شذرات من حياة يعقوب الشلبي السامري
Fragments from the Life of Jacob al-Shalabi the Samaritan
ب. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
في ما يلي شذرات ممّا وجدته مهمًّا حول يعقوب المذكور المولود عام ١٨٢٩، وحول الحياة في نابلس في النصف الأوّل من القرن التاسع عشر، على ضوء ما ورد في الكتيّب التالي المتاح مجّانًا على الشابكة، والذي يسرد قصصًا من سيرة حياة يعقوب، جمعها ونقلها إلى الإنجليزيه صديقه القنصل الإنجليزي إدوارد توماس روجرز (١٨٣١-١٨٨٤) في القدس. تقلّد روجوز مناصب دبلوماسية متنوّعة في القدس وحيفا وبيروت ودمشق والقاهرة، أطلق عليه الأتراك لقب بيك عام ١٨٦٠. أجاد روجرز العربية حديثًا وكتابة واهتمّ بالمسكوكات، شغل منصب وزير التربية في مصر في نهايات القرن التاسع عشر. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى شقيقة روجرز، السيدة ماري إليزا روجرز (المعروفة بـ: .Auntie M.E.R، ١٨٢٨-١٩١٠) التي سافرت إلي فلسطين وكان عمرها سبعة وعشرين عامًا، أجادت العربية وألّفت كتابًا عن الحياة المحلية/المنزلية في فلسطين (Domestic Life in Palestine) صدر عام ١٨٦٢ في لندن ونُشر من جديد سنة ١٩٨٩، فيه ١٤ فصلا، ٤١٦ ص.. https://archive.org/details/domesticlifeinp01rogegoog.
ممّا ذكر في هذا الكتاب وله صلة بموضوعنا أُنوّه بما يلي: رجال السامريين وِسام عادة، طِوال القامة، معافون وأذكياء؛ الذين يعرفون القراءة والكتابة قلائل جدّا؛ يعقوب الشلبي كان أوّل سامري سافر إلى الغرب وعاد إلى نابلس في خريف ١٨٥٦؛ أشار الشلبي على الكاهن عمران تأسيس مدرسة وإجبار كل الأولاد السامريين، صبيانًا وصبايا بالالتحاق بها بانتظام، فعليهم جميعًا معرفة العربية قراءة وكتابة والحساب؛ هذا ما حُرم منه يعقوب الشلبي؛ أُقيمت المدرسة وحمَلت اسم الشلبي؛ تزوّج الشلبي سنة ١٨٥٧ من شمسة الجميلة وأنجبت ابنا اسمه أمين في تموز ١٨٥٨ ثم ولد آخر؛ نزل الشلبي بئر يعقوب عام ١٨٤١ وكان عمره ١٢ عاما.
Notices of the Modern Samaritans Illustrated by Incidents in the Life of Jacob Esh-Shelaby. Gathered from him and Translated by Mr. E. T. Rogers. London Sampson Low & Son , 47, Ludgate Hill, 1855. 55 pp.
https://archive.org/stream/noticesmodernsa00yagoog#page/n36/mode/2up
https://archive.org/stream/noticesmodernsa00yagoog/noticesmodernsa00yagoog_djvu.txt
يقول القسّيس جورج فيسك في مقدّمته، إنّه زار الأراضي المقدّسة، وتعرّف على اليهود وغيرهم، والتقى يعقوب الشلبي الذي زار لندن عن طريق صاحبه الكاتب روجرز نائب القنصل، وتوطّدت علاقة الصداقة بينهما، وتمنّى جورج أن يعترف الشلبي يومًا ما بيسوع المسيح شفيعًا بين الإنسان والله. ثم يقول القسّيس س. ماريوت في مقدّمته إن يعقوب الشلبي يمثّل السامريين الذين يعيشون بعزلة وهم بحاجة لحماية ومساعدة.
مدينة نابلس الواقعة في وادٍ جميل بين جبلين، عيبال في الشمال، وجريزيم، جبل الطور، في الجنوب، يسكنها بين ١٢ ألف إلى ١٤ ألف نسمة، أغلبيتهم الساحقة من المسلمين المتزمّتين جدّا، وهنالك ٣٠٠-٤٠٠ من المسيحيين الأرثوذكس، ثماني إلى عشر عائلات يهودية و١٩٥ سامريا. يقطُن جبل نابلس أربع حمائل كبيرة: عبد الهادي ومركزها عرّابة - قرية مسوّرة ذات بوّابات حديدية تقع على بعد عشرين ميلًا بالتقريب إلى الشمال الغربي من نابلس؛ جرّار ومركزها في سنور وهي قرية جبلية محصّنة، تبعد حوالي خمسة عشر ميلًا عن نابلس شمالا؛ ريّان ذات نفوذ في القبائل العربية وأصلها من جماعين في الجنوب الغربي من نابلس؛ وطوقان ومركزها في خيام العرب السوداء.
يقول يعقوب يوسف صدقة الشلبي إنّ عائلته الدنفية، كانت ذات يوم عائلة ممتدّة في نابلس وغزة ويافا، وقد ملك أجداده أراضي في جوار نابلس، وبعضهم كانوا تجّارًا والبعض الآخر عمل في خدمة المتسلّم في العهد العثماني. جدّه، يوسف الشلبي كان أكبر شقيقيه وكان ناظرًا وصرّافا في خِزانة الحُكم في نابلس. وشقيقه يعقوب كان تاجرًا ثريًا وعبد السامري (ولد عام ١٧٧٩ وتوفي عام ١٨٥١) الأصغر، كان سكرتيرًا لإدارة المخازن الحكومية في منطقة نابلس. قد عمل جدّ يعقوب الشلبي بإخلاص تحت إمرة ٢٧ حاكمًا وتوفي عام ١٨٠٥، مخلّفًا ولدًا ابن عشر سنين اسمه شلبي. تولّى شخص باسم أسمر إدارة خِزانة الدولة لمدّة ثماني سنوات حتّى قدوم المتسلّم موسى بيك طوقان الذي قتله. ثم جاء عبد السامري في إدارة الخزانة عام ١٨١١، والعناية بكلّ الطائفة السامرية التي قاست خلال حكم عبد الهادي وموسى بيك طوقان. أخذ عبد السامري ابن أخيه شلبي تحت كنفه وزوجه بنتًا من عائلة محترمة وأنجبا صبيًا عام ١٨٢٩ واسمه يعقوب، المعروف بيعقوب الشلبي. موسى بيك طوقان مات مسمومًا سنة ١٨٢٦، وحلّ محلّه عمّه مصطفى باشا طوقان حاكمًا على نابلس مدّة سنة ونصف، واتّسم عهده كسابقيه الحكّام بالظلم والطغيان. عُيّن بعده لسنة حاكم تركي باسم حسين آغا، الذي عامل السامريين المضطهدين معاملة حسنة. وأصبح عبد السامري غنيًا وذا نفوذ. ثم جاء أسعد بيك طوقان الذي نوى قتل عبد السامري بسبب نفوذه وثرائه واتّهمه بالفساد. محمد القاسم من حمولة ريّان، أنقذ صديقه السامري من يد الحاكم، وعلى إثر ذلك اندلعت معركة بين الحمولتين دُعيت بـ ”الخمسينية“ لأنّها استمرّت خمسين يومًا وراح ضحيتها عدّة مئات من الحمولتين، وكانت لحمولة الريان اليد الطولى في آخر المطاف، وأصبح الشيخ قاسم الأحمد حاكم نابلس. عبد السامري أخذ أبا يعقوب الشلبي معه إلى دمشق حيث يوسف باشا سجنه لمدّة أربعة أشهر، تعلّم خلالها اللغة التركية.
في العام ١٨٣٢ احتل إبراهيم باشا نابلس بالسيف، وبقي حسين عبد الهادي متسلّمًا واحتفظ عبد السامري بوظيفته ذات التأثير العظيم في عهد الحكم المصري. آنذاك كان عدد خِراف القربان المنحورة جميعًا في الوقت ذاته سبعة، وبعد النحر يغمِس كلّ سامري يده بدم الأضحية ويلطّخ جبينه به. الكتِف اليمنى وأوتار المأبض تُقطع وتلقى على كومة النفايات لحرقها مع الصوف. يتناول السامري اللحم المشوي وهو ممنطق وبيده العصا بسرعة فائقة وبنهم. تُجمع بقايا اللحم والعظم بعناية وتُحرق ولا يبقى منها كسرة.
في عام ١٨٣٤ مات والد يعقوب الشلبي عندما كان يعقوب ابن خمس سنين، فتولّى رعايته وحمايته عمّه عبد السامري الذي عمل أيضًا سكرتيرًا شخصيًا لدى حسين عبد الهادي. ويذكر الشلبي أن أرملة سامرية وقعت في شَرك مسلم ذي نفوذ في بداية أربعينات القرن التاسع عشر فتأسلمت وأُجبر ابنها إسحاق ابن الأربعة عشر عامًا على التأسلم بعد السجن مدّة أُسبوعين من الضرب والتهديد، وقد عُرف بعد التأسلم بالاسم أسعد؛ أمّا أخته فماتت هلعًا ممّا كان ينتظرها من عذاب أليم. هذا ما طالب به علماء الإسلام من الحاكم، بل وأرادوا تصفية السامريين في نابلس أيضًا إن لم يعتنقوا دين الإسلام، فالسامريون في نظرهم، لا دين لهم بالمرّة ولا يؤمنون بأيّ واحد من أسفار التوراة الخمسة ولا بالإنجيل ولا بالزبور (المزامير) ولا بالأنبياء ولا بقرآن محمّد. وقد سمع بذلك سامري اسمه مبارك الذي هُدِّد فأسلم على الفور، امتطى صهوة حصان وجاب المدينة في موكب نصر في حين هرب إخوته ومنهم من اختبأ
(أنظر حسيب شحادة: New Light on the Life of the Samaritans in the 19th Century: “A Poem by the Samaritan High Priest ˓Imrān ben Salāma against Mubārak al-Mufarrağī Who Became a Convert to Islam in 1841” . A. B. The Samaritan News 779-782, 15. 2. 2001, pp. 155-144. in Studia Orientalia 95 (Helsinki, 2003), pp. 191-206; Jozsef Zsengellér, (ed.), Samaria, Samarians, Samaritans, Studies on Bible, History and Linguistics. Berlin, Boston (DE GRUYTER) 2011, 293–310).
حاول السامريون جاهدين إثبات إيمانهم بالتوراة، إلا أن المسلمين الذين لا يعرفون اللغة المقدّسة كفّروهم. فما كان من السامريين إلّا أن توجّهوا إلى رابي اليهود العام في القدس (المقصود: الراب حاخام باشي حاييم أبراهام/ميركادو چاجين، ١٧٨٧-١٨٤٨؛ أُنظر كتاب ماري ليزا روجرز المذكور أعلاه ص. ٢٥٣ ) الذي سُرعان ما زوّدهم بشهادة مكتوبة تنصّ بأنّ الشعب السامري فرع من بني إسرائيل، ويعترف بحقيقة التوراة. وهذه الوثيقة كانت مقرونة بهدايا مالية، حوالي ألف جنيه هدّأت حَنَق الأصوليين، وبدأ السامريون يخرجون علنًا رويدًا رويدًا من مخابئهم. كلّ هذا حدث في عهد حُكم محمود عبد الهادي الذي استُبدل عام ١٨٤٢بسليمان بيك طوقان الذي ساعد السامريين في كثير من الأحيان.
في العام ١٨٤١ وصل الدكتور ولسون الأسكتلندي نابلس، قام بابحاث كثيرة حول موقع بئر يعقوب وتمكّن من تحديد موقعها بالضبط. استأجر عشرة شباب أقوياء والفتى يعقوب الشلبي لمرافقته، وعند المرور بالبازار اشترى أربعة حبال جِمال. لم يعرف يعقوب الشلبي ما الهدف من كلّ تلك التجهيزات إلى أن وصلوا بئر يعقوب. تبيّن أنّ أحد المبشّرين الأسكتلنديين قبل بضع سنين, قد رمى نسخته من الكتاب المقدّس في البئر، ودكتور ويلسون أراد أن يخرجها من هناك. عمل الشباب على إزاحة كومة الحجارة الضخمة التي غطّت فتحة البئر، واختير يعقوب الشلبي بسبب وزنه الخفيف للنزول إلى قعر البئر للتفتيش. ويروي الشلبي أنّه خاف كثيرًا في البداية إلا أنّه وافق بعد سماع بعض الكلام المشجّع والمقنع، ووعْد ويلسون له باصطحابه لزيارة إنجلترا. كاد يُغمى على الشلبي من جرّاء الهواء الملوّث. أربعة الحبال لم تكن كافية لوصول قعر البئر, فأُطيلت بشالات عِمامتي سامريين تواجدا هناك. قعر البئر كان موحلًا ولكن بدون ماء، ففصل الربيع آنذاك كان جافّا. البئر محفورة في صخر صلب وعمقها ٧٥ قدما (أي ٢٢م و ٨٦ سم). د. ويلسون أعطى يعقوب الشلبي شمعتين بيضاوين جميلتين وعلبة صغيرة من عيدان (شحّاطة/كبريتة) لإشعال النور، وكانت تلك المرّة الأولى التي تدخل فيها تلك العيدان (lucifer matches) إلى نابلس (أُنتجت عيدان الثقاب الأولى سنة ١٨٢٧). كان د. ويلسون قد استعمل أحد العيدان في الهواء الطلق ودُهش الشلبي جدّا من ذلك. كما ودهش الشلبي عندما كان في المكان المعتم في قعر البئر، وضرب طرف العود بطرف العلبة الخشن فاشتعلت النار، وعزم على ألّا يُضيع أيّ عود، وحفظ العلبة في جيبه، وقد فكّر الشلبي أنّ هذه العلبة كافية لتعويضه على مشقّة النزول إلى القعر. وقام الشلبي بما أمره ويلسون من نقل كلّ الحجارة من جهة الشرق نحو الغرب، ثم إعادتها إلى مكانها الأصلي ووضع ما في الغرب في الشرق، وعندها لقِي الشلبي كتابًا صغيرًا متّسخًا، طوله حوالي ٦ إنشات (الإنش يساوي ٥٤، ٢سم ) وعرضه أربعة إنشات وسُمكه ثلاثة أرباع الإنش. ود. ويلسون كان يصرُخ من فوّهة البئر عدّة مرّات سائلًا ”هل وجدته؟“، وجاء الجواب بالنفي بعض الوقت.
عندما وجد الشلبي الكتابَ لم يعرف ما يجيب، فقد لا يكون هذا هو الكتاب المقصود من جهة، وقد يكون كتاب سحر يرشده للعثور على كنوز مستورة. حينما سمع د. ويلسون بأنّه وجد شيئًا جُذب الشلبي إلى الأعلى واستقبله مع كنزه الذي خجل الشلبي من تقديمه له. سُرّ د. ويلسون جدّا، ربّت على ظهر الشلبي ودفع له وللآخرين جميعًا بسخاء. لفّ د. ويلسون الكتابَ المقدّس في محرمة ودسّه بعناية في جيب على صدره. ظنّ في ذلك الوقت أن ذلك الكتاب هو كتاب سحر واستحضار الأرواح كما ظن الشلبي عندما كان داخل البئر. هذه الحقيقة الصغيرة مذكورة في كتاب د. ويلسون القيّم ”أراضي الكتاب المقدّس“ (Lands of the Bible).
في العام ١٨٤٧ أُرسل محاسب خاصّ من بيروت لفحص الوضع في كافة خزائن سوريا، وصل نابلس برفقة مصطفى ظريف باشا، وتبيّن من شيك أن السامريين دفعوا في وقت اختبائهم المؤقّت مبلغ اثنين وسبعين ألف قرش. في عهد حكم سليمان بيك عاش السامريون بسلام وقاموا باحتفالات قربان الفسح على جبل جريزيم.
في العام ١٨٤٨ أُرسل يعقوب الشلبي إلى منطقة جنين الخصبة التي تشمل خمسًا وأربعين قرية، ليكون أمين صندوق ومشرفًا على مخازنها، وبقي في هذه المهمّة ومهمة القيام بأعمال الحاكم من آل جرار عند غيابه مؤقتًا حتى العام ١٨٥١. في الوقت ذاته كان أقارب الشلبي يعملون في مكاتب مدينة نابلس ومنطقتها. ويقصّ يعقوب الشلبي أنّه تعرّف على السيّد ي. ت. روجرز (E. T. Rogers) عام ١٨٤٩ عندما كان ذات ليلة جالسًا مع المتسلّم وجاء خبر تخييم بعض موظّفي دولة إنجليز تحت شجرة توت وارفة في حديقة بجوار نبع جنين. قام يعقوب الشلبي في الحال، أخذ بطّيختين وقدّمهما للمسافرين المنهكين، وهكذا بدأت مناسبة تعارفه القيّم على روجرز الذي كان حينها في وظيفة رسمية في القدس، ثم نقل لمهمّة أهمّ في حيفا.
في العام ١٨٥١ كانت حَمولة عبد الهادي قد وطّدت نفسها خلال سبع السنين الماضية، كبر شبابها وتحيّنت الفرص للانتقام من حمولة طوقان بسبب نجاح وشعبية سليمان بيك. ويشهد الشلبي بأنّه رأى بأمّ عينيه الكثير من سفك الدماء، بين الحمولتين المتنازعتين في معركة دامت حوالي ثلاثة شهور، وحصدت خمسمائة روح، ناهيك عن الجرحى. حمولة جرار وقفت بجانب حمولة طوقان وكذلك قسم من حمولة ريان وبعض البدو، وكانت الغلبة لآل طوقان. في ما بعد، عيّن المتسلم محمود بيك إسرائيلَ بن عبد السامري ليكون أمين صندوق. وبمرور شهرين أو ثلاثة شهور تبيّن بعد فحص الخِزانة عجز مقداره ١١١ ألف قرش، على السامريين تسديده حالا. بيعت ممتلكات السامريين القيّمة من مجوهرات وأثاث ونحاس وأواني المطبخ في المزاد العلني، إلا أنّ مردودها كان بعيدًا عن المبلغ المطلوب. وفي أعقاب ذلك سُجن إسرائيل عبد السامري وعُذّب.
يعقوب الشلبي سافر إلى القدس وقدّم عريضة للسيّد القنصل جيمس فين (James Finn)، الذي اعترض أمام المتسلّم على معاملة ابن عبد السامري فتحسّن الوضع مؤقّتًا ثم عاد لسابق عهده. كما قدّم يعقوب السامري عريضة أخرى وقّع عليها كلّ أصدقاء السامريين العارفين بمجريات الأمور بشأن معاملة المتسلّم القاسية حيال السامريين للباشا في القدس. الشلبي التقى سكرتير الباشا، سليم أيوب، في صباح اليوم التالي وتبيّن أن عبد الهادي كان قد أرسل رسالة للباشا، وفيها يدّعي أنّ مصدر المشاكل هو الشلبي. وعليه وبناء على نصيحة السكرتير الودود غادر الشلبي إلى يافا دون أن يلتقي ثانية بالباشا، ومن هناك عزم على السفر بحرًا إلى طرابزون (مدينة في شمال شرق تركيا، على ساحل البحر الأسود) حيث يتواجد أصدقاء ومشغّلو سليمان بيك وأشقاؤه ولكن في غضون مكوثه في يافا منتظرًا قاربًا، وصل بعض الخيّالة من نابلس، أمسكوا الشلبي وزجّوه في السجن. وفي اليوم التالي اقتيد الشلبي إلى نابلس، وعندما أُحضر إلى دار محمود بيك قام الأخير قائلا ”أهلًا، يا رئيس حكومة سليمان بيك، أحضر قهوة وغلايين له“. ردّ الشلبي بأنه لم يتوقّع هذا الأدب، وأنّ هذا التملّق ليس لصالحه وقال لمحمود افعل ما تشاء فإن مَن كُتب له أن يحيا يومًا لن يعيش يومين. ثم أخذ محمود بيك بتهديد الشلبي ونقله إلى طرابزون فأجابه الشلبي يا ليت فهذا مبتغاي في التواجد بين ظهراني أصحابي، وأخيرًا أُرسل الشلبي مقيّدًا بالأصفاد إلى السجن، بعد أن عُذّب بقساوة ضربًا بالعصا.
وكان الشلبي يُحضر كلّ يوم أمام الحاكم لينال نصيبه من الضرب وأُمر أن يبلّغ عن مخبأ ممتلكات عمّه. كرّر الشلبي الجواب ذاته كل يوم بين يدي الحاكم: كلّ ممتلكات أُسرته قد بيعت لسدّ الدين كما ذكر آنفًا، إلا أنّ الحاكم كان يغتاظ عند سماع ذلك فأمر بتقليص حصّته من الطعام لتصبح كسرة صغيرة، في حين أن الوجبة العادية تتكون من ست إلى ثماني قطع كهذه. وكثيرًا ما كان بعض السامريين يزورون الشلبي للتشاور حول إمكانية التسريح، وكانوا يُفتَّشون جيّدًا لئلّا يحملوا طعامًا معهم.
اقترح الزوّار السامريون على الشلبي أن يعمل جهده لتهدئة غيظ الحاكم ونقمته، وباعت والدة الشلبي بيتها الذي كلّفها حوالي سبعين جنيهًا بخمسة وعشرين جنيهًا فقط، ودُفع هذا المبلغ للحاكم إلا أنّه لم يُطلق سراح الشلبي. بعد ذلك توجّه الشلبي برسالة سرّية لصديقين خاصّين للمساعدة. هذا ملخّص الرسالة:
أخويَّ الحبيبين ـــــــ و ــــــــ
بتلهّف شديد، أراكما بصحّة جيدة وسعادة. إنّي في ضيق عظيم، فأنا في زنزانة صغيرة جدا أوّلا، وثانيًا وزن القيود/السلاسل الحديدية الكبير يُدمي رجليّ وعنقي، وكل ذلك ناجم عن روح الحاكم الحالي الجشعة، محمود بيك عبد الهادي المستبدّ بامتياز. أرجو منكما إحاطتي علمًا حول نقطتين: ماذا سمعتما من فم هذا الطاغية المذكور حول مشاعره نحوي سلبًا وإيجابًا؛ ما نصيحتكما الأخوية لي للتخلّص من قبضة هذا الرجل قاسي القلب. أرجو تسلّم الجواب بأسرع وقت ممكن. نتضرّع ألا يرى أحد رسالتنا، إحرقاها لئلّا تقع في أيدي الأعداء وينزل علينا العقاب أيضًا من هذا الظالم العظيم.
وتسلّم الشلبي الردّ وفحواه: أخانا يعقوب الشلبي، نصبو أن نراك بصحّة جيّدة وبروح عالية، بحزن وأسى لا يوصف تسلّمنا رسالتك وسجنك كان شغلنا الشاغل نهارًا وليلا. بخصوص الاستفسار الأّول نقول بأنّ الحاكم لن يرضى بأّي مبلغ من المال، بل يرغب في محق يعقوب الشلبي عن وجه الأرض، هذا ما صرّح به لنا ولآخرين كثيرين. وبصدد السؤال الثاني: نصيحتنا الفرار من السجن إذا أمكن.
بعد ذلك أملى يعقوب الشلبي على أمّه رسالة مفادها: أنوي الهرب من السجن إن شاء الله؛ لا تسألي عنّي إذ أنّني سأُبلغك عن مكان تواجدي، وإلّا فستبكين عليّ كما بكى يعقوب على ابنه يوسف. كتبت لك هذه الرسالة والدموع تسيل على وجنتي دفقا بعد آخر؛ نحن نهيم كالشهب. إنّي ألتمس منك أن تصلّي لنجاحي.
وصل يعقوب الشلبي إلى نتيجة مفادها أن لا سبيل أمامه سوى الفرار من الحبس، حتّى ولو كلّفه ذلك حياته. أطلع رفاقه الخمسة عشر المسجونين معه والمقيّدين مثله بالسلاسل عن نيّته في الهرب فابتهجوا جميعا. أخذ الشلبي يُعدّ العدة لتحقيق مبتغاه، تمكّنت أمّه من تزويده بما طلب منها، مِبرد قوي وإسفين حديدي. بواسطتهما استطاع الشلبي التخلّص من سلاسل الجميع. كان الحرّاس نيامًا على عتبة باب السجن، ولم يوافق الشلبي على اقتراح بعض زملائه بقتلهم والفرار، قائلًا إنّه لن يرضى بتلطيخ يديه بالدم. في المقابل حثّهم الشلبي على مساعدته في نقر بعض الحجارة في الحائط وفي غضون ساعة ونصف تمكّنوا من فتح فجوة في الحائط وهربوا منها. بعد ذلك اعترضتهم مشكلة أقلّ وطأة من الفرار من السجن، وهي الفرار من المدينة بسبب وجود الحرّاس والجنود فيها والأسوار حولها. ويقول يعقوب الشلبي في هذا السياق، إنّ الحرية غالية، ويضيف أنّ أربعة من زملائه لم يكونوا معه بعد الخروج من المدينة، نابلس. من ضمن الفارّين كان زعيم بدوي، أمير في عشيرته ولا يذكر الشلبي أية تفاصيل أخرى عن هّوية الآخرين.
هرب الشلبي وزملاؤه إلى جبل عيبال سالكين طريقًا وعريًا صخريًا، يتعذّر على الخيّالة صعوده، وهم ناشدوا الهاربين أن يُبقوا الزعيم البدوي، إلا أنّ المجموعة رفضت ذلك إذ أنّ له الحقّ في مشاركة مصير زملائه. وصلت المجموعة قرية طوباس قبل الفجر، وتوجّه كلّ واحد منها إلى بيت مستعطيًا رغيف خبز؛ واتّفقت المجموعة على أنّه في حال سماع أو رؤية أحد أفرادها أية مطاردة أو ملاحقة، عليه تحذير الآخرين بتصفير حادّ. وبعد أن كان الشلبي قد حصل بالكاد على رغيف خبز وبعض البيض، وإلا بسماع التصفير وسُرعان ما تجمّعت المجموعة في كرم زيتون. جاء الصفير لأنّ واحدًا من المجموعة، قد علم أن أخًا لمحمود بيك موجود في القرية، واقترح الهروب حالًا إلى غور الأردن.
تابع الفارّون سيرهم، عدوًا أحيانًا ومشيًا أحيانًا أخرى لاستعادة القوى والانتعاش بجوار نبع طارىء، أو في البحث عن بقول للأكل، فالفصل فصل الربيع. لم يغامروا، لا نوم ولا استراحة قبل غروب الشمس، وعندها قعدوا على صخرة لتمضية الليل بما عليهم من ملابس قليلة. ثلاثة أسباب حالت دون خلودهم للنوم: خوف وجوع وبرد. في صباح اليوم التالي، استأنفوا سيرهم حتى غروب الشمس، وبالكاد عرفوا إلى أين، وقضوا ليلتهم في العراء وما كان في متناول أيديهم سوى بقول الحقول وماء الينابيع. في اليوم التالي سُرّوا عند رؤيتهم عن بعد مسافة مشي ساعتين خيامًا سوداء تعود لعشيرة عربية متوحّشة، إذ أنّهم كانوا يتجنّبون الدنوّ من أماكن مدنية. قرّرت المجموعة الانتظار حيث كانوا بسبب الإنهاك الذي استولى عليهم، وبسبب اعتقادهم بأنّ المكان القادم سيكون مؤقتا. اقترح اثنان ضعيفان من المجموعة الذهاب وإبلاغ الأعراب عن قدوم مسافرين. تبيّن لهما عند وصولهما أنّ الخيام تعود للزعيم الذي في المجموعة الفارّة، أحمد القاروط، وسُرعان ما جاء عدد كبير من الأعراب على خيولهم لاستقبال أفراد المجموعة والترحيب بهم. توجّهت مجموعة الشلبي نحو الخيام وسط غناء النساء وإطلاق الرجال للرصاص. وصل عدد أفراد المجموعة الذين دخلوا المخيّم سبعة، وكل واحد من الباقي ذهب إلى مكان سكناه.
قضى يعقوب الشلبي شهرين تقريبًا عند هذه العشيرة وأصيب بمرض خطير، لأنّه لم يتناول اللحم لأسباب دينية واكتفى بالخبز والحليب، وكانت لديه نفس الملابس، وتعرّض للبرد بنومه على العشب الرطب. هناك تعرّف الشلبي على عشيرة الهوارة بالقرب من الناصرة، ووصل إليها بعد أن افترق عنه باقي زملائه بوقت قصير. تناهى إلى سمع مصطفى العبد الله ابن أخ عبد الهادي أن يعقوب الشلبي موجود في الناصرة عند عشيرة الهوارة، فجاء إلى هناك لتسلّم دين له عليه بقيمة مائة gazis أي ما يعادل العشرين جنيها. كان الشلبي قبُيل سجنه قد تسلّم من مصطفى ذلك المبلغ لشراء القمح شراكة. أصرّ مصطفى على أن الشلبي يجب أن يدفع له مائة دولار واحتدم النقاش بين مصطفى والهوارة وفي آخر المطاف أُمسك بالشلبي ونُقل إلى عرّابة. وهناك أمره مصطفى أن يدفع المبلغ حالًا بالرغم من إبراز الثاني للأوّل إيصال من فلاح دفع له مبلغ ثمن القمح سلفا. رفض مصطفى تسلّم الإيصال ولم يحد عن إصراره. كان على يعقوب الشلبي دفع المبلغ، فأخذ بجمع كل مبلغ زهيد من هنا ومن هنا، ومكث يعمل في بيت مصطفى مدّة ثمانية أشهر، وبعد كلّ هذا تبقّى عليه ثلاثون gazis أي ستة جنيهات وبعد كفالة صديق سامري أُطلق سراح الشلبي.
لم يجرؤ الشلبي على العودة إلى نابلس، فسافر إلى القدس طالبًا مساعدة القنصل البريطاني السيد فن (Finn) الذي كان لطيفًا معه. مكث الشلبي في بيت السيّد موسى طنوس، ترجمان القنصل، مدّة شهرين. بعد ذلك سافر الشلبي إلى مدينته نابلس بعد أن سمع عن استبدال الحاكم محمود بيك، ووجد الطائفة السامرية برمّتها في فقر مدقع. كانت بيوت السامريين مرهونة وكلّ شيء قيـّم قد بيع. وبعد أن تأكّد الشلبي من انعدام إمكانية العودة إلى منصبه الأصلي، عاد إلى القدس فاستقبله هذه الكرّة مستشار السيد فن أي السيد روجرز الذي عُين في ما بعد نائب القنصل في حيفا. السيد روجرز شجّع الشلبي وسانده وأقرضه بعض المال لتسديد ما تبقّى عليه من دين لمصطفى. بقي الشلبي عند روجوز من أيّار إلى تشرين الأول، فترة تخييم القنصل الصيفية.
يضيف الشلبي أنّه في خلال تواجده الأخير في نابلس سأله الكاهن عمران (عمرم)، في ما إذا كان مستعدًّا للسفر إلى إنجلترا لجمع الصدقات فوافق متشجعًا لأنه سيسافر بحماية السيد روجرز، على أمل تحقيق آمال إخوانه بمساعدة الشعب البريطاني. أخذ الشلبي معه عريضتين، واحدة موجّهة للحكومة البريطانية وتطلب حماية السامريين فاستجاب لها وزير الدولة للشؤون الخارجية، إيرل كلارندون، فأرسل تعليماته للقناصل المعتمدين في فلسطين لمدّ يد العون عند الحاجة للسامريين، والتدخّل لدى الباب العالي من أجل ذلك. أمّا العريضة الثانية (بالعربية والعبرية السامرية) فكانت موجّهة للجمهور البريطاني من قبل الطائفة السامرية، خطّها ووقّع عليها بختمه الكاهن عمران، وحمّلها الوكيلَ والوصي الأمين الشلبي، وترجمها حرفيا من العربية للإنجليزية السيّد روجرز، نائب القنصل. سكن الشلبي في لندن عند عائلة السيد و. چ. روجرز. هذه هي النقاط الأساسية الواردة في العريضة: في الماضي كان عدد السامريين كبيرًا، واحتلّوا مكانة محترمة في كلّ البلدان؛ الآن الأوضاع تبدّلت، الحكم في نابلس فاسد وغير مستقرّ؛ لا رحمة للحكّام إزاء السامريين قليلي العدد الذين قاسوا الأمرّين؛ عدد الذكور كبارًا وصغارًا وصل ٦٥ (في ملحوظة في الهامش يذكر روجرز أن عدد السامريين الكلّي بلغ ١٩٥)؛ قام السكّان ضد السامريين وتراكمت الديون عليهم وهم يستغيثون لتلقّي الصدقات لتسديد الديون وفكّ الرهان؛ لم يتمكّن السامريون من الهرب من بيوتهم، بيوت الأجداد لفقدان الحرية من جهة ولإنعدام إمكانية القيام بشعائرهم الدينية في مكان آخر من الجهة الأخرى؛ يصلّي السامريون بأن تكون عيون البريطانيين مبتهجة دائمًا عند رؤية السامريين في الآخرة، بسبب مساعدة الأوائل، أهل الرحمة والبرّ، للأواخر في وقت الحاجة هذا. يذكر أنّ عريضة التماس الإحسان كانت مشفوعة بتوصية من السيّد القنصل فن في القدس وفلسطين ومن شخص آخر في لندن. تحمل هذه التوصية التاريخ: ١٣ نيسان ١٨٥٤. مما يذكره القنصل في توصيته هذه: كلّ عائلات السامريين تقريبًا فقيرة جدّا لا سيّما في السنوات الأخيرة؛ كانوا لطفاء مع زوّار مدينتهم الإنجليز. وفي الختام يذكر القنصل بسرور أن الكاهن عمران وأباه سلامة (مراسل دي ساسي قبل سنوات كثيرة) هما من أحسن أصدقائه في فلسطين.
ويضيف السيّد ي. ت. روجرز، نائب القنصل في حيفا، فلسطين تقريرًا أهم ما ورد فيه: الطائفة السامرية مثلها مثل معظم سكّان فلسطين عانوا من الفقر الشديد من جراء قحط العام ١٨٥٣؛ بسبب ذلك قرر السامريون إرسال رسول لإنجلترا لجمع الصدقات تحت كنف روجرز الذي تعرّف شخصيًا على معاناة السامريين واضطهادهم من قِبل حمائل الحكّام في نابلس وحاجياتهم عن كثب.
في نهاية الكتيب ورد ما معناه: الوثائق الرسمية الأصلية في متناول يدي وأُسرّ لعرضها على أي مهتمّ في الموضوع ويُرجى الاتصال على العنوان:
10, Carlisle Street, Soho Square, 12th April 1855.