منتديات الصمود الحر الشريف
زيارتكم تسرنا * ومشاركتكم لنا بالتسجيل والمساهمة في منتدياتنا تسعدنا * حللتم أهلا ونزلتم سهلا في منتدياتكم الصامدة الحرة الشريفة
منتديات الصمود الحر الشريف
زيارتكم تسرنا * ومشاركتكم لنا بالتسجيل والمساهمة في منتدياتنا تسعدنا * حللتم أهلا ونزلتم سهلا في منتدياتكم الصامدة الحرة الشريفة
منتديات الصمود الحر الشريف
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات الصمود الحر الشريف

هذه المنتديات تجمع الشرفاء والشريفات الذين يناضلون من أجل القضايا العادلة في فلسطين والعالمين العربي والإسلامي والعالم بأسره بالوسائل التعبيرية الشريفة والشرعية - لا تتحمل إدارة المنتديات مسؤولية ما ينشر فيها مما لا يعبر عن رأيها بالضرورة
 
الرئيسيةجديد اليوم*أحدث الصورالتسجيلدخول

وضع الأمريكان دستور العراق ........................... وضع الروس الآن دستور سوريا ..................... ربما هذا يعني أن سوريا من نصيب روسيا في مشروع الشرق الأوسط الجديد .............. لقد بدأ العد العكسي لزوال الدول العربية نهائيا من خريطة العالم

 

 الحرب العالميّة الأولى، أُعجوبة مريم من نابلس

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
jalili
عضو ذهبي
عضو ذهبي
jalili


عدد المساهمات : 631
تاريخ التسجيل : 14/07/2010

الحرب العالميّة الأولى، أُعجوبة مريم من نابلس Empty
مُساهمةموضوع: الحرب العالميّة الأولى، أُعجوبة مريم من نابلس   الحرب العالميّة الأولى، أُعجوبة مريم من نابلس I_icon_minitimeالإثنين يوليو 29, 2024 6:39 pm

الْحَربُ العالميّةُ الأولى
أُعجوبةُ مريمَ من نابلسَ -أ-
The First World War
The Miracle of Miriam from Nablus
By the Brothers: Rāḍī and Samīḥ  Sons of al-˒Amīn Ṣāliḥ  Ṣadaqa
(1922-1990, 1932-2002)
ترجمة ب. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي

בנימים צדקה (כתב וערך), אוצר הסיפורים העממיים של הישראלים השומרונים. מכון א. ב. ללימודי השומרונות, הרגרזים–חולון, 2021, כרך א’ עמ’ 116–134.  

سمِعنا هذه القصّةَ من الشقيقيْن، راضي وسميح، ابْنَي الأمين صدقة الصباحيّ. والقصّة، ما هي سوى قصّة مصائب شخصيّتيْن، في إحدى أحلك الفتَرات التي مرّ بها أبناءُ الطائفة السامريّة، أيّامَ الحرب العالميّة الأولى، وقتَ  تجنيد الأتراك القسريّ لكلّ شباب الطائفة، التي بلغ تعدادُها في العام 1909 مائة وثمانين نسمة (100 ذكر و 80 أُنثى). بدأ التجنيد القسْريّ في العام 1913، وفي أعقابه اِنخفض عدد أبناء الطائفة في غُضون أربع سنين إلى 141 نسمة، 80 ذكرًا و 61  أُنثى. سمِعنا القصّة المثيرةَ والممتعة، أضفنا إليها شهاداتٍ متمّمة، منها تقديم سلسلة الفصول كاملةً  إلى القرّاء، من قِبَل أعظم القاصّين.

طبيعةُ البشَر
نابلس 1918 – يقُصّ سميح صدقة

عندما نزل الكاهن أبو واصف في منحَدر الشارع المؤدّي من حيّ السامريّين، حارة الياسمينة، إلى السوق التركيّ القديم، رآها، مريم حبيب صدقة، جالسةً كعادتها كلَّ يوم في رُكنها في عليّة منزلها، على سَجّادة صغيرة في الشرفة المربّعة الصغيرة، ووجهُها نحوَ الغرب، تجاهَ رفيديا. تحرّكت شفتاها بالصلاة بصمْت، وكانت عيناها مثبتتْين في نقطة ما في مكان ما في الفضاء، غير آبهة بكلّ ما يدور من حولها.

ما لكِ يا مريم؟ سألها أبو واصف بصوت عالٍ. إلى متى ستجلسين متوقّعة مجيئه؟ ابنُ أخيك فُقد في تركيا النائية، لن يعود. لماذا تُضيّعين أيّامَك في توقّعات لا طائل منها؟ هيّا قومي واعملي شيئًا ما لصالح أولادك، روزه وفهمي ووجيه. ألم تجرّبي الحزن الكافي على وفاة  ابنك الفهيم صبحي، وأنت ما زلت تبحثين عن مزيد من الحزن والأسى  على ابن أخيه المفقود ممدوح؟ قومي واعملي من أجل بيتك.

يظهر، أنّ مريم حبيب صدقة، ما سمعت توبيخ أبي واصف. واصلت الجلوس في نفس الوضعيّة الكئيبة، وساقاها مطويتان تحت رُكبتيها. سار أبو واصف في طريقه، وهو يعلم بلا أيّ ريْب، أنّ كلماتِه لا تساعد هذه المرأةَ التي عزمت على الجلوس وانتظار عودة ابن أخيها المفقود، ممدوح صالح الصباحيّ، الذي جنّده الأتراك قَسرًا قبل أربع سنوات، ومنذ ذلك الحين لم يُعرف عنه شيء.

لا أعرف مقدار الحبّ الذي يسعُه قلب هذه الامرأة - قال أبو واصف لنفسه، واصل نزوله في منحدر الشارع، متسائلًا عن طبيعة الناس. مريم هذه، تزوّجت من ثلاثة أزواج، الواحد تلوَ الآخر، وما زالت في فؤادها قَدْر من الحبّ يفوق كلَّ ما أنتج قلبها إلى الآن - فكّر أبو واصف وهو ما زال منفعلًا من الواقع، أنّه بعكس كلّ التنبّؤات السوداء ومعرفته الشخصيّة الجليّة بأنّ ممدوح لن يعود، لم يُسمَع عنه أيضًا ولا حتّى أيّة إشارة، مع كلّ هذا لم تفقِد عمّتُه مريم حبيب أملَها في أنّه سيعود ذات يوم. هذا ما فعلته كلّ يوم. جلست ساعاتٍ طويلةً في الشرفة ووجهُها تُجاهَ طريق طولكرم نابلس، كأنّه فُرِض عليها أن تكون المبشّرة الأولى لمجيء التاهب/المسيح.

في الواقع، قال أبو واصف بصمت (مَن تابعه لحظة ظنّ أنّه يصلّي) - حقًّا، إيجابًا أو سلبًا، لا معنى لعادات الناس وكيف يحتلّون مكانهم في نظر المخلوقات.

هنا على سبيل المثال، أحد وُجهاء نابلس من عائلة مني [في الأصل: مونى] الشهيرة، واسمه أبو يوسف. قبل وفاته جمع أولاده وقال لهم: قبل أن أفارق هذه الدنيا، أريد أن أمنع الخِصام بينكم بعد موتي. في خِزانتي ثماني عشرة سبيكة من الذهب. عشر منها لابني البِكر وثمان للابن الثاني. ولبناتي أُوصي مائة دينارٍ لكلّ واحدة. ولي قطعة أرض بجانب طولكرم ومِساحتها أَربعون دونما؛ بيعوها وقسِّموا ثمنَها بينكم وَفق نسبة تقسيم مالي هذه. كما لي قطعة أرض بالقرب من عمّان، بيعوها وافعلوا كما في السابقة.

هذا ما فعله أبو يوسف مني قبل وفاته، ووصّى أولادَه أيضًا أنّه في جَِنازته إلى مثواه الأخير، بأن يُخرجوا يدَه اليمنى من أكفانه ليعرف المودّعون/المرافقون بأنّه لم يأخذ شيئًا معه إلى قبره. وتذكّر أبو يوسف بالمقارنة مع أبو يوسف مني، مسلمًا آخرَ من عائلة طاهر، تزوّج أبوه من امرأة ثانية قبلَ وفاة زوجته الأولى، ورزقهما الله بابن من الزوجة الثانية.

سمِع أحد أبنائه من الزوجة الأولى وهو مُسرّر (يُعالَج في المستشفى) في مستشفى نابلس، بأنّ أباه ينوي توريث أملاكه لابن الزوجة الثانية، بادّعاء أنّ أبناءه الكِبار ذوو عائلة وأملاك، أمّا الابن الصغير فبحاجة لأملاك الوالد ليكون مثلهم.

لم يتردّد الابن المُسرّر؛ قام ذات يوم، وهرب من المستشفى (سرير مرضه) وأسرع إلى بيت أبيه. وبضربتي بلطة قتلَ الأبَ قبل أن يوقّع على وصيّة الميراث.

الحاجّ نمر يطرُد ”الخُبراء“

وبما أنّ حديثَنا يدور حول الرجل الطيّب، أبي يوسف مني، الذي أوصى بإخراج يده اليمنى من الأكفان، فها فعل ذلك أحد كبار وجهاء نابلس، الحاجّ نمر النابلسي. وهو أيضًا، قبل وفاته وصّى بتقسيم أملاكه الطائلة على أبنائه. كان الحاجّ نمر النابلسيّ ذكيًّا جدًّا، عرف التوغّل إلى أعماق قلوب طالبي إحسانه، والتمييز بين مَن نيّته صافية ومن يتملّق. مَن منهم يتظاهر بأنّه يفهم شيئًا لن يفهمه أبدًا، ومن حكيم (عيناه في رأسه).

ذات يوم، سئم من بعض زائريه، لاحظ أنّهم متملّقون لا يُحبّونه. ماذا فعل؟ دعاهم إلى بيته ذات يوم وقال لهم: ها قد عثرتُ في خِزانتي على ليرة الذهب هذه، ولا أعرف أهي حقيقيّة أم مزيّفة. هلّا قلتم لي، دام فضلُكم؟ فحص المجتمعون جهتَي العُملة مرّة تلوَ أُخرى، وأخيرًا قرّ رأيُهم: لا يا حاجّ، العُملة بالتأكيد مزيّفة!

أخذ الحاجّ نمر النابلسيّ العُملة وخبّأها ثانيةً في الخِزانة. تظاهر بأنّه يُخرج عُملة أُخرى ولكنّه أخذ العُملة ذاتَها. وما قولكم عن هذه العُملة؟

قُلّبتِ العُملة ونُقِلت من يد ليد. تمّ فحصُها بعناية فائقة، مع الإدلاء بتعليقات تُنمّ عن خبرة كبيرة. أخيرًا، اتّفق الجميع
بالإجماع وقالوا للحاجّ نمر النابلسي: هذه المرّة، لا شكّ أنّ العُملةَ حقيقيّة متداولة، لا أقلّ من أربعة وعشرين قيراط ذهب.

فتح الحاجّ نمر النابلسيّ خِزانتَه وقال لهم:
اُنظروا بأُمّ أعينكم، ليس لي في خِزانتي سوى هذه العُملة، التي قلتم عنها قبلَ لحظة بأنّها مزيّفة. هيّا ألقوا نظرة مجدّدًا وافحصوا في خِزانتي. ولكن، ما أقول لكم، لستم خبراءَ ولا أبناء خبراء رغم أنّكم تتظاهرون بذلك، ولذلك تزورونني في بيتي. ما أنتم سوى متملّقين (موجْهَنين) تُحدّقون في (حاطّين عنيكو على) أملاكي. لا حاجةَ لي بخبراءَ مثلكمَ! أنهى الحاجّ نمر النابلسيّ اللقاءَ وطردهم من بيته بالخِزْي والعار. وهم لم يعودوا إليه بعد ذلك.

لكن مريم حبيب صدقة - واصل أبو واصف متمتمًا لنفسه - تؤمن أنّ ممدوحًا ابن شقيقها سيعود. الإيمان والأمل يقوّيان روحها. تهانينا لهذه الامرأة، بهذا ختم أبو واصف كلامه.

أين تلك الأيّام قبل خمس سنين؟ في أيّام ما قبل الفسح، ذهب هو مع الكاهن الأكبر، يعقوب أهرون، رحمه الله، ومع  الكاهن الأكبر الحالي، إسحق عمران، أطال الله عمرَه، إلى بيت الحاكم، وتمكّنوا من الحصول على تصديق منه بعدم تجنيد شبّان السامريّين للجيش بسبب قلّة عدد أبناء الطائفة، ولأنّهم يجب أن يحتفلوا بالفسح مع الطائفة؟ وافق ذلك الحاكم، ولكن الحاكم الجديد لم يتنازل وجنّد الشباب. لقد حطّم قلب الكاهن الأكبر يعقوب، رحمه الله، واصل الكاهن أبو واصف وهو يهجُِس عند دخوله لشارع السوق.

مريم ابنة صالح الستري الدنفيّ

هنا، تدخّل القاصّ، سيّدنا أبونا، الحكيم راضي الأمين صدقة، معقّبًا أنّ بطلة القصّة في الحقيقة ليست مريم حبيب، عمّة ممدوح صالح صدقة بطل القصّة، بل إنّ كلّ القصّة حدثت مع أُم ممدوح واسمها مريم أيضًا، وكانت ابنة صالح إبراهيم الدنفيّ، وتزوّجت من صالح حبيب صدقة وأنجبت له بكره الأمين/بنياميم وسعيد والأصغر ممدوح  (ابن الشيخوخة، قريد العشّ) بطل قصّتنا، وهو الذي جُنّد بالقوّة في بداية العام 1914 للجيش التركيّ، من ضمن باقي شبابنا للاشتراك في الحرب العالميّة الأولى (1914–1918).

زوج مريم هذه هو شقيق مريم حبيب، مع كلّ الاحترام لها، إلّا أنّ الرصيد الذي نُسب إليها في الجزء الأوّل من القصّة تستحقّه أُمّ الشاب.

تماثُل اسمي الزوجتين سبّب الخطأ، ومن الآن، يجب الرجوعُ إلى القسم الأوّل من القصّة واستبدال كلّ مريم صالح الستريّ الدنفيّ، زوجة صالح صدقة والدة ممدوح، بمريم حبيب صدقة والتي كان زوجها الثالث عبد الرحيم الدنفيّ. في الواقع، فقط هي مريم، والدة الأمين وسعد وممدوح، كان بوسعها أن تتعامل بمثل هذين الأمرين العظيمين، إخلاص وتضحية حيالَ ابنها المفقود.

لا يجوز الحكمُ على امرأة  حتّى تكون في مكانها/وضعها

الأمين، ابني البِكر، وسعيد ابني الثاني - تمْتمت أمّهما مريم في نفسها وأسًى عميق امتزج بصوتها- نجحا في التحرّر من عبوديّة الجيش. الأمين سُرِّح لضعف بصره، أمّا سعيد فبسبب ضَعف جسمه. وقد وُجد بالضبط ابن شيخوختي، الأحبُّ إليّ، صالحًا للتجنيد، ومنذ مغادرته لنابلس في بداية العام 1914، انتفت أخبارُه. آه، يا ابني الحبيب، أين أنت /وينك! هل سأحظى برؤية وجهك؟ غسلتِ الدموعُ وجهَها.
من العليّة المجاورة، تطلّع عليها الكاهن الأكبر إسحق عمران سلامة. هزّ رأسه كسابقه أبو واصف. كانت هذه سنته الثانية في الكِهانة الكُبرى، وفي كلّ يوم من عليّة بيته، رأت عيناه مريم أُمّ الأمين وسعيد وممدوح، قاعدة في عليّة بيتها وتتطلّع غربا. ولكن بخلاف أبو واصف، تابع جلستها بدون كلام.

عُرف بحكمته الجمّة وبالتجربة التي اكتسبها من أسفاره، بأنّه لا يجوز الحكْم على مريمَ إلى أن تكون في حالتها/وضعها. بالرغم من أنّه أيقن في قلبه، بعدم وجود أيّ أمل لرؤية ممدوح صالح. بخصوص الآخريْن الشقيقين من عائلة صدقة، ذكي وإسرائيل، ابنَي نمر، وردت أخبار بأنّّهما ما زالا على قيد الحياة، ولكن بخصوص ممدوح صالح، لا خبرَ عنه منذ انفصل عنهما في سوريا في طريقهم إلى تركيا.

دُموعُ الفِراق

تذكّر الكاهن الأكبر ذلك اليومَ الذي رافق فيه شبابَ الطائفة في طريقهم إلى الشَِّمال. وقد برزت بشكلٍ خاصّ مجموعة آل صدقة - ذكي، إسرائيل، الأمين وممدوح. خرجوا من مركز نابلس إلى حيّ رفيديا ورافقهم كبار السنّ والكهنة بعيون دامعة، مردّدين وراءَهم: مع السلامة. وعلى جانب الطريق، سُمِع بُكاء الأّمّهات اللواتي تركهنّ أبناؤهنّ الأعزّاء، وقد برزت من بينهنّ هذه الامرأة مريم، والدة الأمين، سعيد وممدوح صدقة.

عندما عاد الأمين بعد مُضيّ بضعة أسابيعَ، خبّر أنّ حِصّة الزبيب التي حُدّدت لهم لأيّام السفر الثلاثة الأولى، قد نَفِدت قبل مغادرتهم نابلس.

هي رافقت ممدوح، ابن الشيخوخة، مسافةً طويلة متكئة على كتفه. دموعها تسيل ببطء، وفمها يغمغم بتمنيّات صامتة بعودة ابنها الأحبّ عاجلًا إلى البيت. راحت معه كلّ الطريق لغاية حيّ رفيديا، في المداخل الغربيّة.

ابن اثنين وعشرين ربيعًا فقط، صغير السنّ جدّا. كانت كلّ حياته حتّى ذلك الوقت مليئةً بالمرارة والفقر. لم يذق بعد شيئًا من ملذّات الحياة. من هو، ذلك الشاب السامريّ الأحبّ في أولادها، ما له وللحرب بين عظماء العالَم؛ ما علاقتنا بكلّ هذا؟ واصلت التمتمة بقلبها، وهي توسّع خطوتها بجانب ابنها الذي ألحّ عليها بالتوقّف عن البكاء لأنّها ”تسبّب له الخجل والحياء“ بحضور الجنود. ما نحن السمرة القلائل جدّا، حتّى أكبر مبشّر بالخيرات عرفنا لا  يتنبّأ لنا مستقبلًا مديدًَا أكثرَ من خمسين عاما؟ ما لنا ولهذا الصراع العظيم بين الأتراك والفرنسيّين والبريطانيّين، ولا ننسى الألمان؟ ألم يكن كلّ هذا الجيش العرمرم، قادرًا لتدبّر أمره بدون عشرات الشبّان السامريّين الذين بدونهم لا أملَ لهذه الطائفة بالبقاء في هذا العالَم الظالم؟

حاول ابنُها ممدوح كلَّ الوقت أن يُسكتَها وأن تتركه وتعود إلى البيت، لكنّها لم تستجب له، ولم تكنِ الوحيدة. مئات من نساء نابلس العربيّات رافقن المجنّدين في طريقهم إلى سبسطية. ومن هناك يواصلون طريقم إلى جنين والمكان المقصود هو الوصول إلى القطار في العفّولة حيث سيقلّهم إلى دمشق. رافقت مئات النساء أعزّاءهنّ ورجالَهن. ظِماء لسماع كلمة أُخرى ومقطع آخرَ من أفواه أحبّائهنّ لتخزينها كلّها غِذاء لأحاديثَ لا تُحصى حول كانون الجمر، أو عند انتظارهنّ لطبخ الشاي في السماور. ”عندها قلتُ له … وهو قال لي ...“.

ها قدِ ابتعدوا عن نابلس مسافةَ ثلاثة كيلومترات، وهي، مريم ابنة صالح، عنيدة ابنة عنيدين منذ أجيال، تأبى على فِراقه. لولا بقاءُ سعيد في البيت لرافقت الأمين وممدوح حتّى العفّولة الواقعة وراءَ جبال الظلام، خلف جبل عيبال بعيدًا بعيدا.

حتّى ذلك اليوم، بدا لها ما بعد عيبال كنهاية العالَم وبوّابة لعوالم نائية. ولكنّ الحرب قرّبت في وعيها جميعَ الأماكن البعيدة، الأماكن المختلفة والغريبة التي أتى منها أُناس غريبون، ناطقون بالإنچليزيّة، الألمانيّة، التركيّة والفرنكيّة/الفرانكونيّة لزيارة حارة السامريّين القديمة في نابلس.

منهم مَن نظر بعين باحثة وآخرون بعين حبّ الاستطلاع، وثمّة حتّى من أشاروا إليها عند إحصائهم السمرة القلائل الذين بَقُوا في نابلس. هذه الحرب العالميّة الأولى قرّبت إليها كلَّ ما كان بعيدًا عن جبل النار، كنية  لجبل جريزيم منذ وصول نابليون بونابرت، الإمبراطور الفرنسيّ إلى فلسطين (في الأصل: أرض إسرائيل).

لم تجرؤ الاتّكاء على كتف ابنها البكر، الأمين، كان جِدّ بالغ، ابن ستّ وثلاثين سنة، خطيب زينب ابنة سمعان الستريّ الدنفيّ - وفورًا بعد عودته من الحرب سيتزوّج حبيبته الصغيرة - ظنّت. ولكن شيئًا فشيئًا ملأ الحزن حجراتِ قلبها. لماذا أصلًا أخذوا الأمين للجيش التركيّ؟ ماذا بوسع الأمين أن يساعدَ الأتراك في حربهم وبصره ضعيف لدرجة أنّه لا يرى لمسافة مترين؟ كيف سيمسكُ البندقيّة وكيف سيطلق النار؟ روحي إحكي لهم.

كم طلب الكاهن الأكبر يعقوب هرون من أجله؟ كيف أثبت لهم بالبراهين والدلائل بأنّ الأمين لا يصلح لأعمال الجيش؟ أصرّوا ورفضوا تسريحَه. والآن يذهب مع أخيه الصغير وابني عمّه، ذكي وإسرائيل. ألحَّ عليها الأربعة بتركهم، إذ كيف ستعود وحدَها من سبسطية إلى نابلس؟

فقط بعد لحظة، بعد لحظة صغيرة من الحبّ والاتّصال المباشر، التمست بهدوء. في الحقيقة قد طفح الكيل.  لقد استلّت رغم أنفها من طابور المشاة وهي تبكي بكاء مرًّا. كانتِ الأخيرةَ بين النساء العائدات إلى نابلس. وواصل طابور المجنّدين سيره.

فقَد الإخوة الأملَ

يأسُ مريم صالح الدنفيّ، زوجةِ صالح حبيب صدقة، تفاقم عند عودة الشقيقين ذكي وإسرائيل إلى نابلس، بعد أربع سنوات من الترحّل/التنقّل في تركيا. حملا معهما أخبارًا عن مصير ممدوح ابنها. انطوت على نفسها، زاوت يديها [وضعت كفّ اليد الواحدة على/تحت كوع اليد الأُخرى، تكتّفت [اُنظر حسيب شحادة، الترجمة العربيّة لتوراة السامريّين. المجلّد الأوّل: سفر التكوين وسفر الخروج. القدس: الأكاديمية الوطنيّة الإسرائيليّة للعلوم والآداب، 1989، ص. 246-247] وهي ترثي على شرفة بيتها. الآن لم يُسمع صوتُها من جديد. حزن شديد اِكتنفها ولم يُسمع بكاؤها أكثر. على الرغم من أن آثارَ الدموع المتواترةَ التي غطّت عينيها اللامعة لم تُخفت من منظرها المفعم بالتوقّع الانتظار، بأيّ شكل من الأشكال، لعلّ مع كلّ هذا، بمعجزة سماويّة، سيأتي أحبُّ أبنائها. كانت مستعدّةً لاستقباله بكلّ حالة، حتّى في أسوئها، ولكن حيّ يُرزق، مضموم بذراعيْها. هكذا اجتاحت الخيالات مخّها. كانت تهذي في اليقظة بظروف ولقاءات، كانت ترى فيها ابنها ممدوح صاعدًا نحوها من اتّجاه رفيديا، يصل إليها بخطًى وئيدة، كما في الحلم، وفي فيه كلمة واحدة: يَمّا/يا أُمّاهْ!

في كلّ مرّة كانت تُصيبها/تغزوها هذه الهلوسة/الهذيان، كانت تُجهِش ببكاء صامت يهُزّ جسمَها. حاول ابناها، الأمين وسعيد تعزيتها ومواساتها بكلمات لطيفة، ولكنّها أبتِ ذلك. لقد قالا لها مرّاتٍ كثيرةً، لا أملَ بعودة ممدوح بعد. وها هو  ليس السامريّ الوحيد الذي فُقد في الحرب العالميّة الرهيبة هذه، والسامريّون جرّبوا الكوارث على امتداد تاريخهم، لا مخرجَ إلا قبول الفقدان.

لم يطرأ على بالهما إجراء لقاء ذكرى أخيهم المفقود، إلّا أنّهم الآن أصبحا قريبيْن من ذلك. إنّ عدم معرفة العائدين
أيّة أخبار عن ممدوح صدقة، قد ثبّطت عزيمتهما. إنّ بصيصَ الأمل الوحيد الذي ما زال يَمِضُ في قلب مريم أمّهما فقط، قد منعهما من اتّخاذ خطوات تؤكّد حقائق واضحة بخصوص ظنّهم بمصير شقيقهم.
إنّهم فقدوا الأمل.

ممدوح صدقة حيّ يُرزق

وها، بدون عِلم أحد، سار بطل قصّتنا، ممدوح صدقة، من صحارى تركيا البعيدة إلى فلسطين [في الأصل: أرض إسرائيل]. اِنتهتِ الحرب العالميّة. ألقى الأبطال المتعَبون السلاح. وصل عدد القتلى المليون، وعدد الجرحى عشرة أضعاف. ممدوح صدقة لم يكن من ضمنهم. الله، خالق السماوات والأرض كان مُعينَه وملاكه، سار أمامَه وحرسه في الطريق من كلّ مكروه.

لقد أحسنت الحرب إليه. لم يعد ممدوح ذلك الضعيف وهزيل القِوام. إنّ جوَّ تركيا، الطعام النباتيّ، البقوليّات والكثير من الخبز قد أفادته. اكتنز جسمه لحمًا وصار منظره طويلا وقويّا. قبّعة ذات حواف واسعة كانت مثبتة بقوّة على رأسه. كان مرتديًا بنطالًا قصيرًا إلى الركْبتيْن. علت حُمرة الصحّة على وجهه الممتلىء. لو رأته أمّه الطيّبة، لأمدّها ذلك بالكثير من القوّة والتشجيع.

إلّا أنّ السنوات الأربع، التي قضاها خارجَ نابلس، لم تُبقِ في فؤاده أيَّ بصيص أمل  ببقاء أيّ من أقاربه على قيد الحياة.

تحدّث قادته في الجيش التركيّ، والخوف منبعثٌ من أعينهم، عن قساوة البريطانيّين الرهيبة. وأضافوا إنّ البريطانيّين اِحتلّوا فلسطين (في الأصل: أرض إسرائيل) من أيدي جيش ”الباب العالي“ (السلطان التركيّ) بعد معاركَ دامية،  وانتقموا فقتلوا الكثيرين من سكّان البلاد ودمّروا مدنَها. والواقع بأنّه لم يسمع شيئًا من نابلس في سنوات منفاه في الجيش التركيّ، اللهمّ سوى بعض الأخبار من العام الأوّل، قد سبّب له تصديق قصص قادته. يجوز أن يكون سامريّون قلائل قد بقوا على قيد الحياة - فكّر في داخله - ولكن حتّى لو بقيتُ الواحد الوحيد، سأعمل كلّ شيء للعودة إلى هناك لقضاء حياتي بظلّ الجبل المختار، جبل جريزيم، بيت إيل.

هذا التفكير أمدّ/شحن جسمَه بقوّة عظيمة. بلا لأْي، راكبًا أو راجلًا سعى ممدوح صدقة جاهدًا باتّجاه مدينة مسقط رأسه. مرّت عليه شهور كثيرة، إلى أن رأى عن بُعد أبراجَ مؤذّني مساجدِ طولكرم. الأحداث التي عايشها في الحرب قد أنستْه معرفة المدينة، تساءل وتاه كثيرًا في أزقّتها. لقد تذكّر بشيء من الضبابيّة أنّه في مكان ما في المدينة، سكنت قبل الحرب عائلة صدقة السامريّة، أبناء عمّه ذكي وإسرائيل صدقة وأخو عمّه سعد صدقة.

البريطانيّون الطيّبون

قلبُه/دليله قال له: هم ليسوا بين الأحياء. ظنّ أنّ الحرب قد قضت عليهم. نسِي أين كان بيتُهم. عرف فقط بأنّ الحرب قدِ اِنتهت. وقدِ لاحظ التناقضَ بين القصص المروّعة التي سمِعها عن استبداد الإنچليز، وبين الحقيقة بأنّه لم يُهدم أيُّ بيت من بيوت طولكرم الكثيرة. لا إنچليزَ في الشوارع. التجارة تسير على قدَم وساق كالمعتاد. بسمة ارتسمت على وجوه سكّان المدينة. أين قصصُ الاستبداد؟ سأل بصمتٍ، لعلّ بعضَ أقاربي مع كلّ هذا بقي حيًّا يُرزق؟ ربّما لا حقيقةَ في قِصص الرُّعب؟

كان ذلك يوم جمعة. وجد ممدوح بتعريفاتٍ غرفةً للمبيت في المدينة في خلال يوم السبت، قبل أن يواصلَ سيره إلى
نابلس، مبتغاه. ها قد مرّت ساعة الظهر، وعليه أن يُعيدَ زيّه والبندقيّة للمخزن العسكريّ. بينما كان في سوريا أبرز شهادة سفره. بريطانيّون طيّبون أمدّوه بسلاح لحمايته من اللصوص والسرّاقين. تعهّد إعادة زيّه وسلاحه عند وصوله لطولكرم.

مرّت ساعاتٌ طويلة إلى أن جاء دورُه لإعادة السلاح. سُئل أسئلة كثيرة. بقدرته لحلّ المشكلات وبالخبرة الواسعة التي اكتسبها، تجنّب خطر الاعتقال من قِبل الحرّاس البريطانيّين. عاد من المخزن العسكريّ خائرَ القوى إلى الغرفة الي استأجرها في أحد أزقّة الشارع الرئيسيّ المؤدّي إلى مركز المدينة. بما تبقّى له من قوّة، تمتم صلاة السبت، خلع ملابسه واستلقى للنوم  نومًا يعجّ بالأحلام العاصفة.

أشعّة الشمس الحارّة داعبته. استفاق على الفور. طلع الفجر. فتح نافذةَ غرفتِه الوحيدةَ وللتوّ ارتجف جسمُه كلُّه، سُمِع صوت عالٍ.

القصّة الحقيقيّة

لم يحدُث لنا أمرٌ كهذا بعد، ولكن، على ما يبدو، هذا مصير قصّة شعبيّة تُسرد تباعًا، وبصدد أجزائها الأساسيّة ثمّة  شهادات مدوّنة. بينما نحكي عن ممدوح صالح حبيب صدقة الصباحيّ، كيف وصل بعد أربع سنوات من المشقّات إلى مدينة طولكرم غربيّ السامرة، في طريقه لبيت آبائه في نابلس، وإذا بالصديق نمر ذكي صدقة الصباحيّ يقاطعنا ويلفت نظرنا لذكريات أبيه التي نُشرت تباعَا في أعداد أ. ب.  هناك، في نهاية القصّة، تحدّث ذكي نمر سلامة الصباحيّ، أنّه هو وأخوه إسرائيل أيضًا وصلا نابلس بعد أربع سنوات في تركيا، بعد ممدوح صالح صدقة وليس قبله. نحن لا نتناقش مع الحقائق. حتّى لو قُصّ علينا شيءٌ آخرُ، فإنّ الدليل المكتوب بقلم أصحاب القصّة أقوى من كلّ قصّة تُحاك شفويًّا، في ذاكرة من لم يولدوا بعد وقت حدوث الأحداث. الشكر موصول لنمر بن ذكي صدقة، رحمه الله. نواصل إذن تنقيح قصّة الشقيقيْن راضي الأمين وسميح وملائمتها للحقائق التي لا نزاعَ فيها.

ذِكرياتُ بيت الأب

سُمِع صوت عالٍ، هزّ جسمَ ممدوح. أصداء من أيّام سحيقة اكتنفته بكامل القوّة. الصوت الذي وصله من أحد البيوت، من وراء الزُّقاق الضيّق، قرأ بصوت مُسكر وبلغة بيت الأب فاتحةَ نوبة الأسبوع بعد صلاة صباح السبت: ”ان باسم الله مناداتي فاعطوا العظمة لآلهنا. القادر الكامل فعله ان كل سبله حكم ولي الأمانة من غير حيف عادل ومستقيم هو“ [تثنية 32: 3-4؛ اُنظر حسيب شحادة، الترجمة العربيّة لتوراة السامريّين. المجلّد الثاني: سفر اللاويّين سفر العدد وسفر تثنية الاشتراع. القدس: الأكاديمية الوطنيّة الإسرائيليّة للعلوم والآداب، 2001، ص. 604-605]، مبارك إلهنا إلى الأيد، ومبارك اسمه إلى الأبد.

أصْغى ممدوح وهو يرتجف ويبكي للصوت العذب جدّا. صوت رجل بالغ يملأ الزقاق بأصوات حلوة جدّا. شعر بارتخاء رُكبتيه، وكأنّه في المنام، وجد نفسه يخطو خارجًا من غرفته الرطبة إلى الزقاق الضيّق. كما بأحبال سحريّة انجذب ممدوح وسار نحوَ الصوت الذي ما زال يقرأ في نوبة الأسبوع. امتلأت عيناه بالدموع، والاعتقاد بأنّه هو وابنا عمّه نمر صدقة، ذكي وإسرائيل، ليسوا الأحياء المتبقّين الوحيدين، ملأ مخَّه لدرجة الإحساس بصُداع طفيف.  وبومضة عين استبدل الطرب العاصف بالوجع. ما زال هناك سامريّون في هذه الدنيا! زعق قلبُه بشدّة. لم يجدِ الكلمات.
الآنَ يُسمع الصوت قريبًا، لدرجة انتفاء الشكّ في أنّه حلما يحلم. وقف ممدوح منتصبًا، مرتديًا ذلك البَنطال القصيرَ، حتّى الركبتين، والقبّعة واسعة الحواف تظلّل على جبينه العالي ولِحيته القصيرة، أمامَ باب البيت الذي انطلق الصوت منه. علتِ الآنَ الذكريات القديمةُ وغمرت مخَّه. ها هوذا بيت والد ذكي وإسرائيل ابني عمّي، والصوت بلا شكّ صوتُ عمّي سعد سلامة. والآن تبيّن بدون أدنى ريب أنّ القصصَ المروّعة التي سمِعها حول مصير السامريّين  كانت عاريةً منَ الصحّة.

اللقاءُ

دقّ على باب البيت بتردّد. لا جوابَ. دقّ مرّة ثانيةٍ دقّة أطولَ وبثقة أكبرَ بيّنت أنّه مستعدّ للقاء. سمِع صوتُ خطًى وفتح الباب فتحةً طفيفة تسمح بإلقاء نظرة خاطفة. إحدى نساء البيت رمقتْه برِيبة.

مَن هذا؟ سمِع صوتَ سعد الذي أوقف قراءَته.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
الحرب العالميّة الأولى، أُعجوبة مريم من نابلس
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» لحرب العالميّة الأولى، أُعجوبة مريم من نابلس - ب
» تجنيد شبابنا في الحرب العالمية الأولى
» اليوم الذي حدثت فيه الهزّة الأرضية في نابلس
» إيران وأمريكا: هل تنتقلان من حرب الأسعار إلى "الحرب الساخنة"؟ هل باتت الحرب على الأبواب بين إيران والولايات المتحدة؟
» أُعجوبة زعتر الجدار

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات الصمود الحر الشريف :: Votre 1ère catégorie :: منتدى jalili الأستاذ الدكتور حسيب شحادة-
انتقل الى: