* خمسون عامًا على توحيد السامريين
ترجمة
ب. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
في ما يلي ترجمة عربية لهذا المقال الذي كتبه بالعبرية الأمين راضي صدقة (بنياميم رتسون تسدكه، ١٩٤٤ - ، سفير السامريين في العالم؛ محرّر دورية أخبار السامرة مع شقيقه حسني/يفت؛ رئيس معهد يفت للدراسات السامرية في حولون؛ من مؤلفاته: مختصر تاريخ الإسرائيليين السامريين، ٢٠٠١ (بالعبرية)؛ مَرْقه لكل قارىء، ٢٠٠٨ (بالعبرية)؛ مجموعة المخطوطات السامرية في مكتبة كلاو في أهايو، ٢٠١١ (بالإنجليزية)؛ ترجمة التوراة السامرية للإنجليزية، ٢٠١٣؛ تاريخ الإسرائيليين السامريين بحسب مصادرهم، ٢٠١٦ (بالعبرية)؛ تفسير التوراة السامرية، خمسة أجزاء، ٢٠١٧، بالعبرية)، ونشره في الدورية السامرية أ. ب.- أخبار السامرة، عدد ١٢٤٠-١٢٤١، ٥ حزيران ٢٠١٧، ص. ٤١-٧٥. هذه الدورية، التي تصدر مرّتين شهريًا في مدينة حولون جنوبي تل أبيب، فريدة من نوعها ــ إنّها تستعمل أربع لغات بأربعة خطوط أو أربع أبجديات: العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ العبري الحالي؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنجليزية (أحيانًا لغات أخرى مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية) بالخطّ اللاتيني.
بدأت هذه الدورية السامرية في الصدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدر بانتظام، تُوزَّع مجّانًا على كلّ بيت سامري في نابلس وحولون، قرابة الثمانمائة سامري، وهناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين في الدراسات السامرية، في شتّى أرجاء العالم. هذه الدورية ما زالت حيّة تُرزق، لا بل وتتطوّر بفضل إخلاص ومثابرة المحرّريْن، الشقيقَين، الأمين وحسني (بنياميم ويفت)، نجْلي المرحوم راضي (رتسون) صدقة (٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).
أ. حنين تسع عشرة سنة
كيف يولَد الاستجواب؟
في الثلاثين من آب عام ١٩٤٩ وصل لاجئون سامريون من نابلس إلى دولة إسرائيل الجديدة عن طريق معبر الحدود في طولكرم، وذلك بعد عملية مركّبة أشرف عليها عضو الكنيست إسحاق بن تسڤي. ترأّس أولائك اللاجئين السامريين حُسني (يفت) إبراهيم صدقة ابن الخمس والخمسين سنة. بمساعدة وجيه عربي من عائلة قرمان الحيفاوية، هُرّبت مريم زوجة حسني وابنته عبر الحدود بين إسرائيل والأردن. بلغ عدد مجموعة اللاجئين تلك، تسع عشرة نسمة، معظمهم من أقارب حسني. سكن معظمهم على سطح بيت يقع في شارع إيلات رقم ٦٢ في تل أبيب، في تخشيبات صغيرة وخيام.
تسبّبت تلك المجموعة في تقديم استجواب، عرضه عضو الكنيست إسحاق بن تسڤي على وزير الخارجية موشيه شاريت في أواخر ١٩٤٩: ما الوضع القانوني للسامريين الذين انتقلوا من نابلس إلى تخوم دولة إسرائيل؟ سبقت ذلك الاستجواب مراسلة بين إسحاق بن تسڤي وموشيه شاريت، شرح فيها الأوّل للثاني وضع السامريين الخاصّ، انقسموا بين دولة إسرائيل وبين غالبيتهن التي تقطن في نابلس، في أعقاب حرب استقلال دولة إسرائيل عام ١٩٤٨. استجاب وزير الخارجية شاريت على الفور: نعم، نعم.
لم تبدأ الحرب عام ١٩٤٨. كانت هناك اشتباكات ومواجهات يومية مخضّبة بالدماء بين اليهود والعرب. سامريو خارج نابلس سكنوا على خطّ التماس بين المدينتين، تل أبيب ويافا، حيث مركز الاشتباكات بين الأولى اليهودية والثانية العربية. حسني صدقة، أكبر السامريين خارج نابلس سنًّا لم يستطع أن يتذرّع بالصبر وقتًا أكثر، قام هو وآخرون من عائلات أخرى وغادروا يافا في نهاية ١٩٤٧ متوجّهين إلى نابلس، باحثين عن ملجأ فيها. سكن حسني في بيت ابن عمّه ممدوح (آشر) صالح صدقة، الذي ساعد الجميع في العبور، بإحضاره سيارات من نابلس. كان ذلك البيت بيت والد صهر حسني، زوج ابنته باتيه، راضي (رتسون) بن الأمين (بنياميم) صدقة. أُعطي لسائر اللاجئين مسكن في أسفل الكنيس الجديد في نابلس في ظروف مذلّة.
بين اغتيال الملك عبد الله في مسجد الأقصى في القدس، من قِبل قاتل عربي وبين تتويج حفيده الحسين ملكًا على الأردن، عاش الأردن فترة ضبابية، حيث فيها تابع البريطانيون في الحكم في الأردن، مستغلّين الحالة الصحية الضعيفة للملك طلال بن عبد الله، الذي عولج في مستشفى في سويسرا. عند إقامة دولة إسرائيل سعى حسني للعودة إلى تل أبيب، وساعده في ذلك راعي السامريين، إسحاق بن تسڤي. تكلّلت الجهود بالنجاح في نهاية آب ١٩٤٩. وردًّا على استجواب إسحاق بن تسڤي قال وزير الخارجية موشيه شاريت ”الوضع القانوني للسامريين القادمين من نابلس إلى دولة إسرائيل كوضع اليهود القادمين من الدول العربية إلى إسرائيل“.
لمّ شمل عائلات سامرية بين الأردن وإسرائيل
فتح جواب وزير الخارجية موشيه شاريت، فتحة في اتفاقية الهدنة بين إسرائيل والأردن، لاستيعاب سامريين من نابلس في تل أبيب يافا. وهكذا اعترف بالسامريين في نطاق قانون العودة، وعاملتهم إسرائيل كيهود قادمين إلى إسرائيل. وفي عام ١٩٥٠ انضمّت مجموعة من المهاجرين السامريين من نابلس من عائلة مفرج (مرحيب) وسكنت في يافا، وهكذا سنة تلو أُخرى انتقل القليل من السامريين من نابلس إلى تل أبيب فحولون، حيث بدعم إسحاق بن تسڤي ورؤساء بلدية حولون، أُقيم الحيّ السامري الجديد سنة ١٩٥٥. تحت إشراف حسني إبراهيم صدقة انتقل السامريون الموزّعون في تل أبيب ويافا ورمات غان للإقامة في الحيّ الجديد في حولون. رافقت الجهودَ لدعم استيعاب كلّ عائلة سامرية نابلسية في إسرائيل جهودُ سامريي دولة إسرائيل بمساعدة إسحاق بن تسڤي الذي انتخبته الكنيست عام ١٩٥٢رئيسًا ثانيًا لدولة إسرائيل لتجديد التواصل مع سامريي نابلس.
تكلّلت تلك الجهود بالنجاح عام ١٩٥٢، حينما سُمح للمرّة الأولى لسامريي إسرائيل بالاحتفال بعيد القربان مدّة ثلاثة أيّام على جبل جريزيم. نصب لهم أقرباؤهم في نابلس الخيام بجوار خيامهم. طلبات سامريي إسرائيل للعبور في عامي ١٩٥٠ و١٩٥١ إلى جبل جريزيم للاحتفال بعيد الفسح، رفضها الأردنيون. في العامين ١٩٤٨ و ١٩٤٩ لم تسمحِ الحرب للسامريين الباقين في تل أبيب ويافا حتّى التفكير في الصعود للفسح إلى جبل جريزيم. الزيارة الأولى بعد خمس سنوات القطيعة، كانت ذات طعم يطمح بالمزيد، ومنذ العام ١٩٥٣ مُدّد المكوث على جبل جريزيم لثمانية أيّام حتّى اليوم التالي لحجّ عيد المصّة، استمرّ هذا الوضع حتى عام ١٩٦٧.
الطائفة السامرية في إسرائيل تتجذّر/تُرسي قواعدها في حولون
ترأّس السامريين في نابلس الكاهنان الأكبران، ناجي بن خضر (أبيشع بن فنحاس) حتى أوائل ١٩٦١ فعمران (عمرم) بن إسحاق. عدد أفراد الطائفة في نابلس بقي بانتظام كما هو ولم يتجاوز المائتي نسمة، لأنّ موجة انتقال سامريين إلى دولة إسرائيل لم تتوقّف، وهي بدورها قلّلت التكاثر الطبيعي لدى الطائفة في نابلس، في حين أخذت الطائفة في حولون في النمو والتكاثر من بضع عشرات إلى المائة ونيّف. في سنة ١٩٦٥ سافر كلّ أبناء الطائفة الحولونية، قرابة المائة وعشرين نفرًا، إلى جبل جريزيم لمناسبة عيد الفسح.
تلك الأيّام كانت عسيرة جدًّا لكلا قسمي الطائفة، فصل الطائفة بين دولتين عدوّتين، الأردن وإسرائيل. الرئيس إسحاق بن تسڤي الذي عيّن موظّفًا خاصًّا للاعتناء بالسامريين المتوجّهين لمكتبه، استمرّ أيضًا في تقديم العون للطائفة بكونه رئيسا. من ضمن تلك المساعدة تمكّن إسحاق بن تسڤي تقديم مساعدة مالية من الجوينت الأمريكي لسامريي نابلس عن طريق منظّمة الصليب الأحمر السويسري. تسلّم سامريو نابلس بالإضافة للمال القليل وما أضافه أقرباؤهم الحولونيون من مخصّصات للطعام، الطحين، السكر والزيت لإعالتهم.
لم ينعم السامريون في إسرائيل، مثلهم مثل كلّ مواطني إسرائيل في خمسينات القرن العشرين. أدخلت حكومة إسرائيل نظام التقنين والتقشّف. وقف أولاد الطائفة ومن ضمنهم كاتب هذه السطور، الذي كان آنذاك ابن ثمانية أعوام وشقيقه حسني (يفت) ابن الستّ سنوات، في الدور يوميًّا ساعاتٍ في مدرسة غوردون الابتدائية للحصول على الغِذاء مقابل قسائم (كوبونات) حكومية. رويدًا رويدًا أخذت الطائفة تنتعش في أعقاب تشييد المساكن الأولى في العام ١٩٥٥؛ كما وتحسّن الوضع العامّ قليلًا في نابلس. هكذا كانت حالة شِقّي الطائفة نحو أواخر خمسينات القرن العشرين. استعرض مركز الإحصائيات المركزي بانتظام جدول الهجرة إلى دولة إسرائيل وأشار إلى عبور السامريين من نابلس إلى البلاد في خانة ”الهجرة من الأردن“. ومن المعاناة الشديدة تألّق بصيص من الأمل، ومن الضغط الداخلي الكبير يبدو الفرج قريبا.
في ما يلي خبران من الصحيفة اليومية ”عَلْ هَمِشْمار“ حول العبور الأوّل من إسرائيل إلى الأردن لمناسبة عيد الفسح؛ الأوّل كان في التاسع من نيسان ١٩٥٢ والثاني في الرابع عشر من نيسان ١٩٥٢، وفي هذا الخبر ننوّه بأنّ الطفل التل-أبيبي، الذي وُلد في غضون ايّام المكوث الثلاثة على جبل جريزيم، كان المرحوم نتنائيل بن صبحية (أوره) ويعقوب بن فارس (پيرتس) صدقة، رحمهم الله الثلاثة.
ب. إسرائيليون يهود وإسرائيليون سامريون في فسح ١٩٤٢ على جبل جريزيم
خلفية
يُورد الكاتب المقالة التي نُشرت في الصحيفة المسائية ”معريڤ“ في الخامس عشر من نيسان عام ١٩٥٢ كما هي. في أعقاب حرب ١٩٤٨، رُسمت الحدود بين المملكة الأردنية الهاشمية وإسرائيل. كثيرون من كلا الطرفين تسلّلوا من الدولة الواحدة إلى الأخرى. في العشرين من تموز ١٩٥١ اغتيل عبد الله الأوّل، ملك الأردن في مسجد الأقصى في القدس، من قبل المعتدي مصطفى عشو الفلسطيني، الذي اختبأ وراء بوّابة المسجد. عندما دخل الملك عبد الله ابن التسع والستين سنة إلى المسجد، خرج المعتدي من خلف البوّابة، وأطلق عليه الرصاص فأرداه قتيلًا أمام عيني حفيده الفتى، حسين ابن الستة عشر ربيعا. صُفِّي المعتدي.
تُوّج طلال ملكًا بدلًا من القتيل، لكن سُرعان ما تبيّن أنّه يعاني من اضطرابات نفسية، فبُعث للمعالجة في سويسرا. في الحادي عشر من آب ١٩٥٢ تُوِّج الحسين ابن السبعة عشر ربيعًا ملكًا على الأردن برفقة أمّه زين ذات الشخصية القوية المتسلّطة وبمساعدة وزراء بلاطه. في المدّة الواقعة بين اغتيال عبد الله ورسوخ الحسين ملكًا كان البريطانيون هم الحكّام في الواقع في الأردن. اعتبرت تلك الفترة فترة ضبابية. استمرّ البريطانيون في تقلّد مناصب رئيسية في الأردن. غلوب باشا، قائد الجيش البريطاني في الأردن، كان الرجل القوي في المملكة إلى أن نحّاه الملك حسين الشابّ، الذي تلقّى التدريب العسكري في إنجلترا، إلى أن أُستدعي ليرأس المملكة الأردنية. هذه هي الخلفية للحقيقة أنّه في نطاق اتفاقية الهدنة بين إسرائيل والأردن، وبعد الرفض المتكرّر، سُمح للسامريين في إسرائيل وللمرّة الأولى بعد قطيعة دامت أربع سنين، بالاحتفال بعيد الفسح على جبل جريزيم في العام ١٩٥٢ مدّة ثلاثة أيّام، ومن ضمنها قربان الفسح. ومنذ ذلك الوقت مُدِّدت الزيارة السنوية لسبعة-ثمانية أيّام في الفسح والمصّة حتى العام ١٩٦٧. هكذا في فسح العام ١٩٥٢ شاهد جمهور المتفرّجين في قربان الفسح السبعة والستين سامريًا الذين أتوا من تل أبيب ويافا لينضمّوا إلى إخوتهم في نابلس للاحتفال سوية. في تلك السنة بلغ عدد الطائفة حوالي ثلاثمائة نسمة.
هذه هي خلفية المقال مثير الكثير من الاهتمام، الذي خطّه مراسل ”معريڤ“ چ. شاروني حول الفسح في جبل جريزيم سنة ١٩٤٢.
عيد القُربان في جبل جريزيم ١٩٤٢
استقبلتْنا نابلس بالترحاب عند السامريين في عيد الفسح بقلم چ. شاروني، معريڤ ١٥ نيسان ١٩٥٢
اتّصلت بمكاتب لواء طولكرم، وأخبرت الموظّف العربي هناك بأنّي أودّ التحدّث مع الكاتب (الموظّف) السامري. سألني ”هل تقصد سليم أفندي؟“ ”نعم سليم أفندي“ (المقصود، على ما يبدو، الشابّ ابن الثمانية والثلاثين عامًا، أبراهام بن زبولن ألطيف المعروف بخليل فيّاض رحمة الله عليه، خرّيج ثانوية هرتسيليا في تل أبيب، الذي تكلّم العبرية بطلاقة طَوالَ حياته حتى وفاته عام ١٩٨٣). بعد لحظة، تحدّث السامري معي بالعبرية بطلاقة قائلا: ”إذا كان مُرادكم المجيء لحضور قربان الفسح على جبل جريزيم، فأهلًا وسهلًا بكم“، وأردف سليم أفندي قائلًا ”يطيب لي مرافقتكم وأكون دليلًا لكم والحالة الأمنية على ما يُرام“.
كان ذلك ثلاث سنوات بعد أن خمَدت ثورة فلسطين [في الأصل العبري: التمرّد الكبير، وأضاف بنياميم صدقة المعلّق مستعملا الحرفين ب. ص. ١٩٣٦-١٩٣٩]، وبعد اجتياز القاوقجي الرومنسي [يضيف ب.ص.: فوزي قاوقجي الذي ترأس التمرّد العربي ضد البريطانيين. أُضيف أنا إحالة إلى الكتاب التالي عن القاوقجي:
[Laila Parsons, The Commander Fawzi Al-Qawuqji and the Fight for Arab Independence 1914-1948].
لنهر الأردن نحو تخوم عبد الله [آنذاك الأمير عبد الله الذي أصبح ملكًا في العام ١٩٤٦، ص. ب.]. وبغية التيقّن اتّصلنا هاتفيًا بحاكم نابلس السيد تشرتش (Church) الذي أكّد بدوره أن لا داعيَ للقلق، ومع هذا وعد بتأمين مرافقة الشرطة عند عودتنا ليلًا من نابلس.
الـ”هاچده“/صلاة الفسح والكفتة …
كنّا مجموعة كبيرة لحدّ بعيد من ”الحُجّاج“، حافلة بأكملها. انجذب الشباب، في الواقع، ليس إلى الهاجدة السامرية بل قصدوا كَباب عاصمة المثلث [نابلس، ب. ص.] ولحمها المشوي (الشيشلك) اللذين لم يتذوّقوهما منذ بضع سنين. كانت الساعة مُبكّرة عند وصولنا لطولكرم. ذهبنا لاحتساء القهوة في مقهى أبي مصطفى، إلّا أنّ أسراب الذباب انقضّت علينا من كل حَدَب وصَوْب. وقف مضيفنا ملوّحًا عبثًا بخرقة قذرة بيده، شاتمًا أبا آباء الذباب الذي لم يتركنا (يفكّ عنّا) إلى أن لُذنا بالفِرار.
كانت طولكرم غافية. وكانت السوق تعِجّ بالحمير والجمال، التي كانت تشُنّ حربًا يائسة أيضًا ضدّ الذباب، ولو لم تكن مقيّدة لأدبرت بأرواحها، لا مَحالةَ مثلنا. تابعْنا سيرنا من هنا إلى نابلس في قافلة جذلة. الفلاحون العرب الذين مررنا بهم، وقفوا فاغرين أفواههم. ها هنا نور شمس وعنبتا القرية الكبيرة فمفرق دير شرف، كروم الزيتون، حقول القمح، قطعان الضأن على سفوح الجبال الصخرية. كلّ هذا المحيط كان غاي حزيون/وادي مشهد حقل معارك، ففقط البارحة سُمع صوت إطلاق الرصاص من بين شُقوق الصخور.
سليمان بيك و … الخِرفان
تواجدُنا في نابلس أثار حبّ الاستطلاع، تحلّق حولنا أشقياء وقالوا: ”يهود، يهود“ وتحدّثوا معنا بالعبرية، يا لها من مباغتة. كان في انتظارنا في مركز المدينة سليم أفندي، دليلنا وهو يرتدي اللباس الإفرنجي ويعتمر طربوشًا مكويًّا جيّدا. كان معه واحد من معارفي القدامى، يعقوب الكاهن [الكاهن يعقوب بن عزّي بن الكاهن الأكبر يعقوب، ابن ثلاث وأربعين سنة حينئذٍ، ب. ص.] الذي عمِل مراسلًا في نابلس لصحف عبرية. وفي سنوات الاضطرابات جابه نوائب كثيرة من جرّاء ذلك. رِجال العِصابات شكّوا فيه بأنّه يتعاون مع مؤسّسة التجسس التابعة للـ”صهاينة“. أكرم زعيتر، المحرِّض المعروف، طالب بقتله إلّا أنّ يعقوب نجا بفضل تدخّل سليمان بيك طوقان، رئيس البلدية.
”على العكس من ذلك“ ادّعى البيك سليمان ”ليحكي للصهاينة عن أفعال المجاهدين وعن يقظتنا القومية الأصيلة لإلقاء كل اليهود في البحر. لا ضيرَ في ذلك، ليكشف لهم“. كشفت لنا رحلتنا في شوارع وأسواق نابلس بأنّنا لم نكن غير مرغوب فيهم لحدّ كبير. صحيح، رمقنا الشباب بنظرات استطلاعية صامتة، ولكنّ المسنّين كانوا يُسبّحون بمسابحهم التي بأيديهم وابتسموا نحونا. استقبَلنا أصحاب المطاعم بعبارة ”أهلًا وسهلًا“ صاخبة وهرعوا لإعداد الموائد. كانت في المداخل خِراف سمينة معلّقة، سُلخت قبل قليل. صواني البقلاوة ”فتحت النِّفْس“ (أثارت الشهية)، ومن على الجدران تطلّع علينا الملك جورج وفاروق وتشرتشل والقاقوجي بجانب حسناوات من صالونات الحلاقة.
عند السامريين على ”جبل البركة“
حِكْمَت المصري، صاحب الطاحونة الكبيرة في نابلس [اليوم وزير في الحكومة الأردنية] ضَيّفنا، أنا ومعارفي بالقهوة العربية في مكتبه، إلا أنّه لم يكن مرتاحا. يبدو أنّه تخوّف من أن يُضبَط مقترفًا اثمًا وهو يستضيف صحفيين يهودا. أخذْنا قبل المساء نصعد إلى قمّة جبل جريزيم في سبيل منحدر، حيث ينكشف منظر أخّاذ لمدينة نابلس، وعلى جبل عيبال في الجهة المقابلة الشمالية. ناس وبهائم، بائعو حلويات ومشروبات ”تمر هندي“ اكتظّوا معًا في المسرب الصخري المتفتّل صُعُدًا إلى الجبل. تجبّرنا وصعدنا وقتًا طويلا. كان على قمّة الجبل جمهور المحتفلين، عرب من نابلس وضواحيها وضيوف جاؤوا من قريب ومن بعيد.
يصعَد أبناء الطائفة السامرية مع نسائهم وأطفالهم المقيمين في الخيام والعُرش [تخشيبات، ب. ص.] إلى ”جبل البركة“ أي جبل جريزيم أسبوعًا واحدًا قبل مراسم قربان الفسح. يخبِزون المصّة ويطبّقون عادات الفسح الخاصّة بهم.
مع غروب الشمس ...
بذل سليم أفندي قُصارى جُهده لجعل رحلتنا جميلة حلوة. أسهب في الشرح، أخذَنا إلى خيام السامريين ثم تجوّلنا في خرائب هيكل السامريين القديم على الجبل [المقصود: الكنيسة البيزنطية، ب. ص.]. عند غروب الشمس بدأت مراسم القربان؛ بضع عشرات من الرجال تجمّعت للصلاة في ساحة رحيبة محاطة بسياج حجري، وفي مركزها مذبح قديم. ارتدى الجميع العباءاتِ البيضاءَ، واعتمروا الطرابيش الحمراء. فرَد الكاهن الأكبر يديه واستهلّ بصلاة بالآرامية [بالعبرية القديمة، سفر الخروج، الأصحاح ١٢، ب. ص.]. ردّد كل أبناء الطائفة بعده بصوت جَهْوَرِيّ.
عند انتهاء الصلاة أُحضرت ستّة خِرفان [سبعة خرفان، ب. ص.] ونُحرت على المذبح، سُلخت على عجل، مُلّحت وأُدخلت في فرن مبنيّ في جوف الأرض. عندما حلّ الظلام أخذ دخان كثيف ضبابي يتصاعد من الفرن ورائحة الشِواء عمّت كلّ الجبل [المقصود الأعضاء المحرّم أكلُها والمحروقة على المذبح، ب. ص.]. في حوالي منتصف الليل أُخرجت الخراف المشوية من الفرن وأخذ السامريون بتناولها على عَجل، كما كان الحال في ليلة الخروج من مصر بالغناء والرقص. وفي ساعة متأخّرة، نزلنا ثانية في السبيل المنحدر إلى نابلس الهاجعة. حرس الشرطة الذي رافقَنا حتى نتانيا، كان قطعًا غير ضروري.
چ. شاروني، معريڤ ١٥ نيسان ١٩٥٢.
بنياميم صدقة يضيف: يعكس هذا التقرير بشكل صحيح، ولكن هناك بعض التصحيحات، وضع نابلس والسامريين وجبل جريزيم سنة ١٩٤٢، ستّ سنين قبل حرب ١٩٤٨ وإقامة دولة إسرائيل وفصل السامريين ما بين المملكة الأردنية ودولة إسرائيل.
ت. انتقالنا إلى تل أبيب
في مَغارة الحرم الإبراهيمي/المضعّفة
مواقد لَ”چْ بَعومِر [اليوم الثالث والثلاثون لإحصاء حزم الحصاد، الثامن عشر من أيّار، ذكرى بار يوحاي في ميرون وذكرى عيد انتصار بار كوخبا على الرومان] التي يُقيمها ويُشعلها اليهود، هي عادة جديدة ولا أساس لها في مصادر اليهودية، ويقينًا ليس في التوراة المدوّنة، استقبلتنا في تل أبيب في العام ١٩٥١ حيث وصل الشقيقان، الأمين (بنياميم) ابن السبع سنوات وحُسني (يفت) ابن الخمس سنوات مباشرة من بوّابة مندلباوم المقدسية. كانت جدّتنا زينب (فوعه) تضُمّنا في سفرنا من نابلس إلى القدس، واستْنا وتمنيت لنا كلّ خير. بالنسبة لكلينا كانت تلك رحلة أُخرى مع الوالدين. قبل ذلك بأُسبوع أخذَنا والدانا، راضي بن الأمين صدقة (رتسون بن بنياميم تسدكه) وباتيه حسني (يفت) صدقة في رحلة لتوديع الأماكن المقدّسة. أقلّتنا سيارة الأُجرة التي استأجرها أبي أَوّلًا إلى قبر يوسف وقبور الكهنة الكبار في عورتا، وفي النهاية إلى مغارة الحرم الإبراهيمي/المضعّفة في مدينة الخليل.
أبي الذي اعتمر طربوشًا أحمر، وارتدى بذلة، ٱستقبل بوقار كأفندي في مُغارة المضعّفة. أُمّي لبست منديلًا من الحرير الملوّن بالزهور. بدونا كعائلة مسلمة في كلّ شيء. بدأنا في النزول في المغارة إلى أسفل أنصاب آباء الأمّة التذكارية. شيخ مسلم أشعل شموعًا كبيرة، أنارت نقوشًا بالعربية من القرآن منقوشة بحروف ذهبية، وغطّت الجدران طولًا وعرضًا من الأعلى إلى الأسفل. آونتها علِم أبي أنّه لن يرانا، أمّنا وكلينا، إلى أن ينضمّ إلينا كما وعد في مسكننا الجديد في تل أبيب.
في معبر مندلباوم في القدس
عواطف أمّي كانت مختلطة. حزن فراق الأب الذي بقي في نابلس لإتمام أشغاله، كان ممزوجًا بفرحها للقاء والديها حسني ومريم من جديد، بعد قطيعة دامت سنتين، منذ ودّعت أباها الذي عاد في أواخر آب ١٩٤٩ من نابلس إلى تل أبيب. ركب في سيارة ثانية العم ممدوح (آشر) وأخوا أبي سميح (سلوح) وماجد (هليل). كان أبي يدَ العم ممدوح اليمنى، شقيق أبيه الأمين (بنياميم) ابن التسع وعشرين سنة، وشقيقه سميح ابن التسع عشرة سنة، والشقيق الأصغر ماجد ابن الإحدى عشرة سنة.
فقط هناك على الجانب الأردني من معبر مندلباوم، أدركتُ كِبر حزن الفِراق. ضمّتنا جدّتي، أنا وشقيقي للمرّة الأخيرة. كما وضمّنا أبي والعمّ ممدوح والدموع تترقرق في الأعين. أخذ أبي أمّي جانبًا وبكيا. نطق أبي بتعليماته الأخيرة للوالدة باتيه التي ذهبت أدراج الرياح بسبب حزن الفِراق. كرّر أبي وعده بأنه سيلحَق بنا بعد أقلَّ من نصف عام. ”يا راضي، لا تتركنا! أمين وحسون ينتظرانك“، قالت أمّي باتيه. اجتزنا معبر مندلباوم مخلّفين وراءنا أقاربنا يبكون في الجانب الأردني من بوابة مندلباوم. أُدخلنا ثلاثتنا في تخشيبة المعبر في الجانب الإسرائيلي. في مجرى التحقيق القصير أبرزت والدتي بافتخار، شَهادة تخرّجها من السيمينار في تل أبيب لقائد محطّة المعبر، الذي بدوره أبلغها بأنّ أباها وأمّها وأخواتها ينتظرونها في الخارج، في شارع شمعون الصديق في القدس.
انضمامُنا لسامريي تل أبيب
خرجنا ثلاثتنا من التخشيبة، مسكت أمّنا بيدي كلينا وقادتنا إلى والدها جينجي، طويل القامة وذي العضلات، ابن سبعة وخمسين عاما. انقضّت أُمّي على يده اليمنى فقبّلتها بانفعال شديد، ذارفة الدموع. انضمّ اثنانا إلى البكاء إلّا أنّ الجدّ حُسني أسرع ليعانقنا وليهدّئنا بكلمات دافئة. كنّا نظنّ أنّنا ما زلنا في الرحلة وسنعود في المساء إلى بيتنا في نابلس. لم يبدُ الحيّ في الجانب الإسرائيلي من معبر مندلباوم مختلفًا عن الجانب الأردني، ولا عن شوارع نابلس مدينتنا. عندها لم نستوعب بعد بأنّنا لن نرى نابلس لمدّة طويلة.
بعد ذلك تقدّمت باتيه نحو والدتها مريمُ وشقيقاتها الستّ وأصغرهن ألمازة (پْنينه) ابنة الأحد عشر ربيعا، معانقات وقُبلات جمّة. ثم دخلنا كلّنا سيّاراتِ الأُجرة الثلاث، التي انتظرتنا جانبا. أشار جدّي لسائق سيارتنا بالتحرّك. سافرنا في اتّجاه تل أبيب كما فسّر جدّي حسني، وكان يُجيب بأناة عن أسئلتي الكثيرة بالعربية. وصلت سيّارات الأُجرة المكان المقصود، شارع إيلات رقم ٦٢ في تل أبيب، على بُعد بضعة مئات الأمتار من يافا. خرجت أمّي من السيّارة إلى أذرع أقاربها، بنات عمّها الممتدّة، دخلنا العِمارة. وقبل صعودنا الدرجات، أدركنا بوضوح بأنّنا لسنا عائدين إلى نابلس. أجهشنا أنا وشقيقي ببكاء مرّ هزّ الشارع. ضمّنا الجدّ حسني وحملنا بذراعيه القويّتين إلى السطح. سكن في الطابق الثاني من العِمارة أبناء وبنات شقيقي الجدّ حسني: إسحاق ويعقوب ولدي فارس (پرتس)، بهجة (يافه) وصبحية (أوراه) ابنتي مصباح (نور) والأولاد شفره، فارس، كوكبة (كوخاڤه) وليلي.
انتظرَنا على السطح اللاجئون الذين حضروا إلى تل أبيب عام ١٩٤٩ برئاسة الجدّ حسني، نصبوا خيامًا وتخشيباتٍ ٍصغيرة. انضمّ الآن إلى العشرين الحاضرين ثلاثة. انتقالنا من بيت مرتّب في نابلس إلى التخشيبة على السطح، ثبّطنا وزاد من بكائنا. إنّ منظر البحر الأبيض المتوسّط من السطح أنعشنا. لم تر عيناي بحرًا كبيرًا وأزرق إلى هذا الحدّ قطّ. في حُجيرة بجانب درج السطح كانت وفيقة، حماة خالتي عصفورة (تسپوره) تقلي شرائح البطاطا. شعرنا بالاطمئنان. اليوم الأوّل في بلاد جديدة. الجدّ حسني، الذي أطلقْنا عليه في ما بعد، الكُنية ”سيدو“، جدّ الجميع، وعَدنا بأنّ إقامتنا هنا لن تطول. كنّا منهَكين من اليوم المفعم بالحوادث المثيرة، فتركتنا أمّنا لنخلُد لنوم هادىء بلا أحلام. حسني هدأ أيضا، المهمّ أنّ أمّنا معنا.
ث. خطواتنا الأولى في حولون
الأيّام الأخيرة في تل أبيب
بدأنا رويدًا رويدًا نتكيّف مع نمط الحياة الجديد في تل أبيب. ”سيدو“ وفى بوعده بألّا تطول إقامتنا في المدينة، طموحاته كانت أعلى بكثير من المبيت مع عشرين سامريًا تقريبًا، عادوا من نابلس، على سطح عِمارة في شارع إيلات. وصلنا تل أبيب قبل إجازة الصيف الكبرى، قُبيل نهاية العام الدراسي، وهكذا تبقّى لنا ثلاثة أشهر ونيّف لافتتاح العام الدراسي الجديد. من المعروف أنّ الأولاد يتكيّفون في كلّ الأحوال أكثر من البالغين. ما اعتبره الراشدون حياةَ فاقة، اكتظاظ على سطح بيت عالٍ في خيام صغيرة وتخشيبات، كان في نظرنا بمثابة مسرح مغامرات وشقاوة إلى ما لا نهاية. سُرعان ما تصاحبتُ مع فارس ابن عمّي ابن الثماني سنوات ومع أخته كوكبة (كوخاڤه) ابنة الست سنوات ابني بهجة (يافه)، ومع شفره ابنة التسع سنوات وليلي ابنة الأربع سنوات وهما بنتا صبحية (أوره). هؤلاء، في الواقع، كانوا كلّ الأولاد الذين تعرفّنا عليهم. أصدقاؤنا الجدد ساعدونا في تعلّم العبرية بسرعة فائقة. مساكن مكتظّة، ولا علم لنا بالمستقبل، كلّ هذا لم ينشر السلام والوئام بين ساكني السطح. تفاقمت الكثافة بعد انضمام عائلات وصلت من نابلس.
نحن الأولاد وجدنا دومًا ملجأ في شَقّة إسحاق ويعقوب وبهجة وصبحية المزدوجة. ولم تبخل الأخيرتان في إطعامنا. وفي ركن الشرفة الصغيرة كان البريموس (وابور كاز للطبخ) مشتعلًا وعليه مِقلاة قليت فيها كلّ يوم البطاطا والسمك وخضار. لم أذق مثل ذلك الخبز الأبيض هناك منذ ذلك الوقت وحتّى اليوم [ذات يوم كان طعم الخبز أزكى بكثير ممّا هو عليه في أيّامنا]. تسجّلت أمّي لمتابعة دراستها في دار المعلمين/السمينار للحصول على شهادة تدريس، لتصبح معلّمة في إسرائيل. ”سيدو“ شجّعها على ذلك باستمرار.
سعت كلّ العائلة لاستعادة عافيتها بعد حِدادها على وفاة سعدية، جدّة بهجة وليلي، وكانت الوفاة الأولى بعد الحرب. كدَّ ”سيدو“ جماهيريًا بمؤازرة إسحاق بن تسڤي من أجل دفنها في إسرائيل، فعارض ذلك الحاخامون وفي النهاية دُفنت خارج سياج المقبرة المدنية في قرية شاؤول، مقابل المقبرة العسكرية. الكدّ المذكور وصل إلى تمامه بعد ذلك بثلاث سنوات، عندما خُصّصت قسيمة خاصّة بالسامريين، مُسيّجة من كلّ الجهات، ونادرًا ما تستخدم حتّى اليوم. في يوم السبت صلّى الجميع في صالون أُسرة صدقة. ونحن الشقيقان كنّا أيضًا في عِداد المصلّين. شعرْنا بغياب أبينا، ولكن محبّة سيدو وازنت بين الأشواق. ابنه الوحيد صدقة، كان ابن خمسة عشر ربيعًا، قويًا كالأسد ولكن لا حولَ له ولا إرادة حيالَ توبيخات ”سيدو“. أحببناه كثيرا. لا يمكن القول إنّنا نعمنا بالراحة. في كلّ يوم كان يعود فيه ”سيدو“ من عمله في دكّان الخُضار، التابع لابن عمّه عابد/أبو يوسف (عوڤاديا) كانت أُمّنا، ابنته تسأله عمّا يجري، ومتى سننتقل من السطح لمكان سكن آخر؟
الاستقرار في حولون
ذات يوم أخبر ”سيدو“ جدّتي مريم زوجته، بناته - باتيه وبهجة (يافه) وألمازة (پنينه) وابنه صدقة (تسدوك) بوجوب رزم أغراضنا القليلة. البنتان عصفورة وراحيل كانتا آنذاك متزوّجتين. راحيل سكنت مع زوجها أبراهام في منزل في حيّ راسكو ب في حولون، حيث سكنت أُمّه وبنتاه مزال وطوڤه. عصفورة وزوجها وأمّه وفيقة والابن رامي ابن الأربع سنوات وأخو الزوج سليم (شالوم) سكنوا في شَقّة في الطابق الرابع في عِمارة في حولون. هكذا أخذ عدد ساكني السطح يتضاءل.
ابتاع ”سيدو“ وابن عمّه عابد (عوڤاديا) قطعة أرض رملية كبيرة في حولون. عابد بن حسني (عوڤاديا بن يفت) صدقة، زوجته راحيل والأولاد يوسف وسلامة وحسني وملكه وزهڤه سكنوا في بيت في يافا. العمّ عابد رجُل طويل القامة وصلب منذ خدمته في شرطة الانتداب البريطاني، لم ينتقل للسكن هناك. نحن نعم انتقلنا، سكنّا في البداية في الخيام في قلب بحر الرمال حيث يتواجد اليوم حيّ نِئوت راحيل. فصلَنا عن الشارع الجنوبي حوالي نصف كيلومتر من الشجيرات والرمال. في الطرف الشرقي لبحر الرمال، انتصبت عِمارة بلدية حولون. غربًا لم تفصلنا بيوت عن البحر الكبير سوى بعض البيوت التي هجرها أصحابها العرب، الذين هربوا من هناك أثناء الحرب. كذلك هُجرت كروم العنب، ونحن استمتعنا بالعنب الأخضر.
سجّلتني أُمّي فورًا في مدرسة غوردون الابتدائية وحسني لروضة الأطفال. في نهاية الدوام كان حسني يأتي إليّ لنقف سوية في دور لتسلّم مخصّص الطعام مقابل قسائم (كوبونات)، نُزعت من دفتر زوّدتني به أمّي قبل الذهاب للمدرسة. في نهاية الصفّ الأوّل، قفزت للصفّ الثالث ليلائم ذلك عمري أيضا. اشترى ”سيدو“ كلب وولف (الراعي الألماني) أطلق عليه الاسم ”جون“. عمُّنا صدقة/تسدوك المكنّى تسوديك، أحبّ العناية به. مهمّته كانت حراسة مخيّم الخيام في قلب بحر الرمال. لم ينعدم المتسلّلون من الحدود، ومجرّد لصوص في المنطقة. الكلب جون منحَنا الأمان وأيقظ الجميع في نبيحه عند اقتراب المشتبه بهم من المخيّم.
جدّتي مريم تبنّتني منذ يوم ختانتي في نابلس. هي وسيدو نقلاني فورًا بعد ذلك إلى تل أبيب. وُلدت خَديجًا بعد سبعة أشهر، مهزول الجسم على وشك الموت من الوهن وعدم المقدرة على تناول طعام جامد. تبنّتني جدّتي ولدًا إضافيًا في حين أنّ أُمّي في نابلس كانت تربّي شقيقي حسني الذي ولد بعدي بسنتين وشهر. جدّتي مريم أرغمتني كلّ يوم على ابتلاع مِلعقة كبيرة من زيت السمك. بعد مضيّ بضعة شهور في العام ١٩٤٥ زارني والداي من نابلس ولم يعرفا الطفل ممتلىء الجسم بيني (بنياميم = الأمين). سُرعان ما تعاملتُ مع جدّتي، اليهودية الروسية سابقًا، كأمّي وسار في أعقابي شقيقي أيضا. سميناها ”إيما“ (ماما/يمّا) حتى وفاتها بالسكتة القلبية في بداية العام ١٩٥٤ وهي في الخمسين من عمرها فقط. دعونا أُمَّنا البيولوجية باتيه باسمها الشخصي. هذه كانت أيّام استقرارنا الأولى في حولون.
جـ. بداية الطائفة السامرية الحولونية
نتعلّم العبرية
ذات يوم في أواخر شهر آب العام ١٩٥١، ثلاثة شهور بعد دخولنا دولة إسرائيل في الثالث والعشرين من أيّار العام ١٩٥١، استيقظنا وها نحن مع أُمّنا في خيمة صغيرة في بحر ضخم من الرمال من كل الجهات ونحن في قلب البحر. وفي الخيام المجاورة استيقظ سائر المنتقلين/العابرين من تل أبيب لحولون، مقابل شارع هحيال/الجندي، على بُعد نصف كيلومتر تقريبًا عنّا. وفي الخيام المجاورة استفاق من النوم الجدّ حسني والجدّة مريم وأولادهما بهجة، تسدوك وألمازة. كانت هذه بداية استيطان الطائفة السامرية الصغيرة في حولون.
بعد أيّام معدودة، أُدخل الشقيقان، الكاتب للصف الأوّل في مدرسة غوردون في حولون وحسني، شقيقي لروضة الأطفال. كلانا استوعبنا المناظر والحقيقة أنّنا انتقلنا لعالم غير مبني، بحر من الرمال، وأخذنا في تخطيط المغامرات القادمة. تعلّم حسني أشعار بيالك في الروضة، وأنا باشرت في خُطُواتي الأولى في المدرسة الابتدائية. قبل مغادرتنا نابلس انتظمنا في المدرسة المسيحية الكائنة بجوار الحيّ السامري في نابلس. هناك تلقينا ضرباتٍ بالمسطرة على أصابع اليدين، عقابًا على كل إزعاج، وتنفّسنا الصُّعداء حينما أخرجَنا والدانا من هناك للسفر إلى تل أبيب.
الشهور الثلاثة التي قضيناها في تل أبيب علّمتنا العبرية الحديثة، ولكن لم ننس العربية التي تكلّمنا بها فقط حتى ذلك الوقت وحافظنا عليها إلى يومنا هذا. الكلمات العبرية التي تعلّمناها كانت من مجايلينا وعائلتنا شفره، فارس، كوكبة وليلي، وهكذا وصلنا حولون مزوّدين بقدر كاف من المفردات تمكّننا من إجراء محادثة. سُرعان ما تكيّفتُ في الصفّ الأوّل، استقبلني المعلمة والتلاميذ بالترحاب. كلّما تقدّمنا، أنا وأخي، في تعلّم العبرية كلّما بدأنا ننسى العربية.
كنت ولدًا شقيًا ”فيه البركة“، ولكن أقاربي شفِقوا عليّ ولم يعاقبوني كما يجب، لأنّني كنت مهزول الجسم بدون مؤخّرة للتربيت عليها. الجدّة مريم اعتنت بي جيدًا منذ قدومي، ولم تتوان في اهتمامها بي وبشقيقي، لأنّ الوالدة ولاحقًا الوالد قضيا جلّ وقتهما خارج البيت لتأمين الرزق. اعتبرتُ جدّتي مريم التي ربّتني في تل أبيب في منتصف أربعينات القرن العشرين أُمّا لي في تلك السنوات حتى إعادتي مجددًا إلى نابلس ليدي والدتي باتيه، وثمة نشأنا الأمين وحسني وتلقينا بداية تعلّم التوراة والصلاة من قبل الكاهن خضر (فنحاس) بن إبراهيم.
الحيّ السامري في حولون يتطوّر
لذلك كان من الطبيعي أن أعود إلى أحضان جدّتي الدافئة التي استمرّت في إجباري على بلع مِلعقة من زيت السمك كلّ صباح. إجمالًا، هذه الجرعة اليومية قوّت جسمي، وزادت من شهيّتي لتناول ما أعدّته جدّتي من طعام غير متعدّد الألوان. في كثير من الأحيان، تناولنا المجدرة (أرز وعدس) التي كانت آنذاك قمّة أحلامنا في فنّ الطبيخ. كانت فترة تقشّف وتقنين، لم نستطع المطالبة بأكثرَ من ذلك. رويدًا رويدًا، أخذ الحيّ الصغير يتبلور. جنّد ”سيدو“ ابنيه، أبرشكه الابن الربيب (ابن الزوج/الزوجة) وصدقي (تسوديك) لبناء التخشيبات للسكن. تخشيبة واحدة ذات ثلاث غرف لكل العائلة، غرفة خُصّصت للوالدين، إذ أن الوالد وصل شهرًا بعد انتقالنا للخيام على الرمال.
انفعلنا كثيرًا عند لقائنا بالأب راضي (رتسون) بعد فِراق دام بضعة شهور. ذات يوم جاءنا على حين غِرّة. اختبرَنا في ما إذا كنّا ما زلنا نتذكّره. قفزنا وعانقناه منادين اسمه ”راضي، راضي!“، انضمّت الأم وضمّ الوالد ثلاثتنا. في البداية لم يعثر الأب على عمل، إلّا أنّه جلب معه بعض المال من نابلس. قضى الأب الأسابيع الأولى التي سبقت عثوره على شغل في الخيمة ونسخ من المخطوطات.
السكن في التخشيبات
استقبل ”سيدو“ صِهره بالترحاب، متذكّرًا إقامته في بيت أبيه الأمين (بنياميم) في نابلس مدّة عشرين شهرا. كما وابتهجت الجدّة مريم لأنّ ابنتها البكر باتيه حظيت من جديد بزوجها وتلاشت كلّ التكّهنات حول مجيئه من نابلس. ”سيدو“ أعاننا جميعًا لتمضية الأشهر الأولى على رمال حولون إلى السكن في التخشيبات التي أقامها لجميعنا ”سيدو“ وابناه. ابنته بهجة (يافه) وجدت عملا في متجر (سوبرماركت صغير) قريب وألمازة (پنينه) تابعت تعليمها في مدرسة البنات الابتدائية باسم يحيئيلي في حيّ نيڤيه تسيدك في تل أبيب. تمّ بناء التخشيبات. بفضل جهود ”سيدو“ وصلتنا بلدية حولون بشبكة المياه وشركة الكهرباء بالكهرباء. أقيمت تخشيبة إضافية لإعداد الطعام والاغتسال. أُقيم وِجار لجون الوولف الألماني. اعتاد ”سيدو“ كلّ بضعة أيّام اصطحاب زوجته مشيًا إلى موقف الحافلة على بعد نصف كيلومتر، وانتظار عودتها من تسوّقها أو زيارة أُختها أهوڤه وأخيها يعقوب في تل أبيب.
أبي عمل أولًا في البناء والتلميع/ليطوش إلى أن وجد عملًا دائمًا في الخِياطة عند صاحب العمل سلوتسكي. حصلت أُمّي على شهادة تدريس وبدأت بممارسة التعليم في المدرسة التي تعلّمتْ فيها في صباها. أنفق أبي معظم دخله على إعالة عائلته. بالرغم من فترة التقشّف، نشّأنا الوالد كأولاد الشوكولاتة، اشترى في السوق السوداء ألواح الشوكولاتة باهظة الثمن. في نفس القدر الذي أحبّ أبونا إطعامنا الشوكولاتة تذوقّها هو بنفسه. حبّه لها رافقه مدى حياته.