الطاهر وطار يُوارى الثّرى بمقبرة العاليا بحضور سياسي وإعلامي مميّز
بعد أن ألقى عليه محبّوه نظرة الوداع ببهو وزارة الثقافة
شُيّعت أمس بمقبرة العاليا جنازة الروائي الطاهر وطار بحضور العديد من الوجوه السياسية والثقافية ورفقاء الفقيد. وألقى وزير الشؤون الدينية والأوقاف أبو عبد الله غلام الله كلمة تأبينية ذكّر فيها بخصال صاحب "اللاّز" ومناقبه مجاهدا وروائيا وصحفيا.
وحضر مراسيم الدفن وزير العلاقات مع البرلمان محمود خوذري ووزير المجاهدين محمد الشريف عباس، وبعض الشخصيات السياسية مثل موسى تواتي رئيس الجبهة الوطنية، والكثير من الجامعيين ورجال الإعلام
وكانت صبيحة أمس، قد خُصّصت ببهو وزارة الثقافة لإلقاء النظرة الأخيرة على صاحب رائعة "اللاز" وحضرها العديد من الشخصيات السياسية على رأسها عبد القادر بن صالح رئيس مجلس الأمة، عبد العزيز بلخادم وزير الدولة، ووزراء الثقافة خليدة تومي، الاتصال ناصر مهل، الشؤون الدينية أبو عبد الله غلام الله . إضافة إلى العديد من الوزراء السابقين كعزالدين ميهوبي، لمين بشيشي، عبد الرشيد بوكرزازة . كما عرفت جنازة عمي الطاهر حضور الكثير من المثقفين ورجال الإعلام
وقد ألقى مستشار وزيرة الثقافة محمد سيدي موسى كلمة ناب فيها عن خليدة تومي عدّد فيها مناقب الراحل وخصاله، والدور الذي قام به لإثراء الساحتين الأدبية والثقافية الجزائرية، معرّجا على العطاءات الكثيرة التي قدّمها عمي الطاهر وإسهاماته من خلال جمعية الجاحظية التي كان يرأسها
وقبل صلاة الجمعة حُمل نعش عمّي الطاهر باتجاه مسجد المحمدية، أين أُدّيت صلاة الجنازة على روحه، لينقل بعدها إلى مقبرة العاليا حيث ووري جثمانه. وكان عمي الطاهر قد عانى من مرض ألزمه الفراش لأشهر عديدة نُقل خلالها إلى العلاج بفرنسا، قبل أن يعود إلى الجزائر، حيث كان يتلقى علاجه بعيادة الأمراض القلبية ببئر مراد رايس، وبها تّوفي لتُطوى بذلك صفحة من صفحات الإبداع الجزائري . وجاء رحيل عمي الطاهر أسابيع قليلة بعد رحيل المفكر المعروف عبد الله شريط
المزيدعن الشروق اليومي الجزائرية
رحيل الطاهر وطار سيترك فراغا رهيبا في الساحة الثقافية
مثقف مشاكس ومناضل عنيد ومبدع من زمن " الرجلة " الجزائرية
تكريم الشروق للراحل الطاهر وطار
لم يرتبط اسم الطاهر وطار بالرواية المعربة في الجزائر فقط، بل كان مؤشرا لمعرفة اتجاهات الرأي الأدبي وحتى السياسي.. يساري ظل وفيا لخياراته منذ انخراطه في الثورة التحريرية التي أجبرته عام 1956 على التخلي عن دراسته.. بربري معتز بانتمائه إلى الأوراس الأشم وارتباطه بقرية مداوروش أين رأى النور .
وطار مناضل عنيد ومثقف مشاكس لا يجامل ولا يخاف الجهر بآرائه، كما فعل عندما أعلن في بداية التسعينيات تعاطفه مع الإسلاميين الذين رأى بأنه من حقهم التواجد في الواجهة السياسية.. كذلك عمي الطاهر رفض أن يسلم بفشل الاشتراكية كاتجاه أو كفكرة وبقي يؤمن إلى آخر أيامه بأن الاشتراكيين قدموا ما في وسعهم وحاولوا كما حاول الإسلاميون من بعدهم، وإن كان عمي الطاهر يعترف ببعض المآخذ على الاشتراكيين لكنه في المقابل كان يرفض تحميلهم لوحدهم مسؤولية كل الفشل الذي حدث في الجزائر.
على صعيد آخر، ارتبط اسم الطاهر وطار بالطبقات البسيطة من الناس حيث بقي طوال حياته وفيا للمناضل الشعبي فيه حتى أنه كان يفتخر دائما بذلك الطفل الذي كان في الاوراس لا يعرف شكل القلم ويعجز عن ركوب الدابة قبل أن يصير من أبرز كتاب الرواية في الجزائر والعالم العربي يجالس المشاهير والزعماء ويطوف بنصف دول العالم وفي سجله ما يزيد عن خمسة عشر كتابا بين رواية وقصة ومسرحية .
ولم يكن عمي الطاهر يجد حرجا في اعتبار نفسه كاتبا سياسيا، فيه نضج وحنكة المناضل الذي خبر الصعاب، وفيه رهافة المبدع والفنان المستوعب لأدوات محيطه فكان كما يقول عن نفسه طرفا ثالثا في المعادلة، معارضا من داخل السلطة، ومنصفا للسلطة في المعارضة، فكان هو المعارضة تارة وهو السلطة تارة أخرى، فلا السلطة قبلت به ولا المعارضة استوعبته .
في شخص الطاهر وطار تتجسد طباع الجزائري البربري العنيد المعتد برأيه أو كما كان يقول هو عن نفسه : " طريق الشاوي بين عينيه ".
ولم يكن عمي الطاهر يجد حرجا في اعتبار نفسه كاتبا سياسيا، فيه نضج وحنكة المناضل الذي خبر الصعاب، وفيه رهافة المبدع والفنان المستوعب لأدوات محيطه فكان كما يقول عن نفسه طرفا ثالثا في المعادلة، معارضا من داخل السلطة، ومنصفا للسلطة في المعارضة، فكان هو المعارضة تارة وهو السلطة تارة أخرى، فلا السلطة قبلت به ولا المعارضة استوعبته .
في شخص الطاهر وطار تتجسد طباع الجزائري البربري العنيد المعتد برأيه أو كما كان يقول هو عن نفسه : " طريق الشاوي بين عينيه " .
كان عمي الطاهر أيضا يتحلى بالتواضع والبساطة مع كل من عرفوه، يستقبل الكل من الكتّاب والصحفيين والأساتذة وحتى الناس العادين، فيبدأ عمي الطاهر يومه بشارع رضا حوحو في مقر الجاحظية التي حولها كما كان يسميها إلى "وكر ثقافي" بمطالعة الجرائد اليومية واستقبال ضيوفه على أكواب الشاي والقهوة والنقاش في مختلف القضايا الثقافية .
دون مواعيد ولا بروتوكولات المثقفين الكبار يستقبلك عمي الطاهر بابتسامة عريضة قد تنتهي إلى قهقهة عالية وهو يمسك بعكازه الخشبي يعدل من جلسته أو يسوي من وضع "البيري" الذي يرتديه علامة مميزة عن اتجاه ظل ينبض في عمق عمي الطاهر.
وهو المتحفظ أحيانا، شرس في أحيان أخرى لكنه دائما يعرف متى وكيف يتحدث ليترك خلفه أينما مر عاصفة من الإعجاب وأخرى من الانتقادات الحادة. قد تتفق معه بعض الشيء وقد تختلف معه كثيرا لكنك مجبر دوما على احترامه ليس فقط لأنه أب الرواية الجزائرية ولكن لأنه رجل ظل عصي على التصنيف يحترمه من هم في السلطة ويخافه من هم خارجها .. كان وطار باختصار رجلا من زمن " النيف والرجلة " الجزائرية.
أشهر خصومات الطاهر وطار
رفع دعوى ضد بوجدرة واتهم واسيني بالسرقة وقاد معركة " صندوق الإبداع "
كان عمي الطاهر يعتبر صراحته من صميم حقه في الدفاع عن رأيه، فكان دائما يقول : " لي الحق في التعبير عن ما أسمع وما أقرأ وما أرى " .
ومن أشهر الخصومات الأدبية التي سيحتفظ بها التاريخ خلافه الحاد مع رشيد بوجدرة، الذي سبق أن صرح في محاضرة له بعنابة بأن وطار "أصيب بالغيرة عندما بدأت أكتب بالعربية في 1982 مع رواية "التفكك"، واصفا اتهامات وطار بـ "الكذب والنميمة"، فما كان من وطار إلا أن هدد بوجدرة برفع دعوى قضائية إذا ما تجرأ يوما على التهجم عليه، لكن وطار، ومن منتدى "الشروق"، رفض اعتبار ذلك خصومة عندما أكد: "بوجدرة فنان ومبدع لا ينبغي محاسبته كسياسي لأننا لو حاسبناه كذلك لقتلناه".
وفي ذات المناسبة اعتبر عمي الطاهر ما كان بينه وبين واسيني من خلافات ونقاشات أدبية على الجرائد وصلت إلى حد اتهام عمي الطاهر لواسيني بسرقة عناوين كتبه "مجرد رأي مثقف في كتابات الآخرين ومن حقه أن يكون له رأي فيما يقرأ أو يسمع"، رغم أن الجدال بينه وبين واسيني نقلته كبريات الصحف العربية، حتى أن واسني اتهم وطار بمعاداة المرأة في أعماله الأدبية وبالتواطؤ مع "الأصولية" في الجزائر، فما كان من وطار إلا أن رد عليه متهما إياه بسرقة عناوين مؤلفاته منه وسطوه على تراث زليخة السعودي، لكن واسيني، ورغم كل تلك السجلات، أعاد حبل الود بين الرجلين ليوصل حين زار واسيني وطار أكثر من مرة في باريس، كما نشر روايته الأخيرة "قصيد في التذلل"، كما سبق أن أكد لـ "الشروق" على أن "العلاقات الإنسانية أبقى من الخلافات الأدبية".
ولعل أشهر جدال ثقافي قاده عمي الطاهر هو "الحرب" الإعلامية الضروس التي استمرت أكثر من شهرين على صفحات الجرائد بينه وبين المديرة السابقة لصندوق الإبداع ربيعة جلطي وزوجها مدير المكتبة الوطنية آنذاك الدكتور أمين الزاوي ورئيس اتحاد الكتاب الجزائريين السابق عز الدين ميهوبي عندما أصرت مديرة الصندوق على إخضاع أعمال الجمعيات الثقافية لرأي لجنة قراءة خاصة، وهو ما اعتبره عمي الطاهر حجرا على الإبداع. ورفض وطار أن تدرج هذه الخلافات في خانة "الصحة الثقافية" ما دامت لا تطرح قضايا أو تسجل أفكارا، واعتبر هذا الوضع انعكاسا للوضع الثقافي في الجزائر الذي يتميز بالهشاشة وغياب التقاليد الاحترافية .
ومن بين طرائف الخلافات التي سيسجلها التاريخ الحافل لوطار بالمشاغبات هو خلافه مع الطاهر بن عيشة الذي وصل حد القطيعة بين الصديقين اللدودين، وهذا بسبب تعصب عمي الطاهر لرأيه في التواجد الأمازيغي في الجزائر بينما كان الطاهر بن عيشة مصرا من الطرف الآخر على أن الأمازيغ لا وجود لهم في النسيج الحضاري للجزائر .
والجدير بالذكر أن وطار كانت له مشاكسات ثقافية مع كل الكتّاب تقريبا من أحلام مستغانمي إلى ياسمينة خضرا وآسيا جبار وغيرهم... ولعل أشهر تصريحاته هي تلك التي اتهم فيها السفارة الفرنسية صراحة باغتيال الشاعر يوسف سبتي.
قاد قلعة ثقافية اسمها " الجاحظية " خلال عقدين
صاحب أكبر جائزتين عربيتين ومؤسس أهم جائزتين جزائريتين
تدخل "الجاحظية" عامها الواحد والعشرين 1989 / 2010 بسجل حافل من الإنجازات والنشاطات، فهي لم تكن مجرد جمعية ثقافية يلتقي فيها الأصدقاء وتعقد بها الندوات والنقاشات، لكنها كانت أكبر مؤسسة ثقافية مستقلة في المغرب العربي تضم دارا لنشر أدب الشباب، وتشرف على إصدار مجلات وتنظم جوائز أدبية. وفي زمن التجارة في كل شيء، أصرّ الطاهر وطار على المحافظة عليها بنفس الإيقاع والحيوية في التسيير، إذ كان يشرف على كل صغيرة وكبيرة في هذه الجمعية الواقعة بشارع رضا حوحو حتى أنها صارت بيته الثاني الذي يقصده الإعلاميون والكتاب والأصدقاء، فقد يحدث أن يمروا فقط من أجل أن يسلموا عليه واحتساء كوب من الشاي ذي النكهة الخاصة .
بمرور الوقت تحول هذا المكان إلى مركز لقاء بين الأصدقاء والكتاب والإعلاميين الذين يتواعدون عادة ليلتقوا عند شيخ الروائيين للنقاش أو حتى لمجرد تبادل النكت مع وطار الذي لا يحبذ أن يتغذى لوحده فعادة ما يكلم أصدقاءه من الكتاب والإعلاميين ليشاركوه وجبة السمك بالحي الشعبي، حيث عادة ما نجده غارقا في ضبط تفاصيل برنامجه الأسبوعي، أو في معالجة نصوص مجلة "التبيين" الفصلية التي يشرف عليها، أو عاكفا على اصطلاح إحدى الأجهزة الالكترونية أو أي شيء له علاقة بالتكنولوجيا، التي كان عمي الطاهر مولعا بها.
وتحول عمي الطاهر، على عكس العديد من الكتاب، من الكتابة بالقلم إلى إفراغ نصوصه مباشرة على الكومبيوتر، الذي يرافقه في جلسات العمل، بهذا المكان الذي ضم، إضافة إلى قاعة محاضرات رواقا للفن ومطبعة وصالة للموسيقى ومقهى صغير ومكتبة "يوسف سبتي".. هذا المكان، على تواضعه، كان يمد الساحة الثقافية المتصحرة بمواضيع النقاش أسبوعيا التي تبدأ كل موعد ثلاثاء على وقع أكواب شاي التي ما تكاد تدخل المقر حتى ينادي بها عمي الطاهر "عمك سعيد" ليهم بها.
الطاهر وطار نال أكبر جائزتين في الوطن العربي هما جائزة الشارقة للثقافة العربية التي تمنح بالتعاون مع اليونسكو وجائزة العويس الثقافية في نهاية 2009 .
وهو الذي أسس جائزتين أدبيتين في الجزائر هما مفدي زكريا، التي ظهرت إلى الوجود في 1990، في الوقت الذي كان فيه الإرهاب يحصد أرواح الجزائريين ولم يكن أحد يومها يفكر في الثقافة والمثقفين، فضل عمي الطاهر أن يحمل لواء الشعر وهو الروائي، فكانت جائزة مغاربية افتكت مع مرور الوقت مكانتها وتحولت إلى جائزة عربية في دورة 2007 عندما كانت الجزائر عاصمة للثقافية العربية .
كما أسس وطار جائزة الرواية التي أطلق عليها اسم واحد من المبدعين الجزائريين الذين رحلوا في صمت "الهاشمي سعيداني"، حيث مكنته جائزة الشارقة التي نالها من سنّ مشروع جائزة الرواية الجزائرية، وهي الجوائز التي نالها الشباب، وبذلك يكون وطار المثقف الوحيد الذي خدم الشباب والإبداع من ماله
الخاص عن الشروق هذا الصباح
تصريحات لرسميين ومبدعين بالمناسبة