سِرّ ثَراء فرج (مرحيب) صدقة
The secret of the wealth of Faraj (Marḥīv) Sadaqa
ترجمة ب. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
في ما يلي ترجمة عربية لهذه القصّة، التي روتها روزه بنت عبد الرحيم السراوي الدنفي (١٨٩٩-١٩٨٥، زوجة شاكر (يششكر) بن إبراهيم المفرجي (همرحيڤي)، عاشت فقيرة طَوال حياتها في نابلس، تحسّن وضعها المادي بعد انتقالها للسكن في حولون مع بنتيها فردوس (عدنه) وشهيرة، أعالها ابنها إبراهيم حتّى آخر أيّامها) بالعربية على مسامع الأمين (بنياميم) صدقة (١٩٤٤- )، الذي بدوره ترجمها إلى العبرية، نقّحها، اعتنى بأُسلوبها ونشرها في الدورية السامرية أ. ب.- أخبار السامرة، عدد ١٢٤٦-١٢٤٧، ١٥ آب ٢٠١٧، ص. ٦٤-٧٠. هذه الدورية التي تصدر مرّتين شهريًا في مدينة حولون جنوبي تل أبيب، فريدة من نوعها ــ إنّها تستعمل أربع لغات بأربعة خطوط أو أربع أبجديات: العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ العبري الراهن؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنجليزية (أحيانًا لغات أخرى مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية والبرتغالية) بالخطّ اللاتيني.
بدأت هذه الدورية السامرية في الصدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدُر بانتظام، توزَّع مجّانًا على كلّ بيت سامري من المائة والستّين في نابلس وحولون، قرابة الثمانمائة نسمة، وهناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين في الدراسات السامرية، في شتّى أرجاء العالم. هذه الدورية ما زالت حيّة تُرزق، لا بل وتتطوّر بفضل إخلاص ومثابرة المحرّريْن، الشقيقَين، الأمين وحُسني (بنياميم ويفت)، نجْلي المرحوم راضي (رتسون) صدقة (٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).
”عِيادة المرْضى
”يا مريم! يا مريم! لماذا لا أحدَ يرُدُّ عليّ؟ أين أنتِ يا مريم؟ ما جرى، ألا يخافون من الله؟ ها أنتَ هنا ولا تجيب؟ ماذا تفعل هنا في السرير؟ ألستَ على ما يُرام؟ سلامتك! أين زوجتك، أذهبت للعمل؟ رأيت باب البيت مفتوحًا، سمعت الراديو، إذ ما تفعل جارة طيّبة؟ ذهبت لرؤية من عندكم في البيت في وقت العمل.
ما حدث؟ أأحسستَ بالبرد؟ لا عليك، سلامتك! إشرب الكثير من الشاي وضع فيه عصير الليمون وبعض قطرات الكونياك وستشفى. وإذا كنتَ تشكو من ألَم في البطن، فما عليك إلّا أن تغلي ماء بالبابونج، كما كانت أمّي مريم تفعل، إشربه وفيه السلامة.
حسنًا، إني ذاهبة، امرأة طاعنة في السنّ أنا؛ لا أستطيع الجلوس وقتًا طويلًا في مكان واحد. بودّي أن أعرف لماذا ابني خليل لم يفتح الدكّان اليوم. بالتأكيد ذهب لابتياع بضاعة جديدة؛ ليعطه الله القوّة فقط ويُفرحه بزواج أولاده. ماذا تقول؟ هل سيُنعم اللهُ عليّ وأحضر فرحهم؟ لماذا تقسو على امرأة عجوز، تطلب راحتها الدائمة في كلّ لحظة؛ كفى، لقد مللتُ. يكفي أن أراهم جميعًا يعملون ويساعدون أباهم وأُمّهم.
كفى بأسئلتك! ماذا تريد من امرأة عجوز يفوق ما نسيتْه ما تتذكّره. ما هي نوبة السبت؟ يا سيدي أنا أعرف يقينًا، ”إذ يأخذ رجل امرأة“ [سفر التثنية ٢٢: ١٣]، ماذا تقول عنّي، ها؟ وما النوبة في السبت القادم؟ ، إنّها ”هذا اليوم“ [سفر التثنية ٢٦: ١٦- ٢٩: ٢٧]، ، ولدينا هذا العام ”شَبات هِسْكَنتَ“ [يوم سبت عادي يحلّ بين يوم الغفران وعيد العرش أو في السبت الثاني في الشهر السابع إذا صادف الشهر السابع يوم جمعة]، وعندها يقرأون نوبة ”ويكون إذ تأتي عليك“ [سفر التثنية ٣٠: ١].
ما رأْيُك بي؟ تسألُني من أين لي معرفة كل ذلك؟ إنّي تعلّمتُ في مدرسة أقامها وارن الأمريكي والكاهن الأكبر يعقوب بن هرون في نابلس؛ وكان فيها صفّ للبنات. تعلّمتُ هناك مع أُمّ يوسف، [ بدوية أرملة الكاهن أبي الحسن (أب حسده) ابن الكاهن الأكبر يعقوب بن هرون، أطال الله في عمره] ومع عيفت (أو عفاف) أُم فؤاد رحمها الله. وكان الكاهن عمران (عمرم) معلّمَنا للعبرية والتوراة وأُمّ حنانيا المسيحية كانت تعلّمُنا الخياطة والتطريز.
أذكر أنّ السوّاح كانوا يزوروننا في المدرسة بضع مرّات، وعندها كان الكاهن يعقوب يدعوني ويقول: يا روزا، قفي أمامَ الضيوف وأسمعيهم آيةً من التوراة. كنت أقف مرتجفة بحضرة وارن، ذلك الثريّ وأتلو ببطىء والغيْرة تنضح من عيون كلّ البنات. كان الكاهن يعقوب يضع يده على رأسي وكان ذلك بالنسبة لي علامة رضاه عن قراءتي الموفّقة.
الجميع كان آنذاك فقيرا، كنّا أحيانًا نذهب للنوم جياعا. عندما كنّا نحصُل على طعام يوم سبت، لم نعلم في ما إذا كنّا سنحصل عليه في السبت التالي أو حتّى في اليوم التالي، يوم الأحد. الكلّ كان فقيرًا جدًّا باستثناء أبناء فرج صدقة الثلاثة، يعقوب العكاوي، إبراهيم وحسن (يفت).
وكان يعقوب العكّاوي أغناهم إذ كانت عنده بنت واحدة صغيرة، في حين أنّ لدى شقيقيه كانت عائلتان كبيرتان. لماذا سُمّي يعقوب بالعكاوي؟ لأنّه كان تاجرًا وكان يسافر أحيانًا إلى مدينة عكّا ولهذا أطلقوا عليه الكنية ”عكّاوي“. كان تاجرًا كبيرًا وتمكّن من جمع مال وفير. وأنت تتساءل إلى أين ذهب كلّ هذا المال؟ من أين لي أن أعرف؟ لو كانت بنته ثريا حيّة تُرزق لأجابتك.
سِرُّ الغنى
عرفتُ بأنّك ستسألني هذا السؤال. ما مصدر هذا المال الوفير لهذا الحدّ لدى الإخوة الثلاثة؟ من أبيهم فرج صدقة، أي نعم، منه لا غير؛ كان ثريًا كبيرًا عندما تقاسم أبناؤه الثلاثة مالَه؛ لقد مات قبل ولادتي بزمن طويل. وهو العكاوي كان تاجرًا ومحسنًا كبيرا. ثمّة تاجر صغير يبدأ بقرشين ويسير رويدًا رويدا، ويبقى كما كان تاجرًا صغيرا. ومن جهة أخرى، هنالك تاجر كبير يبدأ بمال وفير، ولأنّه بطبعه تاجر فهو يغتني أكثر بدل تبذير كلّ ماله. فرج صدقة كان من هذا الطراز منذ البداية، ذا مال كثير وظلّ تاجرًا كبيرا.
أرى أنّي لن أخرج من هنا بسهولة؛ ما يهمّك هو المال فقط. هيّا، ستسألني بالتأكيد من أين حصل فرج صدقة على المال الكثير منذ البداية؟ عليّ الرجوع إلى البيت؛ وضعتُ الشاي على النار، لكن لا بأسَ فسأقُصّ عليك القصّة قبل رجوعي. من أين حصل فرج صدقة على المال منذ البداية؟ حقًّا هذا السؤال طرحه أناسٌ كثيرون في ذلك الوقت. بالطبع ليس من والده إذ كان طفران ومات طفران. سمعتُ القصّة التي سأرويها عليك من والديّ مريم وعبد الرحيم. وقد حكى هذه القصّة سامريون كثيرون، وبعضُ جيراننا المسلمين في نابلس، وتتناقل هذه القصّة عندهم من جيل لآخر. لا أستطيع أن أُقسِم لك بأنّ هذه القصّةَ حقيقية ولكن عندما تجد أنّ أُناسًا كثيرين يعرفونها ويرونها فمعنى ذلك بلا شك أنّ فيها بعض الحقيقة.
اسم والد فرج صدقة هو يعقوب بن إسماعيل وكان فقيرًا مدقعًا كباقي كلّ السامريين، وكان قد تزوّج بسنّ متقدّمة. احتلّ يعقوب مكانة مرموقة بين كلّ أبناء طائفته لأنّه مارس عبادة دينه بإيمان تامّ ولذلك احترمه أصدقاؤه المسلمون الذين بطبيعتهم يقدّرون المؤمنين حتّى ولو كانوا منتمين لدين آخر.
إنّي لا أقصِدالرَّعاع الذين كانوا يضايقوننا دائمًا، ولا الأئمّة في المساجد الذين كان يحرضّون ضدّ السامريّين دائما. إنّي أقصِد وجهاءَ العرب، رؤساء الحمائل والتجّار الذين اهتمّوا بالسياسة والتجارة كاهتمامهم بالدين، واحترموا أبناء ديانات أخرى. وقد راق لهم ما رأوه من استقامة وإيمان يعقوب صدقة، بالرغم من فقره وفشله في التجارة بل واحترموه جدّا.
ذات يوم دخل تاجر كبير بيت يعقوب صدقة فاستقبله بكلّ احترام وترحاب، واستغرب هذه الزيارة النادرة. بعد احتساء القهوة، قال التاجر المسلم ليعقوب صدقة؛ لا، لا، لا تسألني ما اسمه ومن أيّة عائلة، لا أعرف؛ ما أعرفه وَفق ما سمعته أنّ التاجر لم يكن شيخَ أيّة حمولة نابلسة. كلُ ما عُرف عنه أنّه كان أرملَ بدون أولاد وزوجته ماتت من مرض عُضال.
الحاصل، بعد احتساء القهوة، قال التاجر المسلمُ ليعقوب صدقة: ”أُنظر يا صديقي يعقوب، أنت تعرف أنّي أرملُ ولا أولاد لي، إنّي في طريقي لرحلة طويلة. على كلّ مسلم القيام بفريضة الحجّ إلى المدينة المقدّسة مكّة، مرّة واحدة على الأقلّ في حياته. وقد آن أوانُ حجّي، فربّما بفضل أداء هذه الفريضة سيُنعم الله عليّ بامرأة فاضلة كالمرحومة زوجتي. والواقع أنّي لا أستطيع أن أثقَ بأيّ واحد من أصدقائي التجّار. في كلّ نابلس لم أعثر على شخص مؤمن ورع ومستقيم مثلك.“
بحوزتي عشر جِرار مملوءة بالزيت الفاخر، قال التاجر ليعقوبَ بن إسماعيل صدقة، ولا أقدِر على أخذها معي. لذلك جئتُ أطلب منك أن تحفظَها عندك في البيت ريثما أعود من مكّةَ وسأدفَع لك أجرك، ودَعْني أدفع لك دينارين مقدّمًا على الحساب. لا يا جاري، قال يعقوب، وردّ يد التاجر المسلم الممدودةَ مؤنّبا، إنّك تعرفني بأنّي حافظت على صداقتي معك دائما؛ سأحفظ جِرارك في بيتي بكلّ سرور ولا تذكُر مسألة دفع أجر ذلك، فنحن صديقان ولا حساب بيننا.
هذا دليل آخرُ على أنّك صديق صدوق، قال التاجر وقام وعانق يعقوبَ بحرارة كبيرة وودّعه.
عشر جِرار أُسطورية
في اليوم التالي أحضر الخادم جرار الزيت العشر الكبيرة، ووضعها على اليوك (كلمة تركية الأصل ومعناها: تجويفة في الحائط، عبارة عن مخزن لحفظ بعض الأغراض مثل المواد التموينية. في الأصل وردت كلمة ”مصطبة“ والسؤال هل هي مستعملة لدى السامريين بهذا المعنى؟ وترجمت بالعبرية بـ איצטבה التي تعني ”الرفّ“. صديقي الكاهن عزيز (يقير) بن يعقوب أعلمني في ١١ كانون الثاني في رسالة إلكترونية باستعمال الكلمة ”التقيصة/ التقيسة“ وهي غير معروفة لي) حيث أراد يعقوب وزوجته الشابّة، واليوك ضخم موجود في داخل جدار غرفة السكن الوحيدة. بدا اليوك كالمحراب، كمخزن صغير حيث دأبوا على وضع الطعام في مرطبانات وفي أكياس لفصل الشتاء البارد. هكذا قبعت الجرار مدّة طويلة ولم يلمسها أحد. وقد ربط التاجر على فوّهة كلّ جرّة غطاء قماش سميكًا بحبل غليظ لئلا يسيل الزيت.
انضمّ التاجر المسلم، صاحب الجرار، إلى قافلة حجّاج توجّهت إلى مكّة. بقيت الجرار في مكانها، وبعد أيّام معدودة نُسي أمرُها، إلّا عندما كان يصعَد أحد الولدين من آن لآخرَ إلى اليوك لجلب الطحين أو مرطبان زيتون أخضر. صعِدت الزوجة الشابة ذات مرّة، لإنزال بعض السكّر من كيس، كان وراء الجرار، وكان عليها إزاحة جرّة لتصل يدها إلى كيس السكّر. نادت أبا فرج، زوجها، وقالت يظهر لي أنّ الزيت في الجرار فاخر جدّا، فالجرّة التي أزحتُها كانت ثقيلة جدّا وليست كجرّات زيتنا.
لا عجبَ في ذلك، ردّ عليها زوجها يعقوب، تاجر محترم من هذا القبيل لا يتعامل مع زيت بسيط، عاديّ. وبعد هذا القول لم تُذكر الجرار في محادثات الزوجين، التي كانت نادرةً على كل حال. كانت أيّام عصيبة ولم يكن ثمة وقت للحديث الفارغ.
التاجر لم يعُد من مكةَ
مضى نصف عام ولم يرجع التاجر المسلم. وما هو الزمن المطلوب لعودة الحجّاج لبيوتهم؟ آنذاك لم يكن الوضع كما هو عليه في أيّامنا هذه حيث يستقلّ بعض الحجّاج الطائرات وآخرون يسافرون بالحافلات وبالسيارات. في أيّامنا هناك من يعود بعد أسبوعين، بعد شهر أو شهرين.
قبل قرن ونصف من الزمان، كانت الظروف مختلفة؛ كان الحاجّ يصل إلى مكةَ مشيًا على الأقدام أو راكبًا على حصان أو جمل أو حتّى حمار. كلّ حاجّ بحسب مكانته ووضعه المادّي. كان الحجّاج يتوجّهون إلى مكة في قوافل لأن الطريق كانت طويلة وقطّاع الطرق كانوا كثيرين. ودائمًا كان عدد العائدين أقلَّ من عدد المغادرين. كثيرون قضوا نحبهم من جرّاء حوادث السطو، أو جوعًا أو عطشًا لنَفاد مالهم. وهنالك من أُصيبوا بـ”الجفاف“ في مكّة بسبب الحرّ الشديد هناك، لا سيّما بالنسبة لمن عاش طَوال حياته في نابلس، ولم يتعوّد على مثل هذا الجوّ شديد الحرارة.
مضت تسعة شهور فسنة والرجل لم يرجع. ولم يكن أحد يمكن الاستفسار منه عن الحاجّ، فكما قلت لك كان الرجُل أرملَ، أبتر، ولا قريب له في نابلس ولا أحد يعرفه. كان زملاؤه التجّار يتكلّمون عنه، وأخذ حديثهم عنه يقلّ بمرور الوقت. ومن التجّار كان مَن ظنّ أنّ الرجلَ تأخّر عند أقاربه في جزيرة العرب إن لم تُصبه، لا سمح الله، مصيبة وهو في طريقه إلى مكّة أو وهو عائدٌ منها.
عِبء الإعالة يقَع على كاهل الأرملة
في هذه الأثناء مرِض يعقوب صدقة بمرض قاتل وكان كبيرَ السنّ، احتُضِر ورحل عن هذا العالم. بقي على قيد الحياة زوجته الشابّة وابناه الصغيران، فرج (مرحيب) وحبيب (حوبب) وأُرغمت الزوجة على تأمين إعالة نفسها وولديها. كانت تزاول حِرفة الخياطة والتطريز لبعض التجّار المسلمين، وبالأجر الزهيد الذي كانت تتقاضاه، أعالت ولديها ووفّرت بعض القروش لليوم الأسود. اهتمّت بتربية ابنيها، أرسلتهما لتعلّم التوراة والتقاليد عند الكاهن الأكبر سلامة بن غزال (طابيه) وعند المرتّل والمنشد إسرائيل بن إسماعيل السراوي الدنفي.
مرّت سنتان، ثلاث، أربع، خمس سنين والتاجر الثريّ لم يرجع لاسترجاع جراره المحفوظة في بيت أرملة يعقوب صدقة. جاءت أيّام عصيبة، مجاعة في البلاد، نفِدت النقود. وأصبح التجّار لا يطلبون من الأرملة تجهيز خياطة أو تطريز إلا نادرا. وكانت أرملة يعقوب صدقة محترمة وصالحة. وفّرت قرشًا على آخرَ لإعالة ابنيها، ولكن عندما انتهى ذلك العمل وتبخّرت التوفيرات، وصلت الأرملة وابناها لحالة توفّر كسرة خبز لا غير. ولا أذكر هنا في هذا السياق الاضطهادات التي تعرّضت لها هي وابناها كباقي السامريين من قِبل المشاغبين. علت يد المحرّضين ولم يذُق ِالسامريون طعم الراحة والهدوء، لا سيّما الفقراء منهم حتّى ليوم واحد.
عند انعدام مَخرج آخر
وهكذا تناقص الغذاء المخزون في اليوك، نفد أولًا السكّر فالملح فالزيتون فالمربّيات على أنواعها الفاخرة من صُنع الأرملة. حلّ يوم لم يبقَ فيه سوى كيس الطحين وعشر جِرار التاجر. ”إصعد يا ابني، يا فرج (مرحيب) إلى اليوك وأحضر لنا القليل من الطحين“، قالت الأرملة لابنها البكر بصوت منهَك مضيفة، إنّي وضعته خلف الجرار، عليّ أن أحضّر العجين للخبز. وإنّي أثِق بالله فيرسل لنا أكياسًا كثيرة بدل هذا الكيس الأخير ليُطعمَ مؤمنيه.
ركن فرج السلَّم على الحائط وتسلّق اليوك، أزاح إحدى الجرّات ليسهُل عليه الوصول لكيس الطحين. فتح فرج الكيسَ وغرف منه بكأسٍ، ووضع الطحين في جَفْنة، وبعد أنِ ٱنتهى من ذلك، ربط فوّهة الكيس بحبل قصير، وهمّ بالنزول من على السلّم، وحدث أن كوعه قد ارتطم بجرّة الزيت التي كانت على الرفّ فتحرّكت. عندها رفعت الأرملة صوتها، فهي كانت تُتابع ما قام به ٱبنها. جرّة الفَخّار سقطت على مصطبة الغرفة، ثقبت وكُسرت في بضعة أماكن. ”يا ويلنا، أنظر ما فعلت لنا بإهمالك، كُسرت الجرّة، وٱنظر ٱنسكب كلّ الزيت على المصطبة“، صاحت الأرملة.
يا أمّي لا تغضبي، سيرُسل الله لنا جرّة أُخرى“، قال فرج. سُكب الزيت على المصطبة وبعضه بلعته شقوق البلطات. انحنت الأم وابناها وجمعا كِسْرات الجرة، ولدهشتهم الشديدة وجدوا بين الكسرات في حوض من الزيت كيس قُماش كبير مربوط جيّدًا بخيط غليظ. بيدين مرتجفتين مسكتِ الأرملة الكيس، فكّت الخيط فانفتح الكيس أمام أعينهم المستطلعة للتوّ ودنانيرُ من الذهب كثيرة تسرّبت منه وسقطت على المصطبة.
ماذا فعل الله لنا؟
”ماذا فعل الله لنا“، نطق الجميع معًا، الأرملة وابناها في الوقت ذاته. ثم أردفت الأرملة قائلة ”الآن أعرف لماذا كان وزن جرّة الزيت هذه أثقلَ من المعتاد“. نظر الواحد إلى الآخر بانفعال وتعجّب؛ وعادت الأرملة إلى سابق حالتها أولًا وقالت لحبيب ابنها ”اخرُج بسرعة وافحَص هل صيحاتي استدعت أحدًا إلى هنا؟“. راح حبيب نحو الباب وألقى نظراتٍ هنا وهناك ثم عاد وأشار بيده بأن لا أحد هناك. حذّرت الأرملة ابنيها من إفشاء ما حدث.
’’لا استغرب إذا كان في كلّ جرّة من التسع الباقية مثل هذا الكيس“، قالت الأرملة. لن نبّذر هذه النقود، إنّها ليست لنا، بالرغم ممّا قيل في المدينة بأنّ صاحب الجرار قد مات بعد أن هاجمه لصوص بالقرب من بلدة عمان في طريق عودته من مكّة إلى نابلس. قد تكون هذه مجرّد إشاعة، ومع مرور خمس سنوات على غيابه، فهنالك احتمال برجوعه يومًا ما. سنستعمل هذه النقود بحكمة، والله بعونه العميم سيُنعم بنقود بديلة علينا.
وهكذا سلَكت الأرملة؛ دأب الفتى فرج من آونة لأخرى في الذهاب إلى طولكرم ليصرِف قطعة نقدية أعطته إيّاها والدته من الكيس، بنقود أخرى كانت متداولة في السوق. وقد تابعت العائلة حياتها بعوز وفاقة أمام أعين الآخرين، واستمرّت الأمّ في حِرفتها. ولا واحد من ثلاثتهم أفصح عمّا حدث في بيتهم.
ولم تمضِ مدّة طويلة وإذا بفرج وحبيب تجرّآ وابتاعا أقمشة للاتجار بها في قرى ومدن، ووصلا حتّى يافا وعكّا. وسُرعان ما ذاع صيت فرج تاجرًا بارعا. تبعه في المهنة ذاتها شقيقه حبيب إلا أنه لم يصل إلى درجة فلاح أخيه البكر فرج. وبعد مضيّ عدة سنوات احتلّ الشقيقان مكانة مرموقة في طائفتهما وغدت كلمتهما مسموعة في كل موضوع.
في هذه الأثناء عُلم أنّ التاجر المسلم قد مات حقًّا في الطريق؛ وأصبحت الأكياس الموجودة في الجرار مُلكا للشقيقين اللذين بحكمتهما الجمّة لم يستكينا حتى ضاعفا وثلّثا الثروة التي كانت في جِرار الزيت.
هذا ما في جُعبتي من قصّة عن مصدر ثراء فرج صدقة، كيف كان لديه في البداية المال الوفير، لهذا الحدّ ولشقيقه حبيب أيضا.
هذا ما قصّوه عليّ؛ لم أُسقِط شيئا؛ حسنًا، سلامتك، عليّ أن أغادر؛ لا، لا، لا تُتعب نفسك، أعرفُ طريقي للخروج.“