بطرس عنداري
طارق عزيز بين السيّد وعبيده
مع بداية الغزو الاميركي للعراق وتحديداً في نيسان عام 2003 قال البروفسور فؤاد عجمي الموظف لدى وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية (CIA) انه لمن الضروري قتل طارق عزيز وعرض جثته على شاشة التلفزيون ليراها الناس جميعاً.. جاء هذا الكلام عبر الفضائية اللبنانية LBC وعلى لسان البروفسور اللبناني الاصل والذي غاب عن البصر والسمع منذ تلك الايام. وقيل انه اختفى بعد ان اكتشفت الدوائر «الصهيوميركية» انه عمل لمصلحة جهازي المخابرات الاميركية والايرانية.
وقد نفذت قوات الاحتلال توصيات عجمي بعد فترة قليلة لكن بالتمثيل بجثث عدي وقصي صدام حسين ونجله مصطفى وبعرض الجثث في الساحات العامة بعد ترميمها... لم يعرف احد بدقة اسباب اختيار عجمي قتل طارق عزيز ولا اسباب قرار حاكم العراق بول بريمر التمثيل بجثث عدي وقصي ونجله الصغير.
منذ ايام اعلنت قيادة الاحتلال الاميركي للعراق انها سلمت وكلاء الاحتلال مجموعة من اسرى الغزو بينهم طارق عزيز. وقد سارع محامي طارق عزيز الى الاعلان عن تخوفه على حياة موكله ليتذكر العالم الحكمة التي تقول ان العبيد اخطر من اسيادهم فاتقوهم.
وحيث لم يقدر الاسياد المحتلون على ايجاد جريمة لالصاقها بطارق عزيز طوال سبع سنوات وعدة اشهر من الأسر والاهانات رأينا ان نذكر الاسباب الرئيسية التي اضطهد من اجلها طارق عزيز.
يروي الاستاذ محمد حسنين هيكل - وهو صديق اميركا الدائم - انه في الايام الاولى من العام 1991 التقى في احد فنادق مدينة جنيف السويسرية وزير خارجية اميركا جيمس بايكر ووزير خارجية العراق طارق عزيز.
ويقول هيكل ان اللقاء كان قمّة المجابهة الديبلوماسية حيث حاول بيكر بطول قامته وبطلاقة لسانه في لغة شكسبير ان يهيمن على الموقف ولكنه فوجئ بجبل هادئ من الثقافة والمعرفة السياسية والدبلوماسية رافضاً اصطحاب اي مترجم معه وقد اذهل مناوئه بلغته الانكليزية الواضحة والعميقة.
ويضيف هيكل: في نهاية اللقاء قدم بيكر الى عزيز مغلفاً كتب عليه: من رئيس الولايات المتحدة الى صدام حسين... قرأ عزيز العنوان وارجع المغلف الى بيكر قائلاً: ارجع هذا الى رئيسك وقل له: ليس بهذا الاسلوب يتخاطب رؤساء الدول... وقد غضب بيكر من هدوء الرجل الصغير وعنفوانه الدبلوماسي النادر ورفض تسلم الرسالة وغادر دون مصافحة وخرج ليقول للصحافيين بعصبية نادرة : سنعيد العراق الى العصر الحجري.. ثم غادر رافضاً محاورة الصحافيين.
بقيت رسالة الرئيس على طاولة اللقاء وخرج طارق عزيز ليحاور صحافيي العالم طوال ساعة كاملة وبهدوء نادر ... ووصف مراسل صحيفة ليموند الفرنسية ذلك اللقاء التاريخي بتقرير مطول جاء في مقدمته: دخل بيكر الطويل القامة الى لقاء مع سيد الدبلوماسية العراقية الصغير القامة.. وقد ظن بيكر نفسه عملاقاً ولكنه خرج بعصبية كقزم بينما بدا طارق عزيز عملاقاً برصانته ولغته الهادئة.
منذ ذلك التاريخ وحتى احداث الغزو الهمجي تلقّى طارق عزيز عشرات العروض والاغراءات ليغادر العراق مقابل الملايين والمناصب الهامة. وحتى بعد اسره رفض اي تنازل ولو بكلمة واحدة عن مبادئه وقيم وطنه.
ومن محاولات اذلال طارق عزيز في اسره اجبرته قوات الاحتلال على المثول امام محاكمها التلفزيونية واقتادته الى هناك بثياب النوم (البيجاما) فاذا به اكثر صلابة وتمسكاً بوحدة العراق وعروبته واكثر ايماناً بالدور الثقافي والدبلوماسي الذي كرّس حياته له.. وتأكد ان ما سمحت به قوات الاحتلال ونقلته على الشاشة كان جزءاً قليلاً جداً مما قاله الرجل.
وجاء في احد تقارير الصحيفة الايطالية «كورياري دي لا سيرا» ان الفاتيكان تدخل لدى الادارة الاميركية في عهد البابا يوحنا بولس الثاني من اجل الافراج عن طارق عزيز الذي ابلغ محاميه وابلغ جلاّديه انه لا يقبل اي مساومة او اي وساطة مع محتلي وطنه من اجل اطلاق سراحه.
بعد هذا اعتبر الاميركيون ان اطلاق سراح طارق عزيز سيضيف فضائح كثيرة وخطيرة ضدّ الاحتلال وممارساته التي فاقت ببشاعتها جرائم نيرون وهولاكو كما جرى في سجن ابو غريب وغيره. وكان هتلر اكثر رأفة من جلادي العصر لأنه حرّم التمثيل بالجثث مكتفياً باحراقها.
ان اسرة طارق عزيز واصدقاءه ومؤيديه حول العالم يعتبرونه شهيداً حيّاً وقدوة للالتزام بالمبادئ والمواقف أكانت نهايته اغتيالاً علنيّاً امام شاشات التلفزة ام موتاً بطيئاً بذريعة نوبة قلبية او اصابة سرطانية خطيرة.
ليس غياب طارق عزيز او قتله بالامر الخطير بعد ان ادّى دوره وربّما تكون في قرارة نفسه تمنيات انهاء حياته التي هي افضل من مشاهدته عراقاً مدمراً ومقسّماً انفصل شماله عن وسطه وجنوبه بدعم اسرائيلي علني وذهب عشرة ملايين من ابنائه بين قتلى وجرحى وارامل وايتام ومشردين ومهاجرين ومهجرين... وربما اكثر من هذا العدد، واصبح مصير الوطن المدمّر حلبة صراع اميركي - ايراني.
وعندما تقول قيادة الاحتلال ان السنوات الاربع الاخيرة في العراق شهدت موجة فساد وسرقات تجاوزت قيمتها الـ 300 مليار دولار وان قوات المرتزقة البالغ عددها 160 الفاً ستبقى في العراق الى جانب الـ 50 الف جندي ندرك لماذا قد يكون طارق عزيز تمنّى النهاية.
ولن يطالب احد ايّ جهة عربية لتتحرك من اجل انقاذ طارق عزيز او ايّ مقاوم آخر للاحتلال لأن الزمن العربي هو زمن السقوط ثم السقوط الى قعر الهاوية والهم الاول للنظام العربي هو الصراع والخنوع التام من اجل البقاء على قيد الحياة ولو كانت حياة ذليلة.