jalili عضو ذهبي
عدد المساهمات : 631 تاريخ التسجيل : 14/07/2010
| موضوع: الساونا، الحمّام الفنلندي .. بروفيسور حسيب شحادة .. جامعة هلسنكي الأربعاء أغسطس 24, 2011 8:21 pm | |
| الساونا، الحمّام الفنلندي
بروفيسور حسيب شحادة
جامعة هلسنكي يتحدّر الفنلنديون منذ آلاف السنين من آسيا المركزية، عندما أخذت القبائل البدوية بالرحيل نحو الشرق والشمال، ولا يعرف علماء الأجناس إلا القليل عن الفنلنديين قبل القرون الوسطى. تحتلّ “الساونا” منذ القِدم مكانةً مرموقة في الحياة الفنلندية فهي كانت في الماضي غير السحيق بمثابة البداية والنهاية، فيها وُلد الطفل وفيها غُسلت جثة المتوفى، وهناك من يقول إنها شبيهة جدا بالعقيدة والدين والطقوس. وما زال الغموض يكتنف أصلَ الساونا، فمن جهة معينة، يعتبرها الفنلنديون من اختراعهم، في حين أن لشعوب أخرى كالسيبيريين والهنود الحُمر، غرفهمُ الساخنة وطقوس استحمام خاصّة بهم. وهذا النمط من الاستحمام البخاري كان معروفا للجنس البشري منذ العصر الحجري. على كل حال، يبدو أن الساونا عُرفت في فنلندا منذ بداية التقويم المسيحي. وفي البداية كانت الساونا عبارة عن جُحر في الأرض أو زورق خشبي توضع كومة من الحجارة عليهما وتسخّن جيّدا فيُرشّ الماء فيغدو بخارا. كما أن السحر والشعوذة صاحَبا هذا الحمّام، ففي القِدم استحمّت أفواجٌ ثلاثة، الرجال فالنساء فالجنيّات. والساونا اليوم في المنازل، أعلى الأماكن حرارة يدخلها المرء طواعية، عبارة عن ثلاث حُجيرات، واحدة لخلع الملابس والتجفيف والارتداء وثانية للاستحمام بالدوش وثالثة حجيرة البخار، والأخيرة تكون معزولة وجدرانها خشبية وتتراوح درجة الحرارة عادة عند الاستحمام ما بين سبعين إلى مائة درجة سالزيوس (يتحمّل الإنسان العادي درجة حرارة تصل إلى 128 لمدة قصيرة بالطبع)، وفيها مقاعد خشبية والمسامير فيها مبشمة كليا وموقد كهربائي فيه أحجار خاصّة تزن قرابة الخمسة عشر كيلوغراما أو موقد للحطب. وفي هذه الحجيرة فتحتان للتهوية، الواحدة في المصطبة المبلطة والأخرى في السقف بالإضافة إلى فتحة واسعة في أسفل الباب ونافذة صغيرة ونور كهربائي خافت. كما وأن وجود المحرّ، الترمومتر أو ميزان الحرارة، معلقاً على حائط في الساونا أمر مفروغ منه وفي بعض الأحيان هناك مرْطاب، ميزان لقياس الرطوبة. يدخل المستحمّون، أطفال وشباب ومسنون حجيرة الساونا عراةً كما خلقتهم أمهاتهم ويتدوشون أولا في الحجيرة الثانية. وفي الثالثة يُرش الماء بعد الاستئذان من الآخرين من دلو خشبي أو نحاسي بمغرفة على الحجارة الملتهبة الموضوعة في وعاء معدني فيه أنابيب كهربائية (ويعدّ هذا الوعاء المسمى بـ kiuas وهو بمثابة قلب الساونا النابض بالحرارة والبخار) فسرعان ما يغدو بخاراً لاسعاً متصاعدا يجعل الجسم ينْفَضِخ (يتصبّب) عرقا وهناك كلمة فنلندية خاصة لهذا البخار، löyly، ومن شبه المستحيل إيجاد كلمة بديلة لها، تقوم مقامها بالضبط، في لغات أخرى. إن جلد الانسان يسخُن بسرعة فبعد حوالي أربع دقائقَ تصل درجة حرارته أربعين درجة سالزيوس، وعندها يتصدّى لذلك الدفاع البدني بواسطة التصبب عرقا لتبريد الجلد ويتسارع خفقان القلب لمدّ الجسم بالدم المطلوب، حوالي تسعة إلى عشرة لترات في الدقيقة في حين أن الضخّ العادي يصل إلى ما بين أربعة إلى ستة لترات في الدقيقة. كما وأن هناك عادة لدى الفنلنديين لا سيّما في فصل الصيف وهي "جلد" أجسادهم بحزمة من غُصينات شجر البتولا أو قضبان مورقة ذات رائحة زكية منعشة أو من غصينات الزيزفون. لمثل هذه الحزمات اسم خاص بالفنلندية,vihta, vasta ويمكن شراؤها خضراء صيفا أو مجففة في الأسواق وقد تملّح للمحافظة على نضارتها وفي العصر الراهن تحفظ هذه الحزم أو الضمم الصغيرة في المجمِّد، الفريزرأيضا لاستعمالها في المناسبات الهامة مثل ليلة عيد الميلاد المجيد. غالباَ ما يحتسي الفنلنديون الجعة أثناء هذا الاستحمام وبعده إلا أنه لا يُستحسن احتساء الكحول قبل الساونا أو خلالها أو بعدها. وليس من النادر بالنسبة للفنلندي الذي أخذ قسطا معينا من "التسونن" أن يخرج في فصل الشتاء المثلج والتدحرج "التفعفل" على الثلج ثم العودة إلى حجيرة البخار، قرّ قارس قد يصل إلى درجات صقيعية كثيرة، تحت الصفر، عشر درجات أو أكثر، إلى حرّ ناري قد يصل المائة درجة. والساونا متوفرة في كل مؤسسة أو شركة تحترم نفسها مثل الفنادق والجامعات والبرلمان ونوكيا وبرك السباحة الخ. وتوجد أكبر ساونا في "مدرسة جنود البحرية" في "قلعة فنلندا" الواقعة في العاصمة، ابنة البلطيق. كما وحضور بخار الساونا يظهر للعيان في كل بقعة يتواجد فيها الفنلنديون: مثلا، جنود فنلنديون في نطاق قوى الأمم المتحدة لحفظ السلام مثلا في لبنان وسيناء وكوسوفو الخ.، وقت للحرب ووقت للساونا، يقول الفنلندي. بالإضافة إلى النوعين آنفي الذكر للساونا، الكهربائي والحطبي، هناك نوع ثالث أقل استعمالاً منهما وهو ساونا الدخان. ومن النصائح للمستحمّ في الساونا، ضمن الثقافة الاستحمامية، يمكن التنويه بما يلي: عند خلعك لملابسك اخلع عنك كل المشاكل والرسميات والمنغّصات الحياتية وادخل حجيرة البخار إثر دُشّ. لا تدخل الساونا إثرَ تناول الطعام رأساً بل يجب انتظار ساعة واحدة على الأقلّ وتجنّبِ المشروباتِ الروحية. ومن المحبّذ الاستلقاء على الظهر ورفع الرِجلين فهما قادرتان على تحمّل الحرارة العالية أكثر من الرأس. وبعد الاستحمام لا بدّ من ارتداء ملابس دافئة لتجنّب الزكام. ومن الضروري تناول كمية كافية من السوائل بعد الساونا لتعويض الجسم ما فقده منها ومن تناول الطعام المملح لتعويض ما أفرزه البدن من أملاح. حجيرات الساونا، قرابة المليونين في فنلندا، ليست مكاناً للاستحمام وتنظيف جذري ومنشط للجسم فقط، إنها مكان مناسب جدا لراحة العقل وشفاء الروح والتأمّل والاسترخاء وعقد الاجتماعات واللقاءات واتخاذ القرارات الهامة، إلا أنها ليست بأي شكل من الأشكال لمزاولة الجنس كما قد يعتقد الكثيرون من الأجانب. وفي الساونا الكلّ عُراة والكل متساوون وفيها مسحة عميقة من السكينة والصوفية. أضف إلى ذلك أن الساونا قد استخدمت حتى بداية القرن العشرين لإنجاب الأطفال، ويتفاخر الكثيرون حتى اليوم أنهم ولدوا فيها. كما وكانت العروس تستحمّ في الساونا قبيل حفلة الإكليل، الزواج. فالساونا مكان جدّ صحيّ وفيها تتهاوى كل الشكليات والرسميات وتتبخّر بتصاعد البخار اللاسع. ودخلها المسنّون ليقضوا نَحْبَهم فيها. وفي اللغة الفنلندية أقوال مأثورة تعكس بجلاء بعض ميزات الساونا مثل مدى نظافتها وصحيّتها، بما معناه الحرفي: الساونا صيدلية الفقير. وهناك أيضا قول قديم يقول بأن على كل انسان أن يتصرّف في الساونا كتصرفه داخل الكنيسة، فلا ضجّة أو صراخ أو قسم. ويقال أيضا في الأمثال الفنلندية إن النظافة نصف الغذاء. وأخيراً وليس آخراً يُقال بالفنلندية ما فحواه: إن أجمل هنيهة وأروعها بالنسبة للمرأة هي بعد الاستحمام في الساونا. ولا بدّ من الساونا غداةَ أي عيد أو إثر رحلة صيد فهي رمز للراحة والاسترخاء جسديا ونفسيا وعقليا. ويقال أيضا إذا كانت الساونا والمشروب الثقيل والأشباح والقار عديمةَ الجدوى في الشفاء فالحالة ميؤوس منها. وعند الحديث عن السياسة والساونا فلا مندوحةَ من ذكر الرئيس الفنلندي أُرْهو كاليفا كيكّونن (1986-1900) الذي كان مولعاً بالساونا وفيها كان قد اتّخذ العديد من القرارات السياسية الهامة. إلى جانب ذلك فللساونا حيّز وحُضور لا يُستهانُ بهما في الأدب الفنلندي، إذ أنها ذُكرت في الكاليفالا، ملحمة الشعب الفنلندي، وكذلك في الرواية الوطنية الفنلندية المعروفة عالميا، الأشقّاء السبعة بقلم أليكسس كيفي (1834-1872 ). يقول الشقيق يوهاني في هذه الرواية ما معناه: بيت بدون ساونا أمرٌ لا يُحتمل، منزل بدون ساونا ساخنة وكلب ينبح وديك يصيح وقط يموء لا يستحقّ أن يُدعى بيتا. لا غرابةَ بعد هذه الفذلكة أن نشير إلى أن هناك جمعية فنلندية للساونا في هلسنكي في لاوتاساري أُسست العام، 1937، حيث ساونا الدخان ودكاكين متخصصة بكل ما يمتّ للساونا بصلة من منتوجات. زد إلى ذلك عقد المؤتمرات حول جوانب متعددة للساونا طبيا وتراثيا واجتماعيا. ولا شكّ أن الساونا رمز الفنلدة الأصيلة وقدِ ازدادت أهميتُها رمزاً ومؤشراَ للهوية الوطنية والثقافية إثر انضمام فنلندا للاتحاد الأوروبي في مستهل العام 1995. ومن المستحيل ذكر فنلندا بدون ذكر صنوها، الساونا والنوكيا. ويشار إلى وجود بطولة في فنلندا تحمل اسم "بطولة الساونا" يفوز فيها من يتحمّل المكوث في الساونا أطول وقت حيث الحرارة تتصاعد باستمرار وترى المشتركون يهبطون عن المقاعد وينسلون الواحد تلو الآخر نحو الخارج. تعود جذورثقافة الساونا إلى المجتمعات الزراعية في العصور الغابرة والمدنية الحديثة لم تقلّل من أهميتها. يُقدّر عدد الساونات في فنلندا، التي يبلغ عدد سكّانها قرابة خمسة ملايين ومائتي ألف نسمة، حوالي مليوني ساونا، نصف مليون منها في المصايف الريفية بالقرب من البحيرات وما أكثرها في بلاد الشمال، قرابة المائتي ألف. يستحم معظم الفنلنديين في الساونا مرة واحدة في الأسبوع وعادة يوم السبت وليس من الغريب أن ترى طفلا غضا يرافق أهله للاستحمام الساوني القصير. ولا بد من الإشارة إلى أن دعوة شخص إلى الساونا تنمّ عن الصداقة المتينة ولا يُستحسن عدم تلبية مثل هذه الدعوة اللهم إلا إذا كان المانع صحيا. وعادة تعطى للرجل أو للضيف فرصة إشعال الساونا الحطبية وهناك نهج متبع وناجع في تنضيد قرامي الحطب في الموقد. وقد قيل قبل حقبة زمنية معينة إن الفنلنديين يتسوننون مرة أسبوعيا في حين أن الأوروبيين دأبوا على إخفاء ذلك بالعطور. وقد لا يحيد المرء عن جادّة الصواب إن قال للساونا دور هام في ظاهرة التفوق الفنلندي في العديد من ألوان الرياضة العالمية. في الساونا، كما نوه به، الكل سواسية وبخاصة الرجل والمرأة، والسيدة الفنلندية كانت الأولى في تمتعها بحق الانتخابات والترشح وكان ذلك العام 1906. وهناك حكاية شعبية فنلندية قديمة عن مزارع استخدم الساونا كي يقلل من نسبة احتمالاته في الذهاب إلى الجحيم. وهذه الحكاية غالباً ما تُروى على مسامع الأطفال لحثّهم على الاستحمام بانتظام. وقدِ اعتاد ذلك المزارع الاستحمام في الساونا مرارا وتكرارا إلى أن أصبح قادراً على تحمّل أعلى درجة حرارة ممكنة فيها. وكلما كانت الساونا حارّةً كلّما تمتّع بالاستحمام وشاع صيت ذلك المزارع بأنه تمتع بحرارة فاقت حرارة أية ساونا. وفي آخر المطاف سمع إبليس بقدرة ذلك المزارع الفائقة على تحمّل الحرارة العالية وقام برحلة خاصة إلى سطح الأرض للقائه. سمعت أنّك مُغرم بحرارة جدّ عالية في الساونا، سأل إبليس. وردّ المزارع عليه بالإيجاب. إذن دعني آخذك إلى مكان حارّ إلى درجة أنك ستتوسّل إليّ لإخراجك منه، قال إبليس. رافق المزارعُ إبليس فرحاً راضيا وعند اجتياز بعض أبواب جهنم صرخ إبليس على عفاريته آمرا إيّاهم بإلقاء المزيد من الحطب والفحم على النار العملاقة المتأججة. وأردف إبليس معلنا، لدينا اليوم صديق حميم يتوق إلى الحرارة الشديدة الملتهبة. ابتسم المزارع وانحنى لإبليس شاكراً له كرمه الحاتمي. اشتعلت جهنم اشتعالا فظيعا وتفجّرت البراكين القديمة وأخذ الجليد في القطب بالذوبان، أما المزارع فابتسم قائلاً: المزيد من النار لو سمحتم. صرخ إبليس محتدا ومغتاظاً، المزيد من النار واللهب لهذا المزارع الأبله والغبي. جحيم إبليس كان جنّةً بالنسبة للمزارع المبتسم والشاكر لمضيفه على الوقت الرائع الذي قضاه عنده في ضيافته. وأخيراً وفي لحظة غضب جامح زعق إبليس على المزارع الفنلندي قائلاً له: أخرُج من هنا، لا أريدُ أن أرى سَحْنتك ثانيةً هنا. وهكذا عاد المزارع إلى مزرعته واجما كئيباً مكسور الخاطر إذ فقد حرارة الجحيم الرائعة ولكنه كان مسروراً من جهة أخرى إذ أنه علم أن مصيره مؤمّن. وهكذا الأطفال الفنلنديون الراغبون في الذهاب إلى جنّة عدن تعلّموا طريقة تجنّب الجحيم، وإذا احتلّ الفنلنديون ذات يوم الفضاء الخارجي فلا ريب أن أول شيء سيصطحبونه معهم إليه سيكون الساونا. وقد يسأل سائل، ما الطريقة المثلى للاستحمام الفنلندي هذا، لا سيما في فصل الشتاء المعتم والطويل والقارس، حيث قد تصل درجة الحرارة في الخارج إلى أكثر من ثلاثين درجة تحت الصفر، وعلى مثل هذا التساؤل خمسة ملايين جواب ونيّف كعدد أبناء الشعب الفنلندي في فنلندا، ومع هذا فإن أغلبية الإجابات تنصبّ دون ريب على أن الساونا في البيت لها ميزاتها وتلك في المصيف على شاطىء البحيرة قد يفضلها الكثيرون صيفا على الأقل. لا نزاع في القول: كن جميلا تر الوجود جميلا! | |
|