التدين الشبابي: نمطٌ منفلتٌ من المؤسسة الأيديولوجية!
هاني عواد2011/10/03
[center]
هاني عواد
من مواليد مدينة القدس. يعمل مساعد باحث في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، منذ التحاقه به في يوليو 2011، وهو حاصل على درجة الماجستير في الدراسات العربية المعاصرة عن أطروحة بعنوان: "الحداثة الجوّانية وسياسات الإجماع في فكر عزمي بشارة" من جامعة بيرزيت. عمل مسؤولاً لوحدة بحثٍ شبابية في الهيئة الفلسطينية للإعلام وتفعيل دور الشباب "بيالارا" في رام الله. وقبل ذلك مساعداً أكاديمياً بجامعة بيرزيت. له عدة دراسات منشورة وأخرى قيد النشر.
[b]تقدّم هذه الدراسة قراءة لنمطٍ جديد من أنماط التدين برز فاعلاً في ثورات ميادين التحرير العربية، ألا وهو التدين الشبابي. وتعتمد هذه المقاربة على وعي الدين كنظامٍ ثقافي، في محاولة لتقديم مساهمة سوسيو ثقافية، تحلّل العلاقة التي تربط بين أنماط إنتاج التدين ومعطيات البنية الاجتماعية، في المجتمعات العربية ذات التركيب التنضيدي.
وتقوم هذه الأطروحة على فرضية مفادها: أن تطور وسائل الاتصال/ التخيل، وكثافة انتشارها في المجتمعات العربية، قد أدّى إلى بروز حيّزٍ عامٍ جديد - وإن كان افتراضياً - قام بكسر رابطة الشيخ-التلميذ، التي كانت الأساس الذي شيّد عليه الإسلام الحركي نسقه التربوي. وحين حدث ذلك؛ باتت الذات الاجتماعية العربية مطّلعة على أكثر من مصدرٍ للمعرفة الإسلامية- السياسية، لتنتقي منها ما يناسبها، أو تتبنى فكرة أو عدة أفكار دون الحاجة إلى الانخراط في النسق التربوي للمؤسسة الأيديولوجية.
هكذا أدّى انتشار منتجات العولمة في الطبقات الوسطى والشعبية، إلى نسج مجالٍ عامٍّ افتراضي، جعل الدين بوصفه نظاماً ثقافياً، يفلت من قبضة المؤسسات الاجتماعية التقليدية، ليصبح في متناول حالة فردانية/ شبابية، فكّكته إلى قِيَمِيَّاتٍ، واستعملتها في سبيل إعادة استدعاء حاجاتها الاجتماعية والحقوقية.
الدين بوصفه نظاماً ثقافياً
نزعت معظم الإنتاجات الفكرية والاجتماعية إلى التركيز على نقد الدين على حساب التدين والخلط بين الاثنين، دون الانتباه إلى أنّ الشكل الأخير، يعبّر عن سلوكيات ثقافية ترتبط برموز أكثر ممّا ترتبط بمنظومة ثقافية متماسكة. لتساوي المقاربات التي طرحها مثقّفون عرب بين الأيديولوجيا والدين، ولتستدعي أطروحات تنتقل بين فكرة الدين "أفيون الشعوب" إلى التفكير في "مجتمعِ السلف الصالح".
وتميل هذه الدراسة - بدلاً من ذلك - إلى اعتبار الظاهرة الدينية أكثر سيولة من أن تتمّ موقعتها في مؤسسة من المؤسسات الاجتماعية، بل جعلها منتشرةً في الحيّز العام. والاستثناء الذي اختصَّت به الحالة العربية، هو تخلّي النّخب العلمانية واليسارية عن فكرة احتواء التراث العربي الإسلامي، واتّجاهها إلى العلموية، بحيث سهل للإسلام الحركي، سدَّ الفجوة والانتشار في الثقافة الشعبية. ليؤدّي التشديد على العلموية، وتجنّب قراءة "الشعور" و"الخيال"، كمقولتين علميتين، إلى انفصال الأيديولوجيا عن الممارسة، وانسلاخ المثقّف عن الطبقات الاجتماعية، وبالتالي الانزلاق إلى النخبوية.
الإسلام السياسي في إطار تعددية الأحياز العامة
تنطلق هذه الدراسة في فهمها لظاهرة الإسلام الحركي، من مقولة عزمي بشارة حول اللغة العربية؛ ففي الحالة العربية كما يقول بشارة، بقيت اللغة العربية لغة قومية لم تستحدث كما الفرنسية من اللاتينية، كما لم تتحوّل اللهجات المحلية العربية إلى لغات؛ وبالتالي أصبحت اللغة المقدّسة لغة قومية، وهو ما أدّى في العصر الحديث إلى بروز تيارات الإسلام الحركي لتوّحد بين الأمّة والدين، ولتفكّر وتتصرف في مفاهيم أمّة دينية واحدة، فمادّة التخيّل - هنا - تصلح لذلك، لالتحامها العضوي بالقرآن العربي.
وقد قامت الدولة التسلطية، بتقييد المجال العام عبر قوانين الطوارئ والمؤسسات الأمنية، ممّا قاد نخباً مضادّة للبحث عن أحياز أخرى تمارس عبرها السياسة وترعاها. وحين نَما المجتمع العربي وقد غابت عنه دولة مركزية ترى أنّ إحدى مهماتها كتابة الحكاية القومية، وتنظيم الحيّز العام لا حبسه، برزت أنساقٌ تربوية متعدّدة، ساهمت في بروز الإسلام السياسي كقوّة مهمة تنفرد بنظرتها إلى العالم؛ أي بتخيّلها الدولة والمجتمع والخارج، وهو أمرٌ أدّى إلى تقابلات أرهقت بنية المجتمع العربي لعقود.
لم تنجح استراتيجية النخب العربية الحاكمة في تغليبِ حيّز على آخر، بل ساهمت سياساتها في ترسيخ الحدود، خاصة مع شعور الإسلاميين بالتهديد من محاولات اختراق غير سويّة، قامت على تجنيد الأموال وسياسات العقاب، وهو ما عقّد المشهد العام، وساهم في تشديد تمايز الـ "نحن" والـ "هم"، داخل الفضاء المجتمعي الواحد. وأدّى ذلك بالإسلام الحركي إلى فرْض نوعٍ من سياسة الحضور (Politics of Presence)، والمنافسة على أحيازٍ أخرى، بما فيها خوض الانتخابات في النقابات والمجالس والجامعات، وهذا ما ساعد النخب العربية الحاكمة لاحقاً على رفْع فزّاعة الإسلاميين أمام الغرب وتخييره بين بقائها - أي النخب - واستلام الحركات الإسلامية دفّة الحكم.
مع دخول المجتمعات العربية في الربع الأخير من القرن العشرين، والأثر الذي أوجدته الثورة الإسلامية في إيران، واختلاف سياسات الأنظمة العربية مع الإسلاميين بين التحالف الضمنيّ والتضييق، اشتدَّ أزر المجال العام للإسلام الحركي، وأصبحت المساجد والمؤسسات الاجتماعية الأخرى من نوادٍ ولجان زكاة وتشكيلات نقابية داخل الجامعات وفي الطبقة الوسطى القديمة، وسائل إنتاج أيديولوجية، تنسج تصوراً سياسياً للدولة وعلاقتها بالمجتمع، وترسم صورة الشخصية الفردية للمسلم، لا تتوافق تماماً مع الصور الأخرى التي تنتجها وسائل تخيّلٍ أخرى في أحياز أخرى.
التدين الشبابي: بوصفه نمطاً منفلتاً من المؤسسة الأيديولوجية
لكنَّ تطوراً جديداً حصل في العقدين الأخيرين، قلّما انتبه إليه الباحثون، ساهم في تغيير شكل ظاهرة التدين في المجتمعات العربية، فقد أسفر انتشار الإنترنت والفضائيات العربية في الطبقات الشعبية، عن فقدان المفاهيم الإسلامية السياسية لعلاقتها المباشرة مع المؤسسة الأيديولوجية بشكلها التقليدي، وقد مكّن ذلك قطاعات واسعة من الشباب، الأمر الذي أدّى إلى نزوعهم إلى استخدام هذه المفاهيم دون حرجٍ من الاشتباه بارتباطهم بتشكيلاتٍ سياسية واجتماعية تقليدية، وبشكلٍ أكثر فعاليّة من الإسلام الحركي في مرحلةٍ سابقة.
وتبيّن ذلك من خلال اغتنام رمزيّة يوم الجمعة، وفروض الصلاة الجامعة في الميادين العامّة، كموجّهٍ تعبوي للشعوب وللصمود في الثورية، وأنتج ذلك حالة فريدة تجمع بين أصالة الثقافة العربية الإسلامية، وحداثة القيم الحقوقية التي تنتمي بكلّ المقاييس إلى الفضاء الثقافي التنويري.
وما كان باستطاعة الإسلام الحركي الذي اعتمد في نسقه التربوي على علاقة هرمية مؤسّساتية، أن يواكب تطوّر وسائل التخيّل الجديدة، ليس لسببٍ إلاّ لأنّ هذا التطوّر أسفر عن سرعةٍ في الجدلِ والتفاعل، تجاوزت بطء المؤسسة الأيديولوجية وبيروقراطيتها ، ليوسّع الحيز العام الجديد مساحة المعرفة الإسلامية السياسية، ويظهر تناقضاتها أمام الجمهور المتعلّم.
ويُتوقّع في خضمّ هذا التطوّر، أن يعمل الإسلام الحركي في ظلّ التغيّرات التي تشهدها المنطقة العربية، على تغيير بنيته الداخلية، بما سيؤثّر في نهاية المطاف في تحوّله التدريجي نحو نماذج مشابهة أكثر اعتدالاً، وأكثر ارتباطاً بفكرة "الوطن"، والهويّة العربية الجامعة، وهو ما سيجنّبه بالتأكيد خسارة جمهور عريض بانت ملامحه في العقدين الأخيرين، يخطف منه شرعيته المستمدّة من الثقافة الإسلامية، وينتمي إلى مشاريع سياسية تبغي تحقيق منجزات الحداثة السياسية.
المصدر