا عدم تبنّي ترتيب زمني في إصحاحات سفر التكوين.
قيل هناك أيضا، إن تأثيل (Etymology) الاسم ’بابل‘ هو بلبلة الألسن، لذلك دُعي اسمُها ’بابل‘، لأنّ الإله هناك بلبل لسانَ كل أهل الأرض (سفر التكوين ١١: ٧، ٩). لا شكّ في أنّ هذا التأثيل يندرج في خانة التأثيلات الشعبية (Folk Etymology) وهي كثيرة ولا يعوّل عليها علميّا. هذه الآية تقول إنّ الاسم ’بابل‘ (בבל, باڤيل في العبرية) مشتقّ من الفعل العبري ’بلل‘ (בלל) ومعناه ’بلبل‘. وفي العهد الجديد أُطلق الاسم ’بابل‘ على ’’مدينة الوحش‘‘ في سفر الرؤيا ١٤: ٨-٩.
يُشار إلى أنّ قدماء جزيرة العرب كانوا يؤمنون بإله خاصّ بالبلبلة، اسمه آل بلال، وبإله آخر خاصّ بالكلام اسمه آل لسان، وكان الأخير هو الأول فمنح العالم لغة واحدة، إلا أن يهوه لم يرغب في ذلك، لأن الوحدة اللغوية لبني البشر تؤول إلى الابتعاد عن الخالق وعن إرادته. لذلك تحالف يهوه مع آل بلال لبلبلة الألسن، ويذكر أن هناك قرية تحمل الاسم ”آل بلال“ في منطقة الطائف في الحجاز. (أنظر: كمال صليبي، خفايا التوراة وأسرار شعب الله، ص. ٨٨-٨٩، وهذا الكلام، ليس بعيدا عن روح الأسطورة).
معنى ’بابل‘ الحقيقي، هو ’’باب الآلهة‘‘ وأصله من اللغة الأكّادية، أقدم اللغات السامية، ”باب ايليم“ وهو ترجمة للفظة السومرية ’كادنجرا‘ وفي اليونانية ’ Βαβυλὼν، بابيلون‘. لعبت بابل دورا مهما في العهد القديم، ويتجلّى ذلك مثلا في ورود هذه اللفظة أكثر من ٢٠٠ مرة في أسفار العهد القديم. وفي الأساطير السومرية ذكر لوجود لغة واحدة في بداية الخليقة؛ وذلك في أعقاب الخصام الذي نشب بين الإلهين أنليل من جهة وأنكي، إله الحكمة، من الجهة الأخرى، وطلب أنكي من البشر عدم الصلاة لأنليل، ولذلك بلبل ألسنتهم. على ضوء الكتاب المقدس ثمّة حد فاصل بين الخالق وخلقه، الأول في السماء والثاني على الأرض. بدأ التدهور الخطير في العلاقة ما بين الله والإنسان في قصّة جنّة عدن (سفر التكوين ٢، ٣)، واستمرّ إثر قتل قايين لأخيه هابيل (سفر التكوين ٤).
اعتاد البابليون بناء برج شاهق في كل مدينة كبيرة مقدّسة، ومنه كانت تصعد الآلهة إلى السماء وتنزل إليه، ومن هنا انبثق الاسم ”باب الله“، أنظر سفر التكوين ٢٨: ١٧. بعد نهاية الطوفان بدأت ذريّة نوح والإنسانية الموّحدة لغويّا والمهاجرة من الشرق (מקדם، في عدّة ترجمات عربية مسيحية للعهد القديم تُرجمت هذه اللفظة ’شرقا‘ وهذا خطأ) إلى أرض شنعار التوراتية (أنظر سفر العدد ٢٣: ٧)، وهناك اتّفق على بناء البرج ليكون مركزهم، بل ومركز العالم بأسره، وليكون لهم اسم وشهرة ومجد. هذا ’الاسم‘ بمعنى الشهرة والمجد والسؤدد، يتكرر في كل المواضع الأخرى المذكورة في أسفار العهد القديم ويعود إلى الله، الخالق، أما هنا، في قصة برج بابل، فالمجد بشري. مشيئة الله اقتضت انتشار بني آدم في كل بقعة على وجه الأرض لتعميرها، كما جاء في سفر التكوين ١: ٢٨ ”وباركهم الله، فقال لهم: أنموا واكثروا واملأوا الأرض وأخْضعوها وتسلّطوا على سمك البحر وطير السماء وجميع الحيوان الذي يدِبّ على الأرض“. فرّق الله ذُريّةَ نوح المذكورة في سفر التكوين ١٠ على وجه كل اليابسة، ويبدو أن سفر التكوين ١٠: ٥ و ١١: ٩ يتحدّثان عن الأمر ذاته، كما ورد في التفاسير اليهودية والمسيحية.
من المحتمل أن يكون برج بابل نوعًا من الزيجورات، أي الهياكل الهرمية المكوّنة من سبعة طوابق، وكل طابق يكون أضيق من سالفه، وكان ارتفاعها حوالي ١٠٠م، وقد بنيت للإله مردوخ (أو مردوك، نمرود بن كوش بن حام). وهذا البرج كان، بلا ريب، تجسيدًا لإنجاز بشري عظيم في تلك الحقبة الزمنية، إنّه من عجائب الدنيا السبع، ولكنّه كان، في الأساس، نصبًا تذكاريا للناس وليس للخالق. ويلاحظ أنه في العهد الجديد، تكلم الرسُل بخمس عشرة لغة في يوم الخمسين، عند حلول الروح القدس في العلية في أورشليم، ومن ضمن تلك اللغات كانت العربية (أعمال الرسل ٢: ٩-١١).
الجدير بالملاحظة أن عبارة ”برج بابل“ لا ترد في الكتاب المقدس، بل نجد دائمًا ”المدينة والبرج” أو ’المدينة‘ فقط، ومع هذا يستعمل الناس كافّة العبارة المذكورة . وقصة ”برج بابل“ تروي بداية بلبلة الألسن، والمقصود نشأة لغات مختلفة، وفحواها تدور حول المنافسة بين الله والبشر، كما هي الحال في قصة آدم وحواء في جنّة عدن. ويصف المؤرخ اليهودي فلاڤيوس يوسيفوس، ابن القرن الأول للميلاد، بناء البرج بأنّه ينمّ عن كبرياء وتعجرف، ابتغاه الطاغية نمرود أن يكون تحدّيا لله، وأن ذلك البرج جاء لحماية الناس من ويلات الطبيعة. وفي مستهلّ القرن العشرين، عثر عالِم آثار ألماني على بقايا البرج. واسم البرج كان إتِمِنانكي ومعناه ”حجر الزاوية“ بالنسبة للسماء والأرض، وكانت المدينة ’إِساچيله‘ (Esagila) آنذاك، مركز العالم دينيا. منذ ذلك العهد وفي غضون الخمسة آلاف سنة الأخيرة والإنسان يُجابه الطبيعة، ويسعى لحماية نفسه منها. كما أن الحاجة للكلام، برزت من جرّاء الهوّة التي فصلت المخلوقات عن بعضهم البعض. أنانية الإنسان المتفاقمة أبعدته عن الطبيعة لأنه يُصارعها.
من الآراء والشروح التي قيلت في هذا الموضوع: حاول بانو البرج تفادي مخاطر حدوث طوفان جديد؛ أراد بنو البشر اجتياز الحدّ الفاصل ما بين الله وبينهم، وهذا التكبّر والتعجرف أدّى إلى السقوط. لم يتّعظ الإنسان، لا من قصّة الطوفان، ولا من طرده من الفردوس. لماذا اعتبر الله اتّحاد البشر اثمًا وتهديدًا له؟ يجيب حكماء اليهود بقولهم إن ذلك الاتّحاد كان منصبّا على فعل الشرّ، تمرّد ضد الباري، وسعيهم ليكونوا كالإله، وربما السيطرة بدله على العالَم، ولذلك عاقبهم الله بالتشتيت وببلبلة ألسنتهم. حمل جيل نوح اسم ”جيل الطوفان“ (דור המבּוּל) أما جيل برج بابل فدُعي باسم ”جيل الانقسام“ (דור הפְּלָגָה). رمى أبناء جيل الانقسام إلى وضع تمثال وبيده سيف، على رأس البرج، وبهذا التخطيط كانوا كأنهم أعلنوا شنّ الحرب على الخالق. الله أمر بني آدم الانتشار والاستيطان في شتّى البقاع، أمّا هم فأرادوا العيش معا في مكان واحد وهذا غير ممكن. وحدة وتجمّع من هذا القبيل بدون مثل أعلى روحاني، مآلهما عند الخالق التفرّق والتشظي والتبعثر في الجهات الأربع. البرج كان رمزًا لعبادة الأوثان وربما ليكون الناس قريبين من آلهتهم، نجوم السماء؛ والطوفان جلب مصيبة عظمى ليس على الإنسان فحسب، بل وعلى وجود الله في قلوب العباد. البرج بمثابة تمرّد ما على الأُلوهية ويمثّل الدافع الآدمي للدفاع عن النفس إزاءَ الطبيعة و/أو الله.
هناك من يذهب إلى أن قصة برج بابل وبلبلة الألسن حقيقة، وبالطبع هناك من ناحية ثانية من يقول إنّها أسطورة من ضمن الأساطير التي كانت سائدة لدى الشعوب القديمة، مثل الإغريق والأشوريين . تعود فكرة بناء البرج لنِمرود الجبّار ابن حام ونسله، وآثاره باقية في مكان يُدعى بورسيبا أي برج الألسنة. واعتقد أفلاطون (٤٢٧-٣٤٧ ق.م. Πλάτων) أن البشر كانوا يتحدّثون لغة واحدة إلا أن جوبتر بلبل ألسنتهم لأنهم طمعوا في أن يصبحوا في عداد الخالدين (نجيب جرجس، تفسير الكتاب المقدس، سفر التكوين، ص.١٩٢). حول تلك اللغة الأولى لآدم وذُريته لا إمكانية موضوعية للوقوف على هويّتها إلا أن هناك رأيين، يقول الأوّل بأنها العبرية أما الثاني فيذكر الكلدانية (السريانية).
وفي القرن الرابع للميلاد أتى يوحنّا الذهبي الفم (John Chrysostom, ٣٤٧-٤٠٧) في تفسيره لسفر التكوين آية فآية على مسألة بناء برج بابل باختصار شديد ويقول، كانت لغة واحدة لكل الناس إلا أن الطبيعة البشرية ’طمّاعة‘ ”تقدم إلى العظائم وتصبو إلى الجسائم“ والناس في آخر المطاف يهوون إلى القاع. إنهم أساؤوا استخدام الاتفاق اللغوي فأرادوا الشهرة والجاه، ويعلّق يوحنا على ذلك قائلا الأجدى توزيع المقتنيات على الفقراء. الله تمهل كثيرًا على البانين ولكن بدون جدوى لذلك ”بادر بالمشرط ليستأصل بالكمال سبب المرض“، أي بلبلة الألسن. (http://arabic.coptic-treasures.com/patrology/john-chrysostom.php).
تطرق بطريرك الإسكندرية، المؤرّخ والطبيب المصري أوِثيخوس (Eutychius of Alexandria) المكنّى سعيد بن البطريق (٨٧٧-٩٤٠م)، من أوائل المصريين الذين كتبوا بالعربية، إلى موضوع برج بابل باختصار. في كتابه ”نظم الجوهر، أو تاريخ ابن البطريق“ ( Scriptores Arabici Textus Series Tertia - Tomus VI, Eutychii Annales) متوفّر على الشبكة العنكبوتية، ص. ١٦-١٨ ) يقول ما عصارته: بعد وفاة سام بن نوح الذي عاش أربعمائة سنة، كانت هناك لغة واحدة وكلام واحد، وتلك اللغة كانت إما السريانية أو العبرية أو اليونانية وابن البطريق يقول إنها الأخيرة ”واليونانية هي الصحيحة لأنها احكم واعرض واوسع من العبرية والسريانية“. قال الناس ”لنبني مدينة ونحصنها بحصن ونبني فيها برجا يبلغ إلى السماء لئلا يكون طوفان يوما ما فنتخلص (مخ. آخر: فنخلص) منه “. استغرق ذلك البناء ٤٠ عامًا، وكان علوّه (في الأصل: رفع) عشرة آلاف باع؛ ”بعث الله عليهم ملاكا من السماء فبلبل عليهم السنتهم وغير عليهم لغتهم“. كما ويفصّل ابن البطريق أولائك الناس وعددهم اثنان وسبعون: من بني سام ٢٥ رجلا؛ من بني حام ٣٢ رجلا ومن بني يافت ١٥ رجلا. كما ويذكر أماكن سكناهم ويعدّد الشعوب وخطوطها.
بنو سام: منهم السريان وديار ربيعة والجزيرة والجرامقة والكلدانيون وهم اهل بابل وفارس وخراسان وفرغانة والسند والهند وجزيرة الصين والعبرانيون واليمن والطائف واليمامة والبحرين واجناس العرب؛ سكنوا من الفرات والموصل الى اقصى المشرق؛ ولهم من البحار الفرات ونهر بلخ؛ ولهم ٨ خطوط: عبراني، سرياني، فارسي، هندي، كلداني/بابلي، صيني، حميري، عربي.
بنو حام: منهم الكنعانيون والفلسطينيون واهل مصر والقبط ومريس واجناس السودان والحبشة والنوبة والبجاة والزنج والزط وقران والسامرة والزابج والمغاربة والبربر؛ سكنوا في الشام وتسمى ارض كنعان؛ لهم من الجزائر ست وعشرون جزيرة منها سردانية ومالطة واقريطش وبعض جزيرة قبرص؛ ولديهم ٦ خطوط: مصري، نوبي، حبشي، فرنجس، فتونكس وقنقلي.
بنو يافت: منهم الترك والبجناك والطغرغر والتبت وياجوج وماجوج والخزر واللان والانجاز والصنابرة وجرزان وارمينية الكبيرة وارمينية الصغيرة وحوران وانطاكية والخالدية وافلاغونية وقبادوكية وخرشنة واليونانيون والروم وبزنطية والروس والديلم والبلغار والصقالبة والانكبردة والافرنجة والجلستين والاندلس؛ سكنوا من دجلة إلى أقصى الشمال؛ لهم من الجزائر ١٢ جزيرة منها رودس وسقلية وقبرس وسامس ومن البحار دجلة؛ ولديهم ٦ خطوط: يوناني، رومي، ارمني، اندلسي، افرنجي، وجرزاني.
أقدم الأحافير اللغوية، السجلات المكتوبة، وفق ما ذُكر في دائرة المعارف البريطانية، تعود إلى أربعة آلاف أو خمسة آلاف عام تقريبا، وموقعها شنعار القديمة، في جنوب بلاد ما بين النهرين. لا يقول الكتاب المقدس إن كل اللغات العصرية تعود في الأصل إلى لغة أمّ واحدة، بل يتحدّث عن ظهور مفاجىء للكثير من اللغات المختلفة.
يبين الكتاب المقدس أن آدم تمكّن من ابتكار كلمات جديدة عندما سمّى الحيوانات (سفر التكوين ٢: ٢٣؛ ٣: ١-٣)؛ ويخبرنا كذلك أن يهوه بعد الطوفان بخمسمائة سنة، بلبل لغة البشر في بابل، لأنهم تمرّدوا عليه وتعجرفوا (سفر التكوين ١١: ٤-٧)، لكنّه وعد بتحويل الشعوب إلى لغة نقية ليخدموه متكاثفين ”ففي ذلك اليوم أجعلُ للشعوب شفاهًا طاهرة ليدعوا باسم الرب ويعبدوه بقلب واحد“ (صفنيا ٣: ٩). قد يوحّد الله البشر مستقبلًا بمنحهم لغة واحدة مشتركة، بعكس ما فعل في زمن بناء برج بابل. نظرية وجود لغة بشرية واحدة لكل الناس، كما ذكر في الكتاب المقدس، موجودة في بلدان أخرى في العالم، مثلا في قبيلة تقطن مرتفعات ميانمار/بورما؛ لدى سكان إفريقيا الأصليين؛ وفي شرق آسيا وفي المكسيك (The Toletic Pyramid of Cholula).
يقول الحكيم صدقة السامري (ت. بُعيد ١٢٢٣م.) في تفسيره لسفر التكوين ١١: ١-٩ أن اللغة الواحدة المذكورة هي اللغة المقدّسة، العبرية و”دبريم أحديم“ أي اعتقاد واحد وهو التوحيد، ويستطرد قائلا إن الناس بعد خروجهم من السفينة، سكنوا في الخيام وانتقلوا من الشرق إلى العراق، على ضفاف النهرين. ويذكر أنهم أرادوا بناء برج عال كي يهتدي به الضالون (هذا رأي أبراهام ابن عزرا أيضا) وليصير لهم سمعة، وهناك من ذهب إلى أن البناة نقشوا أسماءهم على لبناته. بدأ أولائك الناس بالبناء بدون استشارة الخالق، وبدونه لا يمكن إنجاز أي شيء. وهذه كانت أول خطية بعد الطوفان. والذي نزل لمشاهدة ما يجري كان ملاك الله. ينهي الحكيم تفسيره المختصر بهذه الكلمات:
”فإن قيل هل يجوز نسيان العقلاء اللغة التي قد نشؤوا عليها وتكلّموا بها طول زمانهم، والجواب هذا بعيد وإنما لما حصل الاختلاف وعدموا ما كان بينهم من الائتلاف وأراد كل منهم ستر غرضه وخفاء مقصده عن بعض تواضعوا على لغة يفهم بها ولده وأخوه وصديقه ونسيبه ما في نفسه ويُخفي ذلك عن غيره ولما تناسلوا الأولاد على ما تواضعوا عليه عرفوا هذا ونسوا تلك وقد يجوز أن يكوُن ذلك بقصد من الله فأنساهم لغتهم كما ذكر اليونان أن سنة جاء فناء عظيم فمات خلق كثير والذي سلموا منه نسوا أسماءهم وأولادهم ولغاتهم فإذا كان هذا العارض فلم لا يحدث / ٥٩ أ لاختيار وقصد من الله تشريفًا للغة وتنزيهًا“ (أنظر: :http://shomron0.tripod.com/articles/Sadaqa2.pdf، ص. ١٧-١٨).
إنّ القدرة على الكلام هي من طبيعة الإنسان المولودة فيه. وهناك أوجه شبه أساسية بين كل لغات البشر، السامية والحامية واليافثية، وهذا يدلّ بوضوح على وجود قواعد عالمية (Universal Grammar)، فالطفل ابن الأربع سنوات مثلا، يملِك هذه القواعد المولودة معه ويستغلها جيدا في الكلام. وقد أثبت العلم اللغوي-النفسي الحديث أن المهارة اللغوية سمة طبيعية لدى بني البشر.
والآن، وبعد ما يقرب من الخمسة آلاف سنة، نشهد ظاهرة انقراض اللغات بوتيرة متسارعة جدا. والسؤال الذي يطرحه الكثيرون هو: هل من المفيد للبشرية أن تكون لها لغة واحدة موحّدة كالإنجليزية مثلًا، كما كان الوضع أحادي اللغة بعد الطوفان كما ورد سالفًا؟ يقال إن اللغة المشتركة قد تكون عاملا هامًّا لنشر المحبّة والتفاهم بين الشعوب المختلفة. إذا توفرّت النية الطيّبة والأخلاق النبيلة القائمة على العدل والصدق والمحبّة والمساواة وقَبول الآخر إلخ. فعندها تكون حياة الإنسان أفضلَ وأسمى ممّا لو تكلم الجميع باللغة ذاتها والأطماع والشرّ تعشّش في أفئدة ورؤوس الناطقين بها. من جهة أخرى ، نشهد الآن ثورة الذكاء الاصطناعي (الأتمتة، الروبوتات مثل: شيتاه، موتومان، الشافت، سبوت) وهي سائرة بخطىً متسارعة، وهي تشكّل خطرًا جسيمًا على البشر، ولا سيّما، تفاقم البطالة بشكل مخيف، سيقف الإنسان عندها أمام سؤال جوهري: ماذا ستكون طبيعة حياته بعد عقود قليلة وما هي رسالة حياته وفحواها؟