لأنّ الإنسان شجرة الحقل
ترجمة ب. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
في ما يلي ترجمة عربية لهذه القصّة بالعبرية، رواها إبراهيم بن سعد مفرج المفرجي (سعديه مرحيب المرحيبي، ١٩٠٩-١٩٨٤) بالعربية على بنياميم صدقة (١٩٤٤-)، الذي نقلها إلى العبرية، أعدّها نقّحها، ونشرها في الدورية السامرية أ. ب. - أخبار السامرة، في العددين ١٢٢٦-١٢٢٧، ١٥ كانون ثان ٢٠١٧، ص. ٧٥-٧٩.
هذه الدورية التي تصدر مرّتين شهريًا في مدينة حولون جنوبي تل أبيب، فريدة من نوعها: إنّها تستعمل أربع لغات بأربعة خطوط أو أربع أبجديات: العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ العبري الحالي؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنجليزية (أحيانًا لغات أخرى مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية) بالخطّ اللاتيني.
بدأت هذه الدورية السامرية في الصدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدر بانتظام، تُوزَّع مجّانًا على كلّ بيت سامري في نابلس وحولون، قرابة الثمانمائة سامري، وهناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين بالدراسات السامرية، في شتّى دول العالم. هذه الدورية، ما زالت حيّة تُرزق، لا بل وتتطوّر بفضل إخلاص ومثابرة الشقيقين، بنياميم (الأمين) ويفت (حسني)، نجْلي المرحوم راضي صدقة الصباحي (رتصون صدقة الصفري، ٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).
” قالع شجرة مثمرة كقاتل إنسان
ماذا تقول؟ أشجرة جوز البقّان (Carya illinoinensis) هذه في ساحتنا تضرّكم؟ أتسدّ مواسير تجميع ماء السطح؟ أتملأ ساحتكم بأوراقها اليابسة؟ أتُسبّب لكم فيضانات في داركم؟ أَتُدخل لكم رطوبة في السطح؟ ها، ما في الأمر؟ أرأيت أيّ ضرر تسبّبه لمسكن ابني راتب (باروخ؛ أبناؤه: رزق، ربحي، روحي، راتب، راضي) إنّه أصبح مريضًا بسببها، ومن كثرة التكاليف التي دفعها لتصليح الأضرار التي سبّبتها له شجرتنا! إذًا، ما لك تشكو من أضرارك، في حين أنّ أصحاب الشجرة متضررون أكثر منك، ها أُنطق!
ماذا تقول أنتَ؟ تُقلع الشجرة؟ إذا كنتَ مستعدًّا لتحمّل المسؤولية، فأحضر جرّافة ومِنشارًا كهربائيًّا، وهيّا إلى العمل. ماذا، لماذا أنا؟ هذا واجب صاحب الشجرة، فردّ الصاحب لا يا حبيبي، إنّي لا أجرؤ أبدًا على إيذاء شجرة مثمرة، فالتوراة قالت: لأنّ الإنسانَ شجرةُ الحقل [سفر التثنية ٢٠: ١٩]. يُشبه من يقتلع شجرة مثمرة قاتلَ إنسان، لا أقلّ ولا أكثر.
صحيح، قلعنا هنا وهناك أشجارًا مثمرة عندما وسّعنا البيت،ولكنّي لا أقول إنّ هذا مسموح. إنّي على يقين أنّ كل المصائب التي حلّت بنا بعد ذلك، كانت من الله لأنّنا انتهكنا هذه الفريضة الهامّة. إنّك تعلم ما كان من خيار آخر. كبُرت عائلتي، وكنت مرغمًا على تأمين مسكن لأولادي أيضا. في البداية قلعنا قليلا وبعد لك كذلك ثم وسّعنا.
ولكن، تعال وانظر معي إلى شجرة جوز البقّان هذه، أنظر ما أكبرَها، وما أجملها. لا تُنكر بأنّك كما تتضايق من ورقها المتساقط في الخريف، فإنّك وأولادك تتلذّذون بفاكهتها. أُنظر، أُنظر العمّال العرب في بيت أخي كيف نسوا العمل في البناء، وراحوا يلتقطون الجوز، صحّتين على قلبهم. ماذا تقول؟ صحيح بأنّ لا قوّة قلب عندك لرفع بلطة على هذه الشجرة الجميلة. لي بالتأكيد، لا توجد وفريضة التوراة تمنع. لستُ مستعدًّا للمخاطرة.
أنت تعلم أنّني لست بصحّة ممتازة، لأتعهّد بقلع هذه الشجرة؟ أنت تعرف؟ في الأسبوع الماضي جمعت سبعة أكياس مملوءة بالورق الجاف الساقط من هذه الشجرة على الساحة، وانظر الآن يبدو وكأنّي ما فعلتُ شيئا. وبالرغم من هذا، فإنّي لا أفكّر في إلحاق أيّ ضرر بالشجرة، لا أنا ولا أولادي، لا أحد منّا يجرؤ على اجتثاتها. حتّى وإن اقترحت تقليمها وتصغيرها فاعمل ذلك بنفسك ولا تدّخلنا في الموضوع.
مكافأة وعقاب
إنّي أومن جدًا بالمكافأة والعقاب. إنّ الله لن يسكت عن عدم أداء فرائضه. وهذا يذكّرني بما أودّ سرده عليك حول حادث مشابه، حدث في نابلس قبل أكثر من خمسين سنة، وربّما ستين سنة. آونتها كنت فتى حينما سكن كلّ السامريين القلائل في الحيّ القديم، المعروف بالعربية حتى اليوم باسم ”حارة الياسمينه“. سكنتْ في جوارنا بعض العائلات التي ما زالت تعيش في الحيّ القديم؛ عادت إلى هناك مضطرة، إذ لم تجد مأوًى آخرَ بعد الهزّة الأرضية عام ١٩٢٧. في أعقاب تلك الهزّة، أُرغم السامريون إلى الانتقال إلى مكان آخرَ، لأنّ بيوتهم هُدمت بالكامل. هكذا بُنيت الحارة الجديدة التي يسكنون فيها منذ بداية ثلاثينات القرن العشرين وحتّى اليوم.
عبود العفوري
ما أرويه لك جرى قبل الهزّة الأرضية، آه، أين كنّا، ما قصصت عليك؟ نعم، في جِوارنا سكنت عائلات العفوري، الغزال، كلبونه (في الأصل: القلبوني)، دار عبود وغيرها. ما زلت أتذكّر أسماء العائلات حتّى اليوم، لأنّي قضيتُ شطرًا كبيرًا من صباي وشبابي مع أبنائهن. أأقول الحقيقة؟ عادة كانوا يُضايقون السامريين، يوقفوننا في الشارع لا لشيء، يسخرون منّا ويضربوننا بدون أيّ ذنب. ولكن، هيّا اذهب واشتك أمام قاضٍ مسلم يعتبرك كافرا. بلعنا الخزي والعار وسكتنا. من جهة ثانية، كانت هناك أيّام فرح واطمئنان. تواجد بينهم دائمًا أناس محترمون، قاموا بتأنيب المضايقين وبتحذيرهم ألّا يتعرضوا لنا بأذىً.
عبّود من أسرة العفوري كان أكثرَ من ضايقَنا، خاف منه العرب حدّ الموت أيضًا. كان ضخمًا وعريضا، يده كقطعة خشب سميكة وعريضة، رِجله كعامود اسمنتي. نظرته كانت مرعبة، بحضوره لا تقوى على عمل شيء، تبدأ بالارتجاف كورقة شجر في مهبّ الريح، حتّى وإن لم ينوِ فعل أيّ شيء لك. هكذا كان الوضع، عرق بارد سال كعين العسل على منحدر الظهر، وكلّ ما اشتقت إليه أكثر من أيّ شيء آخر، كان أن تختفي من أمامه. في بعض الأحيان، مرّ اللقاء بسلام وفي أخرى كان الأذى جسيما. لم أصادف قبضايًا شرسًا أكثر منه منذ ذلك الوقت.
هل تعلم؟ في تلك الأيّام، كنّا نروح لنشل الماء من العين الكبيرة في رأس العين، التي نبعت من أعماق جبل جريزيم، لدرجة أنّ الماء وصل أحيانًا علوّ قامة إنسان. نحن لم ننشل مباشرة من العين/الينبوع ولكن ملأنا دِلاءنا من أنابيب فَخّارية كبيرة، مُدّت من الينبوع وحتّى جِوار حارة الياسمينة. كان الماء عذبًا مرويًا، ليس كما الماء المتدفّق اليوم في أنابيب إسمنتية. ماء كهذا لم أشرب منذ ذلك الزمن. هل تعلم ما معنى ذلك؟ ماء من أعماق جبل الطور، جبل البركة؟
نشل الماء بلا مرح
في أيّام الشتاء والربيع، جرت المياه بقوّة في القنوات المكشوفة وحتّى الأنابيب، لكن في أيّام الصيف الحارّة أخذ تيّار الماء يخفُت، فكان لا بدّ من اتّباع نظام لتقنين الماء. عُيّن دور لكلّ عائلة، سامرية أو عربية، للمجيء والتزوّد بالماء المستحقّ. حوفظ على الدور بعناية. حرَصت كلّ عائلة على إرسال أحد أبنائها لانتظار دوره لنشل الماء من العين. وبالطبع، لم يكترث عبود العفري القبضاي الفظيع لا بالدور ولا بنظام التقنين. أبناء العائلات المختلفة اضطرّوا للتنازل له عن أدوارهم، شرط أن يقوم بما يريد وينصرف من المكان. الخائفون من العفري كانوا من وراء ظهره يُشبعونه ذمًّا وقدحا، أمّا في حضوره فتملّقوا بذلّ ودعوه وأعطوه أوّل الدور لنشل الماء. عملوا كلّ شيء لإرضائه لتفادي شرّ يده الناقمة. هذه سُنّة البشر مع القباضيات الأشرار في كل زمان.
على ما أذكر، على مفترق الطرق نبتت شجرة توت كبيرة، كثيفة الأوراق والأغصان. كلّ فتيان الحارة تلذّذوا بفاكهتها، وفي موسمها كانوا يتسلّقون على جذعها الثخين ويقفزون من غصن لآخر ليقطفوا أكثرَ ما يمكن. هذه الشجرة كانت بمثابة الشوك في نظر عبود العفوري، وبشكل خاصّ في موسم المنتوج، حينما يتجمّع كل الشباب تحتها ليتلذّذوا من فاكهتها.
عبود العفوري أحبّ التوت، إلّا أنّ نقل الاهتمام منه ومن أفعاله إلى أفعال القاطفين الذين كانوا يقومون بالهَرْج والمرْج، جعل الشجرة في نظره سبب ذلك، ولذلك ينبغي إزالتها. هدّد مراتٍ كثيرة بقطع الشجرة. لا أحد صدّقه، الشجرة كبيرة جدًّا، فاكهتها حلوة، ريّانة كلّ هلقدّه، وعبد العفوري أيضًا تمتّع بها، إذ أنّ الكثيرين من الشبّان كانوا يقطفون ويُعطونه ليأكل منها.
موت الشجرة والإنسان
في يوم من أيّام الصيف شديدة الحرارّة، أصبح تيّار عين الماء ضعيفًا جدّا، فأخذ دور المنتظرين لملأ دلاءهم بالماء يطول. وفي ذلك اليوم بالضبط، عزم عبود العفوري على تنفيذ مكيدته. حمل بلطة كبيرة، بدت صغيرة بين ذراعيه القويّتين، وبدأ بقطع شجرة التوت. لم يجرؤ أحد على سؤاله عمّا يفعل، لئّلا يرفع البلطة على رأس المشتكي. تابع في قطع جذع الشجرة، وفجأة تمايلت الشجرة قليلا وهوت، في حين أنّ الجذع أو ما تبقّى منه كُسر بحركة بطيئة. صدرت من الشجرة صرخة شبيهة بصرخة عملاق مصاب، تلاها أنين كأنين إنسان. وقف هناك عبود العفوري وأطلق صيحاتِ الفرح والحبور، إنّه أنجز دسيسته. نظرنا إليه ثم إلى الشجرة، وطأطأنا رؤوسنا. لم نقدر على متابعة مشاهدة نتيجة فعل عبود العفوري الفظيع. هذه الزاوية الجميلة الوحيدة في الحيّ، قد قُضي عليها.
إلتفتنا إلى الخلف وولينا هاربين مذعورين، إذ من كان ليجرؤ على تأنيب عبود العفوري على ما فعلته يداه. في تلك الأثناء، حلّ الليل، وبدر كامل أضاء الطريق، بقايا شجرة التوت ودور منتظري الماء، ودور السامريين لم يأت بعد. لستُ أدري في ما إذا أدرك عبود العفوري خطورة فعله، ولكن لم يمض وقت قصير بعد بزوغ الشمس، وها هو منطلق من بيته ليبثّ الرعب والفزع، كما هي الحال دائمًا. توجّه نحو دور المنتظرين للماء، فأخلوا له الطريق، وتدافع نحو أوّل الدور. لا أحدَ احتجّ على ذلك، ولا حتّى الذي كان يملأ دلاءه آونتها، فهو زاح عن مكانه ودعا عبود العفوري ليملأ دلاءه. ولو طلب عبود لما تردّد ذلك الرجل في تعبئة دلاء عبود من دلائه. عبود مفعم بالغضب والخصام، دفع الرجل جانبًا وانحنى أرضا نحو العين.
على حين غِرّة، لاحظتُ أنا وآخرون قلائل شخصية غامضة تنسلّ مجتازة فوهة الينبوع إلى الزقاق المجاور وتختفي في الظلمة. عبود العفوري تعثّر فجأةً، انزلق وسقط في القناة. أسرع آخرون إلى مكان سقوطه لمدّ أيديهم لمساعدته في الصعود من القناة؛ سمعت أصوات الذعر والمباغتة من كلّ اتّجاه. أنا، أسرعت فورًا إلى المكان، وما شاهدته هناك لن أنساه أبدًا. لون مياه القناة كان أسود، أو ربّما أحمر قاتما. عبود كان مستلقيًا على بطنه؛ غمد سكين طويلة برز من وسط ظهره، فوق خاصرتيه الضخمتين. المياه اسودّت من دمه المسفوك تيّار إثر تيّار. طُعن حتّى الموت، ما كان شكّ في ذلك.
أناس آخرون بدأوا يركضون في الزقاق، مطلقين صرخات تنمّ عن حزن وألم عظيمين. ومنهم من أطلق نداءات تشجّع الباحثين عن القاتل. لم تسفر التفتيشات عن شيء. ظلمة الأزقّة الطويلة الملتوية في القصبة بلعته، وكأنّه لم يكن. كما أنّ الشرطة البريطانية التي وصلت إلى المكان لم تعثر على أحد.
بعد بضعة أيّام فقط اتّضح أن القاتل كان ابن شقيق المقتول بعينه. وبعد ذلك، قتل أخو القاتل بنفس الطريقة شقيقَ عبود العفوري الذي كان متوحّشًا بدرجة لا تقلّ عن شقيقه القبضاي العنيف.
بما يخصّنا نحن السامريون الذين كنّا مع جماعة الواقفين والمشاهدين لقتل عبود العفوري، كانت العلاقة بين اجتثات شجرة التوت في الظهر وموت المجتثّ، عبود العفوري واضحة. مع كل هذا كان هناك فرق واحد بين الشجرة ومجتثّها، الشجرة صرخت عند اجتثاتها، عبود العفوري، ما صرخ. السكين الطويلة اخترقت قلبه بألم فظيع شالّ.
لأنّ الإنسانَ شجرةُ الحقل.
“