أبو داوود: المقاتل الهادئ، والخبير الطيب القلب
ناجي علوش
ها هو أبو داوود الذي تعود المجازفة والمخاطرة يموت على فراشه، وهو ما لم يكن يحلم به. فقد كان الرجل لا يخشى الموت ولا يأنف المخاطرة، وكان لا يخرج من مخاطرة إلا ليخوض أخرى، من تصفية الفريق الرياضي الصهيوني في ميونخ إلى عملية عمان التي لا يعرف أحدٌ هدفها حتى الآن. وقد اعتقل وعذب وخرج بعفوٍ من الملك حسين لا أحد يعرف كيف...
وكانت والدته ووالده يخافان عليه، فهو وحيدهما وليس لهما غيره، وهو ينتقل من مخاطرة إلى مخاطرة، ورغم ذلك يظل هادئاً متواضعاً لا يخاف الموت، ولا يهدأ، وكانت القدس وفلسطين والوطن العربي تملأ عينيه وقلبه، وحين اتجهت القيادة إلى "السلام"، ظل معارضاً، ومستعداً لخوص المعارك.
وحين نشبت الحرب الأهلية في لبنان، اختير مسؤولاً لمنطقة بيروت الأولى، أي منطقة الفنادق والأسواق التجارية والبنوك. وهناك خاض حربين معاً: حرباً ضد الكتائب والقوات، وأخرى ضد اللصوص والحرامية من الناس العاديين والفصائل المقاتلة.
وكانت حماية الناس من أهدافه، وحماية الممتلكات من أبرز مواقفه، ، وكان مع التحرير ضد الاستسلام ومع الأمن والسلام للناس كافةً. وكان يعنى بمساعدة المقاتلين الصغار، وبتدبير مساعدات لهم، كما كان بإنقاذ القيادات الميدانية والسياسية حين تجور عليها القيادة الأعلى. وكان يضطر لمسايرة القيادات أحياناً ليحصل على مساعدات للكبار والصغار، أما حالته فكانت دائماً عادية، ولكنه لم يكن يسأل عن مساعدات لنفسه، ولذلك كان أصدقاؤه كثيرون، وكان صحبه دائماً بازدياد، فهو يجمع بالإضافة إلى الشجاعة، الطيبة والكرم وحسن الأخلاق والسيرة. وهذا نادراً ما يجتمع في "رجل أمن" يعيش حياة سرية ويتابع قضايا غامضة.
وفي شراكتي وأخوتي الطويلة معه، كنا شخصين بموقف واحد، ولو اختلفنا في بعض القضايا، ومنها مسايرة أبي إياد للحصول على مساعدة في تسيير بعض الأمور غير الشخصية، وكان يقول لي: يا أخي إذا أردنا أن نشتغل فعلينا أن نعرف كيف نتعامل مع هؤلاء القادة! ولم أكن مقتنعاً بهذا المنطق، ورغم ذلك ظللنا نعمل معاً ونتعاون بصدق وجدية. وقد اختارني نائباً له في بيروت رغم معرفته بموقف القيادة مني.
وكان الأمر الثاني الذي اختلفت معه فيه هو ما يسمى "العمليات الخاصة"، مع أن أسلوبه فيها كان غير أسلوب الجماعات الأخرى في الساحة الفلسطينية، وبالأخص غير أسلوب أبي نضال، إلا أني كنت أنصحه دائماً بألا يقوم بها إلا إذا كانت ضد الجيش الصهيوني والكادر الصهيوني. وكان أبو داوود خبيراً في التخطيط للعمليات، وفي اختيار الرجال، وفي اختيار أهدافه، وقد تعلمت منه العديد من الخبرات القتالية، والتشدد في المحافظة على الأسرار، والحديث في الشؤون الأمنية بتوازنٍ وتحفظ.
وكان وطنياً فلسطينياً وقومياً عربياً، وكان مقاتلاً وسياسياً، يندر أن نحظى بمثله في الساحة الفلسطينية. وها هو يموت لم يخلف مالاً ولا عقارات ولا سيارات ولا شركات وإن حاول بعض أصدقائه المقيمين في بلاد النفط دفعه في هذه الطريق، ولكنه لم يندفع، ولم يغره المال أو المظاهر. وظل فقيراً يعيش حياة بسيطة، ويلبس لباساً عادياً، ويسير بلا سيارة إلا ما يضعه تحت تصرفه أصدقاؤه، وكان هو يضعه تحت تصرف الآخرين. لم يكن أبو داوود يسعى إلى المال أو الفخفخة في طعامٍ أو شرابٍ أو لباس. كان ذا عقلٍ نادر، ولكنه كان بسيطاً في تعامله وعلاقاته وحياته.
مات أبو داوود، ولكن خصاله ومزاياه بقيت.
وأذكر أنه اتصل مرة وقال لي: "تعال شوف شو مسوي هالأحمق"، وهذا لقب أبي نضال عنده، حيث كان يعرفه منذ أيام العمل في السعودية، وكان أبو نضال قد عرف أن أحوالنا المادية سيئة. ذهبت فأخرج أبو داوود حقيبة وفتحها وأراني ما فيها، وإذ بها مليئة بالنقود، وقال لي: هذه الحقيبة وصلتني اليوم من أبي نضال، فما رأيك؟ قلت له: نعيدها، فقال: نعيدها ونبلغه ألا يفعل مثل ذلك مرة أخرى، فأيدته، وأعدناها مع الشكر والتقدير والاحترام، ولم يعدها لنا أبو نضال مرة أخرى. وقد ذكرته بالقصة بعدها بسنوات، فقال لي: كنت حاسماً، حتى لا يتعود، وحتى لا نرتبط به مالياً وسياسياً...
وعندما أُرسل إلى الأردن أوصلته إلى المطار، فقال لي: أنا ذاهب في عملية، فقلت له: لا تذهب، لأنهم سيسلمونك... وهذا ما حدث فعلاً. وكان أبو داوود قد ذهب إلى عملية عمان باتفاق مع أبي إياد، وقد أرسل الأخير مع أبي داوود مرافقين يراقبونه ليظل على معرفة حثيثة بما يجري، وقد سلم واحد من أولئك المرافقين بقية المجموعة للأمن الأردني، فحُقق مع أبي داوود وعُذب وحُكم بالإعدام، وتنصلت القيادة من العملية في اجتماع رسمي، ولكن أبا داوود خرج من السجن وهو لم يعترف بطبيعة المهمة التي جاء من أجلها، وما زال الأمر سراً بالرغم من تبجح البعض عكس ذلك في برنامج "شاهد على العصر".
وفي اجتماع للمجلس الثوري لحركة فتح في بيروت بعد اعتقال أبي داوود، وكنت وأبو داوود عضوين في ذلك المجلس، تبرأت القيادة من صلته بحركة فتح، فاستشاط غضبي، وقلت ما أعلم، وذكرت كيف سُلم أبي داوود، فسقط أبو إياد مغشياً عليه، واستمر الاجتماع... وفي عمان تعرض أبو داوود لتعذيب شديد، حتى أن كلاباً بشرية أكلت من لحمه، وبقيت آثار ذلك موجودة على جسمه حتى وفاته، وقد رأيتها بنفسي.
كنا ونحن نخوض غمار معركةٍ حامية في مواجهة خط التسوية والاستسلام في الساحة الفلسطينية قد استقطبنا أبا داوود إلى حركة التحرير الشعبية العربية، التي أسهمت بقيادتها بعد الخروج من فتح، لكنه لم يستمر معنا، وعاد إلى فتح آملاً أن يجد مدداً للقيام بعمليات نوعية، لكن الطرف القيادي كان قد اتخذ منه موقفاً معادياً، ولم تنجح خطته، كما توقع.
وأذكر مرة أننا ومخيم تل الزعتر يعاني الحصار، أن رفاقنا أرسلوا لنا من داخل المخيم قائلين أن المخيم يمكن إنقاذه، وليس هناك سبب لاعتباره ساقطاً عسكرياً، فشب الدم في رأس أبي داوود، وكنا وقتها نخوض معركة حامية الوطيس لمنع الكتائب والقوات من السيطرة على قلب بيروت، وارتكاب مجازر في المخيم، وكنت كنائبٍ لأبي داوود قد اندمجت في الفكرة، وأخذنا نستعد لفك الحصار عن تل الزعتر، وأخذت الفكرة بالانتشار كما هي حال كل الأمور في المقاومة، فاستدعيت وطرحت مشروع الخطة أمام المجلس العسكري، وتم إقرارها، ومن ثم توكيلها لغيرنا، ومن ثم تم إفشالها في التنفيذ، مما صعد من تناقضنا مع القيادة، وفهمت وفهم أبو داوود أن القيادة لم تكن تريد إنقاذ تل الزعتر.
وجاءت النهاية في قصة تل الزعتر بإعدام أبي أحمد وأبي عماد، قيادات الصمود الفتحاوي في المخيم، بسبب ارتباطهما سياسياً وتنظيمياً بنا، وتم الإعدام بتهم ملفقة في منطقة الجامعة العربية في بيروت في ربيع عام 1978، بعد اختطافهما من منطقة الدامور حيث انتقل مهجرو مخيم تل الزعتر. وجاء ذلك في سياق حملة شعواء لاجتثاث قواعدنا وامتداداتنا ضمن حركة فتح تضمنت اعتقالات ومطاردات وتصفيات داخلية يمكن أن تملأ قصصها مجلدات.
المهم أن أبا داوود الذي عرفته قائداً للميليشيا في عمان عام 70، وقائداً عسكرياً في بيروت خلال الحرب الأهلية، وأخ خندقٍ ورفيق دربٍ على مدى سنوات طويلة، كان يدير معاركه بخبرة واتزان وشجاعة وروية، وكان صديقاً ودوداً متعاطفاً معيناً لأصحابه. وكان دمثاً، لكنه كان عزيز النفس لا يراوغ أو يكذب. لقد خسرناه، وليس من السهل تعويضه، وهذا ما يعرفه العدو والصديق الصدوق على حدٍ سواء.
The Free Arab Voice www.freearabvoice.org