الفِراق صعبٌ
قصّة الكاهن عطاالله إبراهيم خضر الحَفتاوي 1930-2013
Farewell is Hard
A Story by the Cohen ˓Aṭallah Ibrāhīm Khaḍir al-Ḥaftāwī
ترجمة ب. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
בנימים צדקה (כתב וערך), אוצר הסיפורים העממיים של הישראלים השומרונים. מכון א. ב. ללימודי השומרונות, הרגרזים–חולון 2021, כרך ב’ עמ’ 516-515.
وَداع أخي البِكر خضر
في العام 1992 وقفتُ هناك بجانب قبر أخي الجديد، أهُزّ رأسي لعبارات مشاطرة أبناء الطائفة بالحزن، مطئطىء الرأس نحو القبر ذي الثلاثين يومًا، رافضًا التصديق بأنّ هذا هو فِراقنا الأخير. إنّه يُبقيني في هذه الدنيا وهو يسير في طريق كلّ آدميّ إلى عالَم الله، إله أرواح جميع البشر، ولا أحدَ عاد من هناك. وقفتُ هناك، جسمي هناك، وروحي ليست معي.
إنّها تتساءل حول ماهيّة العَلاقة التي ربطتني بشقيقي، ذاتي ولحمي. ليسمح لي كلّ الأحياء معي، إنّي لم أشعر قطّ بعلاقة قويّة لهذا الحدّ، كما أحسستُ نحو أخي، بِكر أشقائه الثلاثة، خضر، عطاالله وفضل، وأُختيْه نعمة وزهية، أولاد أبينا الكاهن إبراهيم خضر. الوفاة المفاجئة زعزعت روحي. حاولت بقدر المستطاع أن أربط جأشي وأحافظَ على هدأة البال، لكنّني كنت أعرف أنّني على وشْك الانفجار داخلَ قلبي. صدمة شديدة هزّت كلّ شُعيْرات نفسي. الله القادر على كلّ شيء، بوسعه أن يساعدَني فقط لأتدبّر شؤوني، وهو الوحيد العارف كيف أعانني للتغلّب على الأزْمة الفظيعة التي أصابتني. اليوم كالبارحة، إنّي راضٍ عن كلّ ما يمتّ بأخي البِكْر خضر بصلة، لقد لبّيتُ له كلّ ما طلبه مني برضًا وإخلاص. لم أجرؤ ولم أفكّر قطّ ألّا أُطيعه.
هذا الفِراق، ذكّرني بفِراق آخرَ، حدث قبل ربع قرْن، في العام 1967، بعد حرب النكسة (في الأصل: حرب الأيّام الستّة) ببضعة شهور. آنذاك قرّر شقيقي خضر أن يفتح صفحة جديدة في حياته، الانتقال من نابلس لحولون.
شقيقي ينتقل من نابلس للسكن في حولون
عندما علمتُ بذلك، قبلته على مضض. لم أستطع قبول قراره. توجّستُ جدًا من اللحظة التي فيها سأضطرّ أن أفترق عن شقيقي؛ وفي تلك الأيّام الأولى بُعيد الحرب، لا أحدَ كان يعرف أيّة تطوّرات سياسية ستتمخّض مستقبلا. لا أحدَ عرف ما سيأتي به يوم غد. شعرنا كلّنا يومَئذٍ أن حُكم إسرائيل لن يعمّر، ونابلس ستعود لأيدي الأردنيّين. لا شيءَ كان مضمونا.
لم أقدر على قبول الفكرة القائلة، بأنّ مصير شقيقي قد يكون كمصير سامريّي حولون، الذين حتّى العام 1967 رأيناهم مرّة واحدة فقط في السنة لسبعة أيّام فترة الفسح. وذلك بموجب اتّفاقيّة الهُدنة بين إسرائيل والأردن، والتي تجاهلها الأردنيّون في السنتين 1966 و 1967، إذ أنّهم لم يسمحوا لبعض السامريّن بزيارة نابلس.
ماذا سيحدُث إذا فعلوا ذلك أيضًا مع شقيقي خضر؟ أفكار رهيبة كانت تتزاحم بلا انقطاع في دماغي. لقد تعكّر صفوُ روحي بالكامل في أعقاب اتّخاذ شقيقي ذاك القرار. كلّ محاولات إقناعي للتراجع عن هذه الخطوة، قد باءت بالفشل، لا سيّما أنّ الطائفة الحولونيّة، ضغطت على شقيقي بشدّة للانضمام إليها. إخوته الحولونيّون قالوا له: ها نحن منذ عشرات السنوات بدون كاهن، ولا قائد دينيًّا رسميًّا لرعاية الشؤون الدينيّة. تعال إلينا، كن كاهنًا لطائفتنا، كانوا يتوسّلون ويلحّون. أضف إلى ذلك عرَضوا عليه إغراءاتٍ من الصعوبة بمكان رفضُها - راتب دائم، شَقّة مريحة له، لزوجته ولأبنائه الستّة.
كنت على علمٍ، أنّه بكلّ ما يتعلّق بتحسين وضع شقيقي الشخصيّ والاقتصاديّ، لم يكن في جُعبتي أيّ اِقتراح بديل يمنعه من الانتقال إلى حولون.
لم أكُن عند الفِراق
سيطر عليّ الحزن والكآبة. أخذ يوم سفَر شقيقي خضر يقترب. عرفتُ أنّه لا خيارَ لي سوى قُبول القرار الذي اتّخذه. حلّ ذلك اليومُ ومعه هديرُ محرّك الشاحنة التي وصلت لنقل العائلة وأغراضها. عزمتُ ألّا أكون حاضرًا في تلك اللحظة الصعبة.
أغلقتُ على نفسي داخلَ حانوتي، أقفلتها من الداخل حتّى لا يعرفون أين أنا. اختبأتُ خلفَ خِزانة كبيرة في الحانوت.
لا تسألني أيّة أفكار انتابتني في تلك اللحظة. لا تشاركني تأنيبَ الضمير الذي ألمّ بي. سامريّون كثيرون أخذوا يطرُقون على باب الحانوت، لكنّي لم أردّ. تساءل الكثيرون بصوت عالٍ، أين أنا عندما يبدأ شقيقي حياة جديدة. إنّي أعترف وأعترف، أنّني في النهاية لم أكن في وَداع أخي. عرفتُ بأنّي لن أقوى على تحمّل لحظة الفِراق القاسية جدًّا. خشيت أن أفقد الوعيَ في بحر من الدموع التي ستذرفها عيناي. عرفت أنّني لن أقوى على رفع يديّ والتلويح بهما للفِراق. لقد تجاهلت كلامَ البشر.
الفِراق صعب. رحمةُ الله عليك يا أخي ونورَ عيني.