هناك دائمًا من يحتاج إلى تعويذة
Always there is Somebody Who Needs an Amulet
ترجمة ب. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
في ما يلي ترجمة عربية لهذه القصّة، التي رواها كلّ من فياض بن لطفي لطيف (زبولن بن يوسف الطيف، ١٩٢٩-٢٠١٨، من زعماء الطائفة على جبل جريزيم، شيخ صلاة، سكرتير لجنة السامريين الأولى على الجبل، معلّم الإنجليزية لسنوات كثيرة في نابلس) وصدقي بن توفيق صباح (تسدوك بن متسليح يهوشوع، ١٩٣١- ، من زعماء طائفة حولون، شيخ صلاة، ناشط في المجال العام) بالعربية على مسامع الأمين (بنياميم) صدقة (١٩٤٤- )، الذي بدوره نقلها إلى العبرية، نقّحها، اعتنى بأسلوبها ونشرها في الدورية السامرية أ. ب.- أخبار السامرة، العددان ١٢٤٤-١٢٤٥، ١ آب ٢٠١٧، ص. ٥٩-٦٦. هذه الدورية التي تصدر مرّتين شهريًا في مدينة حولون جنوبي تل أبيب، فريدة من نوعها ــ إنّها تستعمل أربع لغات بأربعة خطوط أو أربع أبجديات: العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ العبري الراهن؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنجليزية (أحيانًا لغات أخرى مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية والبرتغالية) بالخطّ اللاتيني.
بدأت هذه الدورية السامرية في الصدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدر بانتظام، توزَّع مجّانًا على كلّ بيت سامري من المائة والستين في نابلس وحولون، قرابة الثمانمائة سامري يعيشون في مائة وستين بيتًا تقريبًا، وهناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين في الدراسات السامرية، في شتّى أرجاء العالم. هذه الدورية ما زالت حيّة تُرزق، لا بل تتطوّر بفضل إخلاص ومثابرة المحرّريْن، الشقيقَين، الأمين وحُسني (بنياميم ويفت)، نجْلي المرحوم راضي (رتسون) صدقة (٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).
”تعاويذُ؟ ليس للسامريين
قُل لي أنتَ، أرأيت مرّةً سامريًا يتوجّه لأحد الكهنة الذين يكتبون التعاويذ، ويطلب أن يكتبوا له تعويذة/تميمة؟ إنّ مَن يؤمن بتوراة موسى، يخشى الله، ويتّكل عليه، لا يؤمن بمثل هذه الأشياء. نعلم أنّ هذا الأمر محظور بموجب التوراة، ولكن ما هو ممنوع عمله بالنسبة لإسرائيلي يجوز فعله للغريب المؤمن بهذه التعويذات؛ ومستعدّ أن يدفع مقابل كلّ تميمة مالًا طائلًا، حتّى ولو أنّ التميمة بمثابة قطعة مقصوصة من الركن العبري في الدورية أ. ب. أخبار السامرة، ونحن نكون آخرَ من يُلحق الضرر برزق بعض كهنتنا.
مثل هذا لا يطرأ حتّى على بالنا. طالما لهم جمهور واسع من الزبائن، وتيّار طالبي التمائم لا يتوقّف، فهنيئًا لهم؛ ”فصحتين عليهن“. من يدري ما يجول في رأس ضيف غريب أتى طالبًا تميمة أو بركة أو قراءة كفّ اليد. من الواضح أنّهم يأتون عندما يشعرون بسوء ومكروه فقط. أتعرف إذن ما يختلج في نفسه؟ إنّه في وضع يؤمن فيه بكلّ شيء. أمن حاجة لأحكي لك عن متخفّين كهؤلاء الذين لهم آلاف المؤمنين، المكتفين بالماء من الحنفية وبركة من ”القدّيس“.
أتعلم؟ هذا مثل حبّة ضد الصُداع، إن كنت لا تؤمن بنجاعة الحبّة فلن يزول الوجع. وإن آمنت، ولو أعطاك الطبيب حبة مصنوعة من الطحين، فإن الوجع سيختفي. الحبّة تُسعف أحيانًا وأحيانًا أخرى لا، وهكذا التميمة. وهنا لا نجدّد لك شيئا، نأمل فقط بأنّ الأجيال القادمة لن تزاول هذا الكار، ويجدوا حِرفة أجلّ ليعتاشوا منها. وكنّا قد رأينا كيف أنّ هذه ”الصنعة“ قد تُسبّب مشاكل عويصة في حال اشتباه الشخص بأنّه قد خُدِع. لكن، دعنا نضع هذا جانبا.
ولكن لِم نحاسب الذين يعيشون معنا، تعال نتطرّق لأمور في طيّ النسيان، مسلية حول قوّة التعاويذ. ثمّة قصص مسلية كثيرة عن المحتاجين للتمائم. باستطاعتنا تعبئة مئات الفصول من قصص الطائفة حول التمائم، التي أحببنا وعن بلاهة طالبيها. أتعلم ماذا؟ وجدنا أنّه لا صلة بين ثقافة الإنسان والحاجة للتعويذة. ذلك الغريب قد يكون وزيرًا في حكومة، محاميًا، طبيبًا أو قد يكون موظّفًا هامّا، فلاحًا، عاملا، راعي ضأن أو مجرّد إنسان، كلّ واحد من هؤلاء زار في وقت ما منازل كهنتنا مستفهمًا عن ”حظّه“.
الكاهن صدقة بن إسحق
خذ على سبيل المثال الكاهن صدقة بن إسحق، الذي توفي عام ١٩٧١؛ لسنا بحاجة لإخبارك عن مكانة هذا الكاهن عند كلّ فرد من أبناء طائفتنا. قل ما تريد عن الكاهن صدقة، رحمة الله عليه، ولكنّك لا تستطيع أن تُنكر أنّه كان زعيمًا بكل ما تحمِل الكلمة من معنى. كان حكيمًا، ذكيًا ولا غبارَ على هذا، أليس كذلك؟ إنّه ورث شمائل كثيرة عن أبيه الكاهن الأكبر إسحق، وكلّنا نعلم، دون ريب، أنّه حتّى العام ١٩٦٧، كان هو الرجل المعروف للجميع بأنّه زعيم السامريين في نابلس، قائل الكلمة الأخيرة في بيته وبيت شقيقه الكاهن الأكبر عمران (عمرم).
نكتفي هنا بالتنويه بخصلتين بارزتين تحلّى بهما، وهما ذاتا علاقة بالقصّة التي سنرويها، إذ أنّ وصفًا شاملًا للرجل قد يتطلّب أكثر من خمسة أعداد من دورية أ. ب. أخبار السامرة. كان شخصية ذا مظهر أبوي وسلطان، تمتّع بمعرفة إدارة الحديث، والأخذ والردّ بحكمة وذكاء مع كلّ من كان على صلة معه. هاتان الصفتان جذبتا أُناسًا من جميع أنحاء البلاد إلى منزله، مثل انجذاب الفراشات نحو النار.
مثله مثل معظم الكهنة، اشتغل صدقة بكتابة التعاويذ. عندما كان يكتب تميمة لشخص ما، لم يكن ذلك كما تكتب اليوم. ولكنّها كانت تحفة فنية لدرجة أنّ طالبها كان يغادر بيته وهو مقتنع بإيجاد الحلول لكلّ مشاكله. ما كان يكتبه ليس خربشات على قُصاصة ورق، بل كتابة مرتّبة ذات آيات وكلمات من كنز أدب التعاويذ السامرية، مشفوعة ببركة الكاهن الشخصية، ذي المظهر المثير للإعجاب، والاهتمام وجذب القلوب.
قوّة التمائم
إنّ كتابة التمائم قد أكسبت الكاهن صدقة أصدقاءَ كثيرين، كما فعلت أشغاله الأخرى. عرف أن يلِج قلب المتوجِّه إليه من المحادثة الأولى. في الكثير من الأحيان، كان علاج الشخص ناجحًا، لدرجة أنّ الزبون دعا الكاهن صدقة لزيارته في قريته أو في مدينته، لمتابعة المعالجة وإسداء النصيحة الحسنة، وفي المناسبة ذاتها اعتنى بآخرين محتاجين للتعاويذ، إلّا أنّ وضعهم الاقتصادي قد كان يمكّنهم من دفع رسوم التميمة، ولكنّه لم يكن كافيًا لدفع تكاليف السفر إلى نابلس أيضا.
وهكذا وسّع الكاهن صدقة نطاقَ أصدقائه ومعارفه، وفي بعض الأحيان شكلّت كتابة التعويذة مدخلًا لصداقة طويلة الأمد، ولإقامة روابطَ اقتصادية في قضايا بعيدة جدًّا عن كتابة التمائم، ولكنّها تمخّضت عن فائدة جمّة لكلا الطرفين.
في بعض الحالات كانت كتابة التعويذة بمثابة مقدّمة مؤاتية لطلب ٱستجيب عادة، مثل مساعدة الطائغة السامرية بعامّة أو إيجاد وظيفة مُربحة لأحد أفراد الطائفة في مكتب حكومي في نابلس.
هل تعرف ماذا، ما كان غير ما هو كائن وغير ما سيكون. آونتَها لم يطلبوا مقابل كتابة التميمة ما يطلبون اليوم. آنذاك كان الثمن لا بأسَ به، ولكن لا يجوز مقارنتُه بما يُطلب اليوم. ولكنّا لم نأتِ هنا للحديث عن النجاحات، إذ في بعض الحالات كانت هناك حاجة لذكاء وحصافة للخروج من الأفشال والخيبات.
امرأة هائجة ومُحبّة
ذات يوم، وصلت إلى بيت الكاهن صدقة بنابلس امرأة محترمة، طرقتِ الباب بأصابعها العصبية، كانت هائجة محتدّة، وهي بحالة ماسّة دون شكّ للعون والمساعدة من الكاهن. كان من الواضح، أنّها امرأة وجيهة من عِلْية القوم. عبد المعين (إلعزار)، ابن الكاهن فتح الباب بتردّد، وسألتِ المرأةُ رأسًا: هل الكاهن صدقة في البيت؟ وعندما كان الجواب إيجابيًا نطقت بصوت عال ”حقًّا وصلت مبتغاي، سمعتُ من أصدقاء حيفاويين، بأنّ خلاصي الوحيد من حالتي الكئيبة المغتمّة متوفّر عند الكاهن صدقة فقط“. ابن الكاهن الذي كان معتادًا لمثل هذه الحالات، طلب من المرأة أن تهدأ وأن تنتظر حتّى يُنهي الكاهن لقاءه مع ضيوف حالتهم لا تقلّ كآبة وغمّة عن حالتها، وهم يعلّقون الآمال عليه كلسان حالها هي.
”لا تهتمّي ولا تغتمّي“ - قال ابن الكاهن، مضيفًا ”وصلتِ سالمة وستعودين إلى بيتك بالسلامة“. ابتسمت الامرأة لسماع هذه الكلمات ورويدًا رويدًا هدأ اهتياجها. دخل الابن غرفة أبيه وأخبره عن قدوم ضيفة وجيهة من حيفا النائية. في تلك الأيّام، أربعينات القرن العشرين، والحقّ يقال، إنّ حاجة ذات أهمية خاصّة كانت تدفع الناس للقيام بمثل هذا السفر الطويل.
المرأة تصف وتُعدّد مصائبَها
أسرع الكاهن صدقة في توديع ضيوفه، وهو يرافقهم في خروجهم، مردّدًا آلاف وملايين التحيات، مستقبلًا الضيفة، وداعيًا إيّاها للدخول خلفه إلى غرفة الاستقبال. سُرعان ما انكشف أنّ المرأة ابنةُ أحد التجّار الأثرياء في حيفا، وهو صديق محترم للكاهن صدقة. طلبتِ المرأة من الكاهن، قبل أن تحكي قصّتها، أن يُقسِم بألّا يكشف أمر زيارتها لأحد فاستجاب لها.
تمتمتِ المرأة بانفعال قصّتها، قصّة حياة أو موت في نظرها، ومن هذا القبيل من القصص، كان الكاهن صدقة قد سمِع المئاتِ منذ أن بدأ بكتابة التعاويذ لتحسين الحظ والبخت. قصّت عليه بصوت مضطرب وبمقاطعَ متقطّعة بأنّها، كما يعلم الكاهن صدقة، ابنة إحدى العائلات العربية الأكثر احترامًا وغنىً في شَِمال البلاد، ولكن ما الفائدة من كلّ هذا الاحترام والسعادة، إذا لم يقويا على تحقيق ما تصبو له نفسها؟سألتِ الكاهنَ صدقة الذي هزّ برأسه موافقًا على ما قالت، وأسمعها كلماتٍ مشجعةً ومهدئة تبشّر بمقدرته على إشفاء آلامها النفسية والتئام شظايا قلبها.
إنّها حكت للكاهن عن ذلك الشاب، ابن أُسرة محترمة بالطبع، وسيم كملاك الله وذكي مثل النبي محمّد تقريبًا، فرح مرح مبتهج. كلّ فتيات حيفا ونساؤها يفكّرن ويحلُمن به على مضاجعهن المبلّلة بالدموع والأشواق. يبدو أنّها لم تعلم شيئًا عن وجوده لولا ذلك اللقاء العائلي، حول شؤون أعمال وتجارة، نعم يا سيدي الكاهن، وهو فطن داهية في تلك الشؤون، عندها تمكّنت من رؤية وجهه المتوهّج، ومنذ ذلك الحين لم تعد تحُِسّ بالحياة.
شكلُه سحرها، وكذلك ما سمعتْه من أقاربها من قصص وتجارب ونمائم عنه، ولم يخطُر ببالها أن تُفصح له عن حبّها؛ هذا لا مكان له في مجتمعنا، حتى ولو بواسطة مِرْسال، فهي تؤمن بالقِسمة والنصيب في الزواج. كلّ شيء في قبضة القضاء والقدر. وما الحياة إلا ما يمنحنا المصير، قالت وأضافت، أليس كذلك يا سيّدي الكاهن الفاضل؟
من فضلك، توسّلت أن يكتب لها الكاهن تعويذة تجعل فؤاد الشاب يُُحبّها ويتولّع بها!
الكاهن صدقة سلّم التعويذة للمرأة
”إهدئي أيّتها المرأة الفاضلة“، قال لها الكاهن صدقة، ”سأشفيك بعون الله من آلامك، ولكن يجب أن تعرفي أنّ الأمر يتطلّب الكثير من التفكير. إنّي بحاجة لأسبوع كي أُقرّر أيّ نوع من التعاويذ عليّ أن أكتب. لا بدّ من تعويذة ذات فاعليّة في تقريب قلب مفعم بالحبّ والانفعال والتوقّع من قلب مختوم ولطيف لحبّ تبثينه نحوه. الوضع أعسر، لأنّ الشاب لا يعلم بجلاء عن حبّك الجمّ له. ولذلك لا بدّ من تعويذة نتمكّن بواسطتها التغلّب معًا، بعون الله، على عدم معرفته.
”من فضلِك يا سيّدي الكاهن المحترم، قم بهذا، وكلّ ما تطلبه سأدفعه بسخاء وأريحيّة“، قالت الامرأة بصوت مخنوق من جرّاء دموع الانفعال. ”حقًّا، يستوجب الأمر تأمّلًا معمّقا“، أجاب الكاهن صدقة مضيفا ”عودي إلى بيتك في حيفا، وليكن الله معك وارجعي إليّ بعد أسبوع“. قام الكاهن من مقعده، علامة واضحة لانتهاء اللقاء. رافقها، وهي أخذت تهدأ، لاحت ابتسامة أولى على وجهها الأخّاذ، فهمس الكاهن قائلا ”حسنًا تصنعين لو تدفعين سُلفة قدرها عشر ليرات فلسطينية وعند عودتك إلى هنا بعد أسبوع، سأُخبرك بباقي المبلغ، بعد أن أكون قد خمّنت ثمن أتعابي في تجهيز التميمة“.
فتحت الامرأة مِحفظتها بلا تردّد، التقطت جِزدانًا كبيرً،ا سحبت منه عشر ورقات من فئة الليرة، ودستها في يدي الكاهن الممدوتتين، مبلغ ضخم في ذلك الزمن، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن معدّل الراتب الشهري كان ستّ ليرات. أسرعت الامرأة ودخلت السيارة، التي تحلّق حولها كلّ أبناء الحي، وهم يخمّنون المبلغ الذي تقاضاه الكاهن صدقة من الزائرة. وبدون تأخير انطلقتِ السيارة مسرعةً إلى حيفا.
بعد أسبوع، عادت الامرأة إلى الكاهن صدقة، فقال لها ”جهّزتُ طلبك وقد أنهكني“. تطرّق الكاهن إلى مدى أهمية تحقيق المرأة ما تصبو إليه وتُحبّ، وفي ساعة صباح مبكّرة في اليوم السابع، شاهد الكاهن عبر نافذة منزله أبناء طائفته يتجمهرون ثانيةً حول سيّارة المرأة الفاخرة.
سلّم الكاهن صدقة المرأةَ التعويذة، قُصاصة ورق شبيهة بالرقّ، ملفوفة ومربوطة بخيط صوف أزرق، وكتب بداخلها بعمود طويل الرموز/الشفرات المعروفة من مفردات الأسماء والكنايات الخاصّة بالله تبارك وتعالى، وبجوارها شِعارات مأخوذة من كُتب التعاويذ الموجودة في مكتبة الكاهن. جُعلت كلّ تعابير الشعارات والأسماء تلائم اسم الامرأة واسم أمّها. كما أعطاها الكاهن صدقة بعض النباتات الجافّة، التي التقطها بنوه من أرض جبل جريزيم، وأوصاها بطحنها ناعمًا وخلطها بشايها فجرًا ومساء. وطلب من الامرأة أن تربُط التميمة بأيّ شكل تشاء لجسمها، وإلا بطَل مفعولها المقصود في غرس بذرة الحبّ في قلب الشاب، الذي أحبّته ليقتنع بأنّه لن يجد في كلّ العالم زوجة مناسبة له أكثر منها.
”من الأهمية بمكان، أن تعلمي أنّ القول الفصل في آخر المطاف، يعود لإرادة الله. التعويذة ما هي إلا عبارة عن جزء داعم فحسب. إذا وجد الله حقًّا بأنّك أنتِ، أو الشاب، أو كلاكما معًا، يستحقّ الواحد الأخرى، ولا سيّما تستحقّان رحماتِه الوفيرة كاليم، فسيكتب لكما النجاح، وإلا فلا فائدةَ تُرجى من التميمة. على كل حال، سأُصلّي شخصيًّا من أجل نجاحك“ - هذا ما قاله الكاهن صدقة للامرأة، التي بدت مرتاحة سعيدة، وهي تمسِك بإحكام التميمة في كفّ يدها.
”الشكر لك سيّدي الكاهن، لن أنسى صنيعك الحسن هذا أبدًا، ما المبلغ الذي عليّ إضافته على السُّلفة“؟. أجاب الكاهن ”أُشكري الله يا امرأة، أنا أكتفي بسبع ليرات ولا حاجة لي لأكثرَ من ذلك“. أسرعت الامرأة ودفعت وهي تفيض بالبسمات وضحكات الرضا، غادرت مهرولة، بينما كان الكاهن صدقة يستقبل ببشاشة ضيوفَه الجدد، الذين أتوا للحصول على تعويذه منه أيضا.
هناك دائمًا من يحتاج إلى تعويذة
لم يمضِ سوى شهر على ذلك الحادث، وها مبعوث من البريد المحلّي يصل منزل الكاهن صدقة على عجل. سلّم ابنَ الكاهن مظروفًا كبيرًا رسميًّا، وعليه طوابعُ حكومة البلاد. فتح الكاهن صدقة فورًا المظروف ووجد فيه صُرّة من أوراق رسمية، وعليها ختم كاتب عدل عائد لمحامٍ حيفاوي معروف، من معارف الكاهن صدقة. وسُرعان ما تبدّى للكاهن، بأن ما أُرسل ما هو إلا عبارة عن نسخة، لدعوى قضائية قدّمتها الامرأة ذاتها، ضد الكاهن بلحمه وشحمه. وتقول الدعوى أنّه حصل خطأ، إذ أنّها مقابل أجر مبالَغ فيه دفعته، تحصّلت على تميمة حظ، تبيّن أنّها لا تسوى قرشًا، فلا فائدة لها.
وعليه، تطالب الامرأة من الكاهن، قبل أن تقدّم الدعوى للمحكمة رسميًا، أن يُعيد لها ما دفعَتْه له، وكذلك مبلغ مستحقّ على الضرر النفسي الذي تسبّب لها. والمحامي المعروف، ممثّل الامرأة، اقترح في رسالة مرفقة تقول بأنّ الكاهن صدقة يُحسن صُنعًا إذا حضر حالًا إلى حيفا لتسوية الدعوى.
لم ينتظر الكاهن صدقة ولو لحظة واحدة، أمر ابنه باستدعاء سيارة، استقلّها متوجّهًا لحيفا، لبيت المحامي، ومحذّرًا ابنه بألّا يكشف الأمر. لكن ذلك التحذير كان بلا جدوى، لأنّ كلّ ما يصل إلى مكتب بريد نابلس، كان يُقرأ قبل أن يتسلّمه صاحبه.
”ما الأمر؟ ماذا تريد منّي هذه الامرأة؟“ - سأل الكاهن صدقة صديقَه المحامي مضيفًا ”عليك أن تساعدني بفضل صداقتنا، وإلّا فالشرّ لن يلحقني أنا فقط بل سيشمُل كلّ أبناء طائفتي. ساعدني!“. استرسل المحامي في سرد القصّة الغريبة للمرأة، التي اقتنعت حقًّا بأنّ بمقدور التعويذة، التي سلّمها إيّاها الكاهن تحلّ كلّ متاعب قلبها. والأمر المدهش في كل هذه القضية، هو أنّ قدرة التميمة لم تُمتحن قطّ. قبل أن تسنّى للمرأة أن تأخذ قسطًا من الراحة بعد رحلتها المتسرّعة من نابلس لحيفا، في المرّة الثانية، زفّ أفراد بيتها خبر دعوة عائلة من أحبّت من كلّ قلبها للاشتراك في حفل زواجه، إذ أنّه وجد أخيرًا حبيبة قلبه، واحدة من صديقات الامرأة القريبات.
”يقينًا ستبتهجين جدًّا بسماع هذا الخبر، وكلنا أكّدنا بأنّك ستكونين أوّلى من يهنّىء العروسين“، قال أقرباؤها لها. غاصت الامرأة في سويداء. في الظاهر، أبدت أنّها حقًّا سعيدة بسعادة العروسين، وهنّأت صديقتها التي انقلبت عدوّة لدودة لحُسن حظّها. في أعماق قلبها عشّشت بغضاء شديدة للعالَم، للكاهن صدقة الذي أعطاها تعويذة لم تجتزِ الامتحان. توجّهت دون تأخير للمحامي متوعّدة بتقديم دعوى ضد الكاهن.
أعمل الكاهن صدقة كلّ ما أوتي من قوّة الإقناع، لدرء الحكم الذي نزل عليه/سوء الطالع (רוע הגזרה). وكان الكاهن معروفًا بهذه القدرة، لدرجة أنّه كان بميسوره إقناع أصلعَ بابتياع دزّينة أمشاط. بعد أخذ وردّ طويل توصّل الجانبان لتسوية، تقضي بأن يُعيد الكاهن صدقة للامرأة ما دفعته له، سبعَ عشرةَ ليرة، وهي بدورها تتنازل عن مبالغَ أخرى وتُسقط تقديم الدعوى.
امتلأ الكاهن رحمة وعطفًا حيالَ منظر الامرأة، التي ظهرت وكأنّها خربةٌ متداعية، نحيفة عجفاء، لا ذرّةَ من حبّ الحياة في عينيها. دفع الكاهن للتوّ المبلغ المطلوب، وسُرعان ما توارت الامرأة من هناك والليرات في مِحفظتها. ”شكرًا على مساعدتك“ - قال الكاهن صدقة للمحامي، ودسّ تميمة الامرأة في جيبه مضيفا ”عن اذنك يا صديقي المحامي، سأعود الآن إلى نابلس فعائلتي تنتظرني لمعرفة ما استجدّ“.
”حقًّا، قم بذلك“، قال المحامي وأردف قائلًا ”ولكن أرجوك أوّلًا يا سيّدي الكاهن ألا تغادر مكتبي قبل سماع قصّتي الشخصية، التي لا تختلف كثيرًا عن قصّة الامرأة. تفضّلِ اقعد، استمع بهدوء واسترخاء، ربّما كان بحوزتك تعويذة لي فقلبي محطّم لألف شظية“ - قال المحامي هذا وأخذ بسرد قصّته بإفاضة.
ربّت الكاهن صدقة على التميمة التي في جيبه وابتسم وقال ”هذا يُكلّفك سبع عشرة ليرة وتكاليف السفر“.