جلس ..في زاويةٍ موحِشة ، يتجرعُ
همومَه ، والحزنُ يقطُرُ من قلبه ... والأسى، والأسف يعصُران أحشاءه عَصْرًا ...
جلس يفْتِلُ حصواتٍ بين أناملِه ..لِيُقلبَ دفاتر الأيام .. والدنيا تلُف ..
وتَلُف في خاطرهِ .. جلس وقدْ رسمَ الزمانُ أخاديدًا على وجهه الشاحِبِ ، وأبْحرَت
عيناه في رأسه ،حتى بدَتا كنورٍ خافِت ٍ
ينبعِثُ من مغارةٍ مظلمةٍ ...
يستمر المسكين في تقليب دفاتِرَ
أيامه ،وهو لا يدري كم مر عليه من الزمن .. بل حتى أنه لا يعير له اِهتماما ، وقد
اِنطبقت شفتاه على بعضهما فهو لم ينطق منذ أن جلس بِبِنْتِ شفا ....
تمر الساعات ..تتراكض وكأنها في عجلة
من أمرها .. والرجل ما يزال جاثما في مكانه ،يفتل حصواته بين أنامله الذابلة ...
يَلف الليل رِداءَه الأسودَ ، الحالك السواد ،ليخْنُقَ نور النهار .. وتبدأ
الحركة تتلاشى رُويْدًا ،رويْدًا إلى أن
خيم السكون على المكان ، إلا من بعض الكلاب الظالة ، التي كانت تتسكع في الشوارع
.. والرجل لا يزال على حاله وكأنه غُرِس
في هذا المكان ... يعاود تقليب صفحات الماضي ، صفحة ،صفحة لعله يجدُ في إحدى الصفحات ما يطفئ به النار التي تأججت في كيانه، أو تخفف
عنه هَوْل الزلزال الذي أقلب أحشاءه ،رأسًا على عَقِب ..ولكن دون جدوى .
... يواصل تقليب صفحاته .. ربما وصل
إلى الصفحة الألف ، ربما أكثر وربما أقل.. فهو لم يعدْ يذكر عدد الصفحات التي مرت
من عمره .. وهو ينتظر أملا طال اِنتظاره ..
هناك بين الصفحات ثمةَ صفحة مشرقة ،يكاد
نورها يخترق كل الصفحات ... تزداد أنفاسه ، وتزداد معها حركة دوران الحصوات ..يمد
في عُنُقه ظنا منه أنه سيختلس ولو نظرة على تلك الصفحة المشرقة ..ولكن هيهات
..هيهات .
فالصفحة تزداد بعدا ،كلما ظن أنه
اِقترب إليها ،وكأنه يتراجع إلى الوراء ..... ومن حوله معركة مُحْتَدِمة بين الليل
والنهار .. أخيرا تنفلت من الرداء الأسود خيوط فضية رفيعة ..إنها خيوط الفجر
،لتقتحم الزاوية التي يقبع فيها .. غير أنه لا يأبه بها .. فهو يطارد صفحته
الضائعة ... ليصل إليها أخيرا والشمس في كبِدِ السماء .... يرتجف كصغير عصفور بلله
المطر في يوم قَر ... ربما هي رجفة الحنين .. وربما رجفة الحسرة والأسى ..وربما
.....
ترتسم أمامه صورة شاب ،وسيم ،عريض
المنكبين مفتول الساعدين ، تنفرج شفتاه على عِقدِ من اللؤلؤ الأبيض الناصع البياض
... يضع طفلا بل فَلقة من قَمَرٍ أو اِشراقة من نور السماء ، على كتفيه ، ويضم إلى
صدره الدافئ ، بنتا تغار الشمس من نور وجهها ... وهو يطوي الأرض طيا ،حتى أن
الحجارة تفر فزعا من هوْلِ وطْء أقدامه ، والضحكات تملأ عنان السماء ... وفجأة
تنفلت الصغيرة من بين يديه ، لتجري وسط سنابل القمح المتمايلة وراء سرب من
الفراشات التي حباها الله بجميع ألوان الطبيعة.. ويجري وراءها .. يمد يده ليمسك بها ،
فتجري ،وتجري .. وهو يمد يده ..وإذا به يسقط على وجهه في بركةٍ كانت إلى جواره
،وهو لا يشعر بها
في هذه اللحظة يصحو من حلمه الذي ظل
يطارده لساعات، وساعات طِوال .. فيصفع جبينه ، أسفا على الحلم الذي يريد أن يرافقه
وإلى الأبد .. هذا الحلم الذي أنفق فيه يوما كاملا .. بل عمرا كاملا .. فهو يدرك
جيدا أنه لن يراه مرة أخرى .
يحاول أن ينهض من مكانه ،ولكن هيهات
، فساقاه قد اِلتَصقتا بفخِذَيْه من طول الجلوس .. يحاول، ويحاول ولكن من دون جدوى
... فكيف للطائر المكسور الجناح أن يحلق ثانية ، حتى وإن رفرف أو تخبط .
يصرخ بأعلا صوته ، فلا أحد يرد عليه
، لأن صوته لم يغادر شفتاه ، ولأن لسانه اِلتصق بحلقه ..فهو لم يحركه منذ أمَدٍ
بعيدٍ .
هناك في الجهة المقابلة للركن الذي
ينزوي فيه ، متجرٌ وأي متْجرٍ .. إنك لا تستطيع حتى عَد نوافذِه .. والناس تنهَلُ
منه ، كصفوف النمل حينما تحمل زادها ... وخلف الزجاج يقف رجل ..يتأمل ..يفكر .. من
هذا الجاثم قُبالَة متجري .. هل هو متسول ؟؟؟ هل هو لص يترقب أحوال المتجر ،ليسطو عليه هو من يقفون خلفه..
فضول كبير يدفع الرجل لمعرفة الحقيقة ، قبل أن يستدعي رجال الشرطة ... تخطر له
فكرة استدعائه إلى المتجر ، ليعرف تفاصيل وجوده في ذلك المكان منذ يومين ... يرسل
أحد عماله إليه ... يقف العامل أمام الشيخ آمِرا إياه بالذهاب معه إلى سيده ..
لأنه يريده حالا ...
ولكن ماذا ..؟.. يعود العامل أدراجه
مهرولا إلى سيده ، الذي مازال ملتصقا بالزجاج يراقب ... سيدي ..سيدي ... إن الرجل
الذي تطلبه .. مشلول ..معتوه.. وربما دهسته إحدى السيارات .. فهو أخرس ، ولا
يتحرك.
يتذمر السيد .. يرفع سماعة الهاتف ،
يهتف لرجال الحماية المدنية ، يتحدث مع قائد الفرقة ، ليبعث بسيارة كي تنقل هذا
... الذي ... لا...
بعد ساعتين من وقت مجيء سيارة
الإسعاف .. يرن هاتف السيد الوقور ... تعال فورا إلى المستشفى ..هناك شيء هام في
انتظراك .. لاتتأخر علينا سيدي .. نرجوك.. يسرع الرجل إلى المستشفى ..يتجه إلى
الاستعلامات ، ليستطلع عن الموضوع ..... تقدم له الممرضة مجموعة من الوثائق ..
أوراقا ..بطاقة هوية ، كانت بحوزة الرجل الذي أمر بنقله من هناك.. يبتسم .. مالي
أنا وما لهذه الأوراق ؟؟؟؟
تلح عليه الممرضة ..سيدي أرجوك تفحص
هذه الوثائق .. أنظر فقط .. يفتح الرجل البطاقة ليجد فيها صورة طفل ، ربما أخذت له
عندما كان في سن السادسة من عمره.. ينظر إليها .. تتسع عيناه أكثر .. إنها محض
صدفة .. ولكن الصورة .. هي الصورة نفسها التي أضعها في درواز وأعلقها على الجدارية ، والتي تكاد
تغطي كل الجدار.. وبسرعة يحول نظره إلى البطاقة .... رباه ..ما هذا التشابه ...
يدخل يده في جيبه ليخرج بطاقته فهو لا يصدق ما يرى ... ينظر إليها تارة .. وإلى بطاقته تارة أخرى
.. ترتسم على وجهه ألف علامة استفهام .. يضع يده على جبينه يترنح .. ثم يهوي على
الأرض
محدثا صوتا أشبه
إلى حد ما بصوت المدفع في شهر رمضان ، يتجمع من حوله الممرضون والممرضات ، يبدأ في
فتح عينيه شيئا ، فشيئا ... يأتي من الغرفة المجاورة ممرض بسرعة البرق ... سيدي ..
سيدي .. اِطمئن صاحب البطاقة قد فارق الحياة ، ولم يتلفظ بكلمة واحة ..لم يعد هناك داع
لاستدعائك..عفوا ... لاستيائك ..
--------------------
نعم عزيزي القارئ ، إنها مفارقات
الحياة ، ولك أن تسقطها على الواقع لترى أنها مجرد لطيفة من لطائف هذا الزمان .
سلاوي