صاحبي.. لا يريد إسقاط النظام ـــ 1
حدثني صاحبي قال:
أنا رجل درويش.. مسكين.. أمشي الحيط.. الحيط، وأقول سترك يارب.. ولذلك أنا لا أدعو إلى تغيير النظام.. كما تطالب الجماهير العريضة، وهي تسرح وتمرح في شوارع المدن والبلدات، وتهتف بإسقاط النظام، بإصرار ما بعده إصرار.. وعناد ما بعده عناد.. دون خوف من أسر ولا خشية من قتل.
ثم أردف صديقي قائلاً: أنا.. فقط لي مطلب واحد.. لا غير.. هو أن يصبح القضاء مستقلاً، ويحكم بين الناس بالقسط والعدل.. بالقسط والعدل فقط.. يا صاحبي.
فقلت له: ولكن أنت، كما تقول، رجل مسكين.. درويش، وتمشي الحيط .. الحيط.. وهذا يعني أنك لست ظالماً ولا مظلوماً، ومَن هذه حاله لا أحد يكثرث به، ولا لأمثاله.. لا قضاءٌ عادل، ولا قضاء فاسد.. فماذا تستفيد..!!!؟.
فقال: بالعكس.. أنا وأمثالي هم الذين " أكلوها " منذ أكثر من أربعين عاماً في ظل قضاء فاسد.. فاسد.. فاسد، لم يشهد العالم كله شبيهاً له في أدنى المعمورة وحتى أقصاها..
قلت: طيب.. لنفترض أن القضاء أصبح مستقلّاً.. فماذا بعد ذلك..!!؟.
قال: عندما أطمئن إلى أن القضاء أصبح مستقلاً وعادلاً فعلاً..
وعندما يجلس القضاة فوق قوس المحكمة، دون أن يفكّروا برشوة محرزة من هذا الطرف أو ذاك، فيقلِبوا الحق باطلاً، والباطل حقاً..
وعندما أرى ميزان العدالة، تتوازى فيه الكفّتان، فعلاً لا قولاً، وعندما أتأكد أن أولئك القضاة يحكمون بمضمون قوله تعالى " وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل "..
وعندما أتأكد أن قلبي لم يعد يخاف لا رئيساً كبيراً ولا شرطياً صغيراً...
عندئذ يا صاحبي سأرفع أمام المحكمة الموقرة ثلاث قضايا ملحّة.. لا قضية واحدة..
فقلت: طيب.. هيّا حدثني الآن عن القضية الأولى..
فقال: القضية الأولى هي أنني سأرفع دعوى ضد الفساد، وإهدار المال العام، ونهب بيت مال الوطن..
فقلت مندهشاً: أُف.. أُف..!!! هذه قضية كبيرة، ولا يستطيع متابعتها والنجاح فيها واحد من أمثالك.. ممن يمشون الحيط.. الحيط، ويقولون: سترك يا رب.
فقال لي: بالعكس، عندما يكون القضاء عادلاً.. ونزيها.. ومستقلاً، ستوضع النقاط على الحروف، وتجرى الأمور كما يجرى الماء الرَّقراق في السهل المنبسط.. دون أية صعوبات أو عقبات أو إعاقات.. ويستطيع واحد من أمثالي أن يرفع ما يشاء من دعاوى، صغيرةً كانت أم كبيرة..
قلت: ولكن الفساد عم وانتشر.. ومحاسبة المفسدين قد يَطال الهرم كله، من الرأس حتى أخمص القدمين.. أعني حتى أسفل القاعدة..
فقال: وهذا ما أريده بالضبط... وأُصرّ عليه.. وحسب أطنان المعطيات والوثائق..أطالب هيئة المحكمة الموقرة بإنزال أشدّ العقوبات بحق المفسدين الفاسدين.. أجمعين.. ودون مواربة أو محاباة أو لفّ ودوران.. وأذكرهم بما فعله العز بن عبد السلام عندما أرغم السلطان على بيع أمراء المماليك من الفاسدين المفسدين في سوق النخاسة،
فقلت: ولكن هذا قد يؤدي إلى الحكم على الفاسدين والمفسدين كافة إما بالإعدام أو السجن المؤبد.. أو... وربما أقل تهمة سيكون حكمها خمس سنوات.. وهذا يعني أنك ستضع رموز النظام وحاشيته وأعوانه والآكلين من معلفه إما تحت المقصلة أو في زنازين السجون.. أي.. أنت بصريح العبارة تدعو إلى إسقاط النظام..
فأسرع صاحبي للرد قائلاً: لا.. لا تغلط.. أرجوك.. أنا لا أدعو إلى إسقاط النظام، فأنا إنسان درويش.. مسكين.. وأمشي الحيط.. الحيط ، وأقول سترك يا رب..