تلاعب دولي عبر اختراع الأسرار؟
آريس ــ كوباآريس ــ طلب رئيس المحكمة الدولية الخاصة بجريمة اغتيال الحريري من الأمم المتحدة رأيها في طلبات ضحية اعتقال تعسّفي، فاخترعت رئيسة الدائرة القانونية فيها سرّاً لا يدخل في سرّية التحقيق، لتزيد من ضرب صدقية «العدالة الدولية»
آريس ــ كوبا
عمر نشابةلم تمرّ ساعات قليلة على طلب رئيس المحكمة الدولية الخاصة بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري القاضي أنطونيو كاسيزي يوم الجمعة الفائت من الأمم المتحدة إبداء رأيها بقضية كان قد حكم فيها قاضي الإجراءات التمهيدية دانيال فرانسين في 17 أيلول الفائت، حتى صدر موقفها. فقدّمت رئيسة الدائرة القانونية في الأمانة العامة لمنظمة الأمم المتحدة باتريسيا أوبراين مطالعة مستعجلة في قضية حقوقية «اخترعت» فيها سرّاً ادّعت أنه من أسرار التحقيق، في مسعى إلى منع اللواء الركن جميل السيد من مقاضاة المسؤولين عن اعتقاله التعسّفي. فكاسيزي كان قد منح الأمم المتحدة مهلة ستة أيام لتقديم استشارتها، لكن يبدو أن الاستنفار السياسي الأممي للتغطية على ما يبدو تلاعباً دولياً في التحقيق في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري استدعى تحرّكاً سريعاً لأوبراين.
نعرض في الفقرات التالية بعض ما يدل على أحد جوانب تلاعب أممي في قضية عدلية: نبدأ بعرض الخلفية، حيث إن القاضي دانيال فرانسين استجاب في 17 أيلول الفائت إلى طلب السيّد من المحكمة الدولية الحصول على المواد الثبوتية الخاصة بالافتراء والاحتجاز التعسّفي الذي تعرّض له. رأى فرانسين أن من حقّ السيد الحصول على تلك المواد، شرط ألّا يتعارض ذلك مع مبدأ سرية التحقيق ولا يُلحق به ضرراً. وقرّر فرانسين كذلك عدم حسم القضية نهائياً إلا بعد تقديم المدعي العام دانيال بلمار واللواء جميل السيد إجابات عن أسئلة توضيحية (راجع«الأخبار» عدد 18 أيلول، صفحة 10) خلال مهلة عشرة أيام. لكن بلمار قرّر الطعن بقرار فرانسين أمام دائرة الاستئناف قبل يوم واحد من انتهاء هذه المهلة، متهرّباً من تقديم الإيضاحات المطلوبة.
فبلمار ورئيس قسم الادعاء في مكتبه، القاضي الأميركي داريل مينديس، أدركا أن من بين طلبات السيّد ما لا يدخل في سرّية التحقيق. فطلبات السيّد تضمّ، إضافة إلى صورة من محاضر إفادات الشهود التي تدل على تورطه المزعوم على نحو مباشر أو غير مباشر في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وأية أدلة أخرى قد تكون ضرورية لملاحقة مرتكبي المخالفات، التقارير المحالة على النائب العام اللبناني بشأن تقويم تلك الإفادات، وبالتحديد تقرير براميرتس في 8 كانون الأول 2006. ويطلب السيّد كذلك إطلاعه على رأي المدعي العام بلمار في احتجازه، وهو رأي كان قد بلّغه إلى النائب العام اللبناني.
إن خلاصة الإجابة عن هذا الطلب الأخير لا تدخل في سرّية التحقيق، إذ إن القاضي فرانسين كان قد قرّر في 29 نيسان 2009 فكّ احتجاز السيّد وثلاثة ضباط آخرين بعدما تبين له أن «المعلومات التي بحوزته (بحوزة المدعي العام) ليست موثوقة بما فيه الكفاية لتبرير توجيه الاتهام للأشخاص الموقوفين» (الفقرة 12) وأضاف أن «بعض الشهود غيّروا إفاداتهم وأن شاهداً رئيسياً سحب صراحة أقواله ضدّ الأشخاص الموقوفين» (الفقرة 37).
لكن بلمار أصرّ على التمسّك بمنع شخص اعتقل تعسّفاً لنحو أربع سنوات من تحصيل حقوقه عبر لجوئه إلى الآليات القضائية. فالرجل لم يكتف بالطعن في قرار فرانسين الذي منح السيّد صلاحية اللجوء إلى المحكمة باعتبارها صاحبة اختصاص للنظر في هذه القضية، بل سارع إلى الاستنجاد بالأمم المتحدة لمساعدته في ما بدا عملية «اختراع اسرار» لحماية المسؤولين عن تلاعب في التحقيق بجريمة اغتيال الحريري.
أوبراين استجابت بسرعة قياسية، فقدّمت مطالعة رأت فيها أن ملفات لجنة التحقيق الدولية السابقة مشمولة بالسرية التي تحفظ مستندات منظمة الأمم المتحدة. وخلصت إلى الطلب من المحكمة الدولية، بجميع غرفها ودوائرها ومدعيها العامين ومكتب الدفاع الخاص بها، عدم تسليم ملفات لجنة التحقيق إلى أي طرف ثالث، إلا بعد الموافقة المسبقة من الأمم المتحدة.
يستدعي موقف أوبراين مراجعة مضمون بعض تقارير لجنة التحقيق الدولية لجهة تقويم إفادات الشهود التي سجن الضباط على أساسها:
أصرّت الأمم المتحدة على حجب آراء براميرتس وبلمار بشأن اعتقال أشخاص تعسّفاً
ورد في الفقرة الـ73 من تقرير لجنة التحقيق الدولية الخامس (25 أيلول 2006) الآتي: «تواصل اللجنة أيضاً، بانتظام، تزويد السلطات القضائية اللبنانية بالمعلومات والمقابلات والوثائق ذات الصلة بالأشخاص المحتجزين، لتمكينها من اتخاذ أية خطوات تراها مناسبة». وجاء في الفقرة الـ96 من التقرير السادس (8 كانون الأول 2006): «يشمل هذا تقريراً تحليلياً لصدقية أحد الشهود وافت به أخيراً المدعي العام وقاضي التحقيق المكلف قضية الحريري. ولهذه العملية أهمية خاصة حيثما اتصلت المعلومات بأفراد من المحتجزين حيث إنها قد تساعد السلطات اللبنانية على اتخاذ أية خطوات ترى أنها مناسبة أو ضرورية بشأن احتجازهم». وجاء في الفقرة الـ92 من التقرير السابع (14 آذار 2007): «تبادلت اللجنة أيضاً مع السلطات اللبنانية كمية كبيرة من المعلومات، شملت وثائق وتقارير وغيرها من المواد. وعلى وجه التحديد، ما فتئت اللجنة تتبادل مع المؤسسات المعنية جوهر المعلومات ذات الصلة بالموضوع التي تحصل عليها خلال التحقيقات التي تجريها (...) ولا يزال ذلك التبادل يشمل معلومات قد تكون مهمة بالنسبة إلى أفراد يوجدون رهن الاحتجاز لدى السلطات اللبنانية».
ولدى تسلّم دانيال بلمار رئاسة لجنة التحقيق من سيرج براميرتس، ورد في الفقرة الـ47 من التقرير العاشر (27 آذار 2008) الآتي: «تُطْلع اللجنة السلطات اللبنانية المختصة على مضمون كل ما تحصل عليه من معلومات مهمة، دون تعريض مصدر هذه المعلومات للخطر، وذلك لتمكينها من إجراء تقويم مستقل للأدلة اﻟﻤﺠمّعة المستجدة والتصرف بما يتفق وهذا التقويم، بما في ذلك ما يتعلق بإجراءات الاحتجاز». وفي التقرير الحادي عشر والأخير (2 كانون الأول 2008): «تمضي اللجنة في إطلاع السلطات اللبنانية المختصة على مضمون كل ما تحصل عليه من معلومات مهمة. وتدرك اللجنة أن مسألة احتجاز أفراد في لبنان أو إطلاق سراحهم تقع ضمن دائرة اختصاص السلطات اللبنانية دون سواها. وفي هذا الصدد، استمرت اللجنة في تزويد السلطات اللبنانية بكل ما تحتاج إليه من معلومات لاتخاذ قرار مستقل بشأن مسائل الاحتجاز بدون الرجوع إلى اللجنة. ورفعت اللجنة أيضاً آراءها بشأن هذه القضايا إلى المدعي العام».
لكن أصرّت الأمم المتحدة على حجب آراء براميرتس وبلمار بشأن اعتقال اشخاص تعسّفاً وتقويم «شهود الزور» باعتبار أن ذلك يدخل في سرّية التحقيق. ويمكن بكلّ بساطة أن يصدر أمر عن القاضي فرانسين بالكشف عن محاضر القضاء اللبناني التي تتضمّن تقويم لجنة التحقيق الدولية. لكن ذلك يبقى مرهوناً بالقرار الذي ستتخذه دائرة الاستئناف. وهنا نسأل: هل يعمّق كاسيزي تسييس المحكمة، أم يسعى إلى إنقاذها؟
ازدواجية كاسيزي بين السياسة والعدالة
قابلت «الأخبار» القاضي أنطونيو كاسيزي في 23 نيسان 2009 في لاهاي، وسألته يومها: 1300 لبناني قتلوا عام 2006، ولن تكون لهم محكمة دولية، بينما رجل واحد ذهب ضحية اغتيال وستكون له محكمة دولية؟ فأجاب: «أنا أوافقك، لكن هذه هي السياسة. عليك أن تلوم السياسيين في نيويورك الذين يقررون في جرائم غزّة وجنوب لبنان أن لا يأخذوا أي إجراء، وفي حال اغتيال الحريري يأخذون إجراءات. هذه هي السياسة. ولا تلمنا، فنحن خارج السياسة. نحن لسنا سياسيين. نحن محترفون طلب منا أن نحقّق العدل في قضية معيّنة».
لكن الرجل نفسه لجأ يوم الجمعة الفائت إلى الأمم المتحدة (هيئة سياسية)، طالباً رأيها في قضية عدلية تخصّ حقوق شخص اعتقل تعسّفاً لنحو أربع سنوات، ما يثير الاستغراب. وقد يرى البعض أن ذلك الرأي ليس ملزماً، وأن كاسيزي منح السيّد مهلة تنتهي يوم 22 تشرين الأول للرد على هذا الرأي، لكن ذلك لا ينفي ظهور ازدواجية كاسيزي. ازدواجية كان قد اعترف بمعاناته منها عبر قوله: «ماذا يمكننا أن نفعل؟ أنا أشعر أخلاقياً بأنني أعاني ازدواجية، لا بل أنا أتخبّط عندما ألاحظ أننا نقوم بعدالة انتقائية». (الحديث مسجّل)
عدد الجمعة ٨ تشرين الأول ٢٠١٠
المصدر