مصيبة الأبناء وفرح أبناء الأحفاد
The Disaster of the Children and the Joy of the Great Grandchildren
ترجمة حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
في ما يلي ترجمة عربية لهذه القصّة التي رواها سميح بن الأمين بن صالح صدقة الصباحي (سلوح بن بنياميم بن شلح صدقة الصفري، ١٩٣٢- ٢٠٠٢، كاتب، تاجر ناجح، نظم في الفرح والترح، نسخ كُتبًا كثيره بخطّه الجميل؛ فقد ابنه البكر واصف/آشر ابن الـ ١٨ ربيعًا في سكتة قلبية عام ١٩٨٧) بالعربية، على الأمين (بنياميم) صدقة (١٩٤٤-) الذي نقلها إلى العبرية، أعدّها، نقّحها، ونشرها في الدورية السامرية أ. ب. - أخبار السامرة، العددين ١٢٢٨-١٢٢٩، ١ شباط ٢٠١٧، ص. ٣٣- ٣٥، ١٢٣٤-١٢٣٥، ١٥ آذار ٢٠١٧، ص. ٣٧-٤٠.
ونُشرت في الدورية السامرية أ. ب. - أخبار السامرة، العددين ١٢٢٨-١٢٢٩، ١ شباط ٢٠١٧، ص. ٣٠- ٣٣.
هذه الدورية التي تصدر مرّتين شهريًا في مدينة حولون جنوبي تل أبيب، فريدة من نوعها: إنّها تستعمل أربع لغات بأربعة خطوط أو أربع أبجديات: العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ العبري الحالي؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنجليزية (أحيانًا لغات أخرى مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية) بالخطّ اللاتيني.
بدأت هذه الدورية السامرية في الصدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدر بانتظام، تُوزَّع مجّانًا على كلّ بيت سامري في نابلس وحولون، قرابة الثمانمائة سامري، وهناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين بالدراسات السامرية، في شتّى دول العالَم. هذه الدورية، ما زالت حيّة تُرزق، لا بل وتتطوّر بفضل إخلاص ومثابرة المحرّريْن الشقيقين، بنياميم (الأمين) ويفت (حسني)، نجْلي المرحوم راضي (رتصون) صدقة الصباحي (الصفري، ٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).
”عُرس لأجيال
”لا شيء يُساوي حزن الأب الذي ثكِل ابنه، صدّقوني. هنالك مثلٌ يقول: لا تحكُم على صاحبك حتى تكون في مكانه“. إنّي قد جرّبت كلّ شيء، أحسست بالضربة الشديدة بكلّ حدّتها. تعالوا لأقصّ عليكم حادثًا حقيقيا وقع. إبني البكر، خطفه الله من بين يديّ وعيناي مفتوحتان، ولم يبق لي إلّا أن أعزّي نفسي بأنه مات سامريًا، على دين موسى وإسرائيل. هذه القصّة سمعتها من امرء مشهور وموثوق به في نابلس. جرى هذا الحادث في قديم الزمان، قبل قرون، لأحد الآباء الذي عزم على تزويج ابنائه الثلاثة في ذات المساء. دعا إلى بيته العامر ثلاثة رؤساء القرى ووجهاء المدينة، جيرانه وأقاربه لمشاركته الاحتفال بزفاف أبنائه الثلاثة.
أُقيمت الوليمة كالعادة، أكل وشرب على مدار أسبوع؛ غنّوا كلّ الأغاني، رنّموا كلّ الترانيم، رقصوا كلّ الرقصات ومنها تلك الرقصة الفنية الشهيرة بربطات العُنق الخاصّة بالعِرسان الثلاثة. كان الأب ثريًا واستطاع أن يمنح أولاده ويُكرم مئات المدعوّين بسخاء. في بؤرة أسبوع الفرح، أُقيم عُرس فاخر سيكون محور حديث المدح والثناء لأجيال كثيرة، بغض النظر عمّا جرى بعد ذلك. حقًّا عرس مهيب لا مثيل له حتى لدى أغنى أُمراء الشرق.
في نهاية العرس، بعد وَداع مئات الضيوف صاحب البيت، والأزواج الثلاثة، تقديم التهاني والتمنيات، وتسلّم الهدايا من صاحب الفرح، توجّه كل زوج، العريس والعروس، إلى غرفة كبيرة فخمة في داره.
المصيبة الشخصية الأكثر ترويعًا
في صباح اليوم التالي، مُدّت مائدة ملأى بكلّ ما لذّ وطاب، كما يحلو ويحسُن في صباح اليوم التالي للزفاف. جلس الأب على رأس المائدة، يبدو عليه تعجّبه من أبنائه الذين لم يُكرموه، لم يستقبلوه، لم يصل أيّ من العِرْسان أو العرائس إلى المائدة. هذه هي الليلة الأولى، قال الأب مبتسمًا بينه وبين نفسه، إنّهم تعبانون ممّا جرى فيها. ”إذهبي يا امرأة، أيقظي أبناءنا ليأتوا لتناول الطعام مع والدهم الذي يحبّهم“، قال الأب.
قامت الزوجة وتوجّهت نحو غُرف الأبناء. بينما كانت تدنو منها إذا بزعيق عالٍ يُسمع يتلوه آخر فزعيق ثالث. أسرعت الأمّ ودخلت الغرفة الأولى حيث الابن البكر فوجدته ميتًا، وهكذا كان حال الابن الثاني والثالث. عادت إلى زوجها والد الأبناء وبالكاد حملتها رجلاها. على ما يبدو شرّير (ابن حرام) دسّ سُمًّا لهم في الطعام.
العروس الثالثة بقيت
تحوّل الفرح العظيم إلى حزن كبير.دفن الأب أولادَه الثلاثة. كان الوالد طَوال موكب الجنازة، يتمتم بينه وبين نفسه: هذه مشيئة الله، بالفعل هذه مشيئة الله، بالفعل هذه مشيئة الله. في نهاية أيّام الحِداد قال الأب لأمّ البنات ”أُدخلي إلى غُرف كنائِنك وقولي لهنّ إنّي أطلب أن يبقين للعيش معنا لأنّ البيت بيتُهنّ“. كما حذّر الأب زوجته قائلًا: ”انتبهي للردّ الأوّل لدى كل واحدة منهنّ على قولك، وبحسب الردّ ستعرفين ما عليك فعله. إذا أردن مغادرة البيت فهذا من حقّهن، وإذا أردن البقاء فهذا حقّهنّ الكامل أيضا“.
دخلت الأمّ غرفة العروس الأولى، أرملة الابن البكر؛ سألتها ماذا تنوين فعلَه الآن؟ أجابت المرأة: بما أنّ زوجي قد مات في ليلة الزفاف، فإنّي لا أجد ما أفعله هنا بعد؛ أَرزُِم أغراضي وأعود إلى بيت أبي. إفعلي ما تشائين، أجابت الأمّ. العروس الأرملة الثانية نطقت بالجواب ذاته وغادرت البيت على الفور. جواب العروس الأرملة الثالثة على استفسار الأمّ، كان انفجار ببكاء يمزّق القلوب. بعد أن هدأت أجابت: لقد تزوّجت من ابنك والآن بعد حدوث هذه المصيبة لم يبق لي أيّ رجل في العالَم يُحبّني كما أُحبّكم. أودّ أن أبقى في هذا البيت وأنتما تكونان لي أبًا وأمًّا. وافق الوالدان وبقيت عندهما.
نغمة العود
بعد مدّة قصيرة، قضى اليأس على روح الوالد، فقرّر مغادرة البيت، بيع ممتلكاته والابتعاد كليّا عن محيط الكارثة التي حلّت به. بعد مضيّ ثلاثين سنة عاد الأب إلى المكان حيث كان بيته. كان يمشي في أحد البساتين التي كانت ذات يوم له. في طريقه، شاهد فجأةً ثلاثة فتيان يعملون في الحقل ويحرثون الأرض. سألهم الأب عن حالهم فردوا التحية بأحسنَ منها، عاملوه معاملة حسنة، دعوه لبيتهم وقدموا له الطعام والشراب. بعد أن أكل وشبع، استدار على الوسائد بجانب الحائط، رفع رأسه فرأى أمامه على الحائط المقابل عودًا معلّقا، آلة موسيقية حاضرة كثيرًا في الأعراس والأفراح الأخرى. كان هذا العود شبيهًا بالعود الذي كان معلّقًا في بيته هو. شكّ الأب أنّه ربّما هو موجود في البيت الذي كان له ذات يوم. ثلاثون سنة قد مضت حقًّا، ومحيط بيته قد تغيّر كثيرا.
سأل الأب الفتيان عن ماضي عائلتهم وسرعان ما صدقت ظنونُه. قصّوا عليه أن أب العائلة قبل عشرات السنين، يئس وترك البيت لأن أولاده الثلاثة ماتوا وكنّتاه تركتا البيت أيضا. الكَنّة الثالثة تمكّنت من الحبل من الابن الثالث وولدت ابنًا هو أبوهم. حقًّا جدُّهم مات في ليلة الزفاف ولكنّ أباه اختفى ثلاثين سنة ونيّف، ولا أحد يدري أين هو بالرغم من أن أمّهم سردت عليهم ما قالت جدّتهم وحاولوا جهدَهم العثورَ عليه ولكن يدون جدوى.
الآن عرَف الأب أنّ هؤلاء هم أبناء أحفاده. طلب منهم بصوت مرتجف أن ينزعوا العود من على الحائط وإحضاره إليه. لا، لا نقدِر على ذلك، لقد حذّرتنا جدّتنا أن هذا العود يعود لوالد جدّنا ولا يلمُِسه أحد. ألحّ الأب على الفتيان الثلاثة بطلبه، فما كان منهم، في آخر المطاف، إلّا أن يلبّوا طلبه، إذ واجب إكرام الضيف عندهم كان من الأولويات. مسك العود بكلتا يديه بعناية فائقة وبدأ يعزف تلك النغمة المحبّبة عليه منذ صباه، وياما عزفها في الماضي.
أسرعت جدّتهم من المطبخ إليهم. إنّها فورًا عرفت أن الأب هو حموها (والد زوجها). قوموا، عانقوه وقبّلوا يده، إنه أبو جدّكم، ها هو أمامكم! صرخت بانفعال كبير بالفتيان. هذا هو الإنسان الذي طالما كنت أحكي لكم عنه. هذه القصّة تعلّمنا أنّ الإنسان الذي يودّ الله منحه الحياة، يعيش سعيدًا في حياته.“