بعد إعدام القذافي، أي الفريقين أحق بالحكم ؟
د. عادل محمد عايش الأسطل
منذ السابع عشر من فبراير/شباط من العام الحالي، انتهى حكم القذافي، وانتهى نظامه والمتمثل في النظرية الخضراء بكل تفاصيلها، حينما ثار عليه الثوار من كل فج وميل، ورفعوا رايات ليبيا ما قبل القذافي، بمساندة بعض الدول العربية وخاصةً الخليجية، وبدعمٍ من قبل القوات الغربية المختلفة، والتي تمثلت بادئ الأمر بالدعم الفرنسي الصريح والمباشر، الأمر الذي دفع بالولايات المتحدة إلى الخروج عن صمتها بادئ الأمر، بعد أن أيقنت أن الحكومة الفرنسية التي أيدت الثوار منذ اللحظة الأولى للاحتجاجات، قاربت على الفوز بالرهان، ويكون لها قصب السبق في الاستيلاء على الكعكة الأكثر دسماً في المنطقة، إضافة إلى ما تعانيه الولايات المتحدة من القذافي ونظامه، لذا وفي محاولة منها على أمكانية للتأثير قدر الإمكان على مجريات الأمور، حتى لا تخرج الأمور مستقبلاً عن سيطرتها بالكامل، تزعمت الولايات المتحدة مجموعة الدول الغربية والعربية، إلى مجلس الأمن وعلى عجل تحت مسمى ذريعة حماية المدنيين الليبيين، من بطش القذافي وأعوانه، وعلى الفور وفي منتصف مارس/آذار، تم استصدار قرار أممي للتدخل في الشأن الليبي، الذي أتاح للدول الأممية، التدخل لأجل حماية المدنيين، فقامت مع (التجاوزات) القوات العسكرية الغربية والأمريكية في التاسع عشر من مارس/آذار، بأولى عملياتها العسكرية، من خلال شن غارات جوية وإطلاق صواريخ، على القواعد العسكرية الحكومية الليبية، والمنشآت الأخرى، بالذريعة نفسها.
ثم تم نقل تنفيذ العمليات العسكرية في فترة لاحقة، إلى عهدة قوات الناتو، التي قامت بإكمال الدور على ما يُرام، من حيث التكفل بتوجيه الضربات العسكرية الجوية ضد كتائب القذافي، تمهيداً لتقدم خطوات الثوار، بهدف القضاء على رأس الدولة ومن ثم السيطرة على الحكم، لكن الناتو كان أبطأ مما كان يتصوره البعض، حتى أصبح في كثير من الأوقات، محل اتهام بالتقاعس، وتعمده إطالة أمد الحرب، وكان بمقدوره إنهاء العمليات العسكرية في مدةٍ أقل، ولكن وكما نعلم، فإن الاستراتيجيات الغربية وخاصةً الأمريكية التي تمسك بزمام الأمور، تقضي بإطالة أمد الحرب، وخاصةً التي على هذه الشاكلة، إلى أقصي حد ممكن، ثم الدخول إلى الفوضى المزمنة، التي من خلالها تستطيع ضرب عصفورين بحجر واحدة، إلهاء أشخاص الدولة في المسائل السياسية، والاختلافات الحزبية والسلطة والحكم وغير ذلك، والثاني التفرغ (شرعاً وفرعاً) لنهب ثروات البلاد كماً ونوعاً، خاصةً وأن احتياطي النفط الليبي هو الأكبر في أفريقيا، وهو جائزة مغرية للقوى الكبرى المتعطشة للطاقة والمال.
خاصةً بعد أن كانت الدول الغربية وخاصةً الولايات المتحدة، لا تلقي بالاً إلى النداءات التي تدعو إلى حل النزاع الليبي سلمياً، ولا تحفل بأية مفاوضات (الغير المباشرة) التي تخللت المعارك التي دارت بين الطرفين، بهدف إنهاء الأزمة على ما وصلت إليه الأمور وبأقل الخسائر، مما حال ذلك دون التوصل إلى أي حل، وهكذا سيطر مبدأ الحل العسكري، الذي استمر وبقسوة، طال البشر والشجر والمال والعتاد، حتى فجر الخميس الفائت، عندما تم القبض على القذافى في مسقط رأسه، "مدينته سرت" ومن ثم إعدامه فوراً (اختصاراً للوقت والتكاليف) من قبل مجلس الحكم الانتقالي، بالاتفاق مع قادة دول حلف الناتو، على تصفيته مع أبنائه والمقربين منه جسدياً، وعدم اعتقالهم أحياءً، لتجنب تقديمهم إلى محاكمات عادلة، يمكن إن تؤدي إلى كشف أسرار وملفات لا يريدون ظهورها على الملأ، لينتهِ بهذا الإعدام عصر العقيد، وعصر نظرياته، ولتنتهِ معه مرحلة استمرت ما يزيد على أربعة عقود من الزمن.
ومع انتهاء حياته، وكما يقول البعض بمرارتها وغلظتها ودهاليزها وشيطنتها وخزعبلاتها، بات من الواضح أن تتغير ليبيا من الضد إلى الضد، وقد ذهب بعضهم إلى انتقال ليبيا منذ مقتل القذافي، من مرحلة الظلمات، إلى مرحلة التوحيد والنور، ومن عصر التخلف والانحطاط، إلى عهد الرقي والحضارة، ومن حالة البطش والضنك وإلى ما هنالك، إلى حياة الكرامة والرفعة وسعة العيش.
لقد مثل القذافي ونظامه، في رأي الكثيرين سواء الرؤساء والملوك والساسة وأصحاب القرار وغيرهم، الثمرة الفاسدة داخل الثمار الجيدة، التي يمثلها القادة والزعماء العرب، الذين هم بمثابة القدوة الحسنة، للعالم أجمع لا سيما الولايات المتحدة.
ما حل بالقذافي ليس غريباً ولا بأي حال، وخاصةً في ضوء أشكال التمرد، الذي بدا عليه طوال الوقت، على العالم العربي عموماً، والغربي على وجه الخصوص، فالقذافي الآن ترك الحياة وترك ليبيا بفضل الناتو والثوار، تركها للشعب الليبي كما يبدو أولاً، الذي سيظل يعيش حاضره في حالة أكثر من الضبابية، ومستقبلاً يكاد يكون مجهولاً، وللغرب ينهل من خيراتها ثانياً.
لقد آن الأوان ليتنفس قادة الغرب الصعداء، وخاصةً الرئيس الأمريكي أوباما، الذي وصف مقتل القذافي، بأنه قتل للدكتاتورية، وتحذير للزعماء المستبدين في أنحاء الشرق الأوسط من أن حكم القبضة الحديدية "لا بد أن ينتهي" وشارك أوباما السياسيين الأمريكيين ترحيبهم بالقضاء على القذافي، الذي نظر إليه على مدى عقود باعتباره خصماً لدوداً لرؤساء الولايات المتحدة، ولم ينس أوباما نفسه للسعي، لأن ينسب لنفسه قدراً من الفضل، في الإطاحة بملك ملوك أفريقيا القوي. وأوضح أنه يعتبر مقتل القذافي دليلاً واضحاً، على صحة إستراتيجية "القيادة من الخلف" التي اتبعها، والتي كانت محل انتقادات في الداخل الأمريكي، بسبب تصوير الولايات المتحدة، في دور الداعم لحلف الناتو، في حملته الجوية على ليبيا، وأطلق عليها بعض خصومه الجمهوريين اسم "مذهب أوباما" الذي تخلى عن القيادة الأمريكية لصالح الآخرين.
وكانت رحبت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون، التي كانت في زيارة إلى ليبيا قبل سويعات معدودات قبل مقتله، وأعلنت أن مقتل القذافي، يختم فصلاً مؤلماً في تاريخ ليبيا، إلاّ أنه يشكل في الوقت نفسه بداية عهد جديد للشعب الليبي، التي دعته إلى البدء بتأسيس ديمقراطية جديدة في المنطقة.
وقد أيد رأي كلينتون الكثيرين، على أن الحرب الليبية انتهت، وأن الشعب الليبي قد انتصر، وتحررت ليبيا من القذافي وأعوانه، وقام الثوار الليبيون إلى طي صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة، لدولة ليبيا الجديدة، دولة كل مواطنيها وأطيافها السياسية والثقافية. ينعمون بالحرية والأمن والاستقرار والديمقراطية، خالية من بطش وإرهاب النظام البوليسي الصارم.
صحيح أن العناد المصحوب بالقوة المفرطة، التي تعامل بها القذافي وأعوانه مع الاحتجاجات السلمية منذ بداياتها الأولى، والتي نادت بالتغيير دفعت أبناء الشعب الليبي، إلى حمل السلاح للدفاع عن النفس، الأمر الذي جعل نظام القذافي، يرتكب المزيد من الأعمال العسكرية الفظة بحجة التصدي للمسلحين، ومثيري الشغب من السكارى والجرذان.
لكن ما وصلت إليه الأمور على هذا النحو الآن، بدايةً بليبيا المدمرة، ومروراً بالانقسامات العشائرية والقبلية، وانتهاءً بالدور الغربي في الشأن الليبي، من شأنها أن تعقد المشكلة أكثر مما كانت عليه، بغض النظر عن مصير القذافي ونظام حكمه، لأن هناك من الشواهد الدالة، على عدم استقرار الأمور في عموم البلاد، لا في الوقت الحاضر ولا في الوقت المنظور، خاصةً في ظل الاختلافات الجوهرية بين الثوار أنفسهم، من حيث الأيديولوجيات المختلفة، ومسائل كثيرة متباينة، وربما وهذا الأمر غير مستبعد، وهو تكرار المشهد الدامي، الحاصل في كل من العراق وأفغانستان، ففي كل حالة بدا من السهل إسقاط النظام، ولكن من الصعب القدرة على تثبيت نظام آخر، وخاصةً النظام الديمقراطي الذي تنادي به وتدعمه الدول الغربية وبالذات الولايات المتحدة، وصعوبة ذلك تأتي من الكراهية للولايات المتحدة أولاً، وعدم لياقة النظم الديمقراطية المنفتحة، على هذه المجتمعات وهو الأكثر تعقيداً.
أيضاً، فإن من البديهي أن تكون هناك المزيد، من الضغوط على الحكم الجديد في ليبيا، من قبل (الدائنين) الدول الغربية، التي غطت أيام الحرب، وخاصة الولايات المتحدة، في حال تحايلها على حكم ليبيا، لتمرير ليس بعض الأشخاص الموالين لها في النظام الجديد فقط، وإنما سيكون أغلبهم من الموالين لها، وهذا لا يحتاج إلى برهان أو دليل، وقد رأينا مدى تجانس الأفكار بين الزعماء الليبيين الجدد، وبين القيادات الغربية المسيطرة، التي ستقوم على تغيير منظومة الحكم الليبي وطاقمها، قبل قيام الليبيين أنفسهم بذلك، ولن يكون ذوو النزاهة والشفافية أو الثوار الحقيقيين في الحكم كما هو واضح من سير الأمور السياسية والأمنية.
إذاً من سيحكم ليبيا الآن؟ ومن ستكون النخبة السياسية في البلاد؟ وماذا سيكون اسمها التالي؟ في ظل ظهور المجموعات المحاربة، والمليشيات المتناقضة والظمآنة إلى الحكم، والتي تشير معطياتها، إلى عدم وجود قواسم مشتركة ذوات شأن يكون عليها المعول في سداد الحكم، إلاّ القاسم الأوحد وهو القضاء على نظام القذافي، وغيرها من الثانوية والتي لا تشكل شيئاً بالنسبة لأخذ البلاد إلى جانب الأمان.
لقد برز اتجاهان متناقضان تماماً منذ وقت مضى، داخل المجلس الوطني الانتقالي، الذي قاد الثورة كوحدة واحدة: الأول اتجاه إسلامي يرغب بتطبيق الشريعة الإسلامية، وهو ما يثير قلق الدول الغربية، واتجاه علماني ليبرالي يتوق إلى الديمقراطية على النمط الغربي، والذي يمثله رئيس الوزراء الحالي"محمود جبريل" الذي قال إنه لا يريد أن يكون جزءاً من النظام الجديد، لا يحظى بشعبية، خاصة بين الإسلاميين. حيث كان معظم الوقت محل انتقاد وسخط، من قبل الإسلاميين، فقد قال القيادي الإسلامي الليبي وعضو الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين "علي الصلابي" إن على رئيس المكتب التنفيذي في المجلس الوطني الانتقالي الليبي محمود جبريل أن يقدم استقالته، ويترك الليبيين و"القوى الوطنية الحقيقية" يبنون مستقبل بلادهم، لأن جبريل ليس عليه إجماع في الشارع الليبي، وأن غالبية الليبيين يرفضونه ويرفضون من يدورون في فلكه.
أما مصطفى عبد الجليل رئيس المجلس الوطني الانتقالي فيواجه تحدياً من نوع آخر، فهو يجد صعوبة في مصالحة ماضيه كوزير للعدل في نظام القذافي مع دوره في الثورة.
أما بالنسبة للثوار الشباب، فهم لم يجدوا بعد من يقودهم، نحو ديمقراطية تلبي طموحاتهم، وهذا من شأنه إحداث المزيد من المشكلات بحيث لا يُستطاع إلى حلها سبيلاً.
وأيضاً تأتي تساؤلات مهمة أخرى، وهو من سيتحكم بمليارات الدولارات، المكدسة في البنوك الغربية، التي كان القذافي وأبنائه يتصرفون بها، كأنها حساب شخصي؟ ومن سيدير موارد الدولة الضخمة وثرواتها المختلفة؟ ومن الذي يضمن استطاعة المجلس الانتقالي تشكيل حكومة ذات مصداقية، وقدرة على مواجهة التحديات المستقبلية بعمومها.
أما التحديات، وأهمها، فهي كيفية التحرر من النفوذ الأجنبي خاصة مع التدخل العسكري لحلف شمال الأطلسي (الناتو) ودوره في هزيمة نظام القذافي، الذي كان له الفضل أولاً وأخيراً، في الحسم العسكري لصالح الثوار والمجلس الانتقالي، إذ أن الناتو سيكون دائب السعي، في مهمة البحث عن حصته المعنوية قبل المادية، ومن ثم تنفيذ أجنداته المسطّرة بعناية، قد تصل إلى حد السيطرة والحكم، كما حدث في العراق، بغض النظر عن بعض الاختلافات الهامشية، التي لا تقدم ولا تؤخر، في مسألةٍ على هذا القدر من الأهمية كهذه، وعليه فلن يكن هناك إيمان به أبداً، من أنه سيعمل على تحقيق طموحات الشعب الليبي، أو الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها.
ولا ننس تخوفاً من نوعٍ آخر، وهو أين إسرائيل من ذلك كله، وهي تنتظر ذلك كله ومنذ سنين طويلة، فهل ستدخل على الخط، أم أنها دخلت بالفعل على الأقدام الأمريكية؟ خاصةً وأن الطريق بات ممهداً تماماً، بعدما أعلن في وقت سابق، رئيس المجلس الانتقالي عبد الجليل، من أن ليبيا لن تنظر إلى الماضي، وخاصةً في الشأن الإسرائيلي.
إن ليبيا اليوم أمام منعطفات جديدة وكثيرة، أقلّها، أكثر خطورة من مرحلة الكفاح ضد القذافي وتحرير ليبيا منه، وأمام اختبارات مهمة وإستراتيجية، أحدها، إما أن ينجح المجلس الانتقالي بالوصول بليبيا إلى شاطئ الحرية والسلم الأهلي والدولة المدنية الديمقراطية، وهذا أمر يكاد يكون مستبعداً وأبعد عن الواقع ولو في الوقت المنظور، وإما أن يبقى على حاله من الفوضى وعلى جميع صورها وأشكالها، لا سيما وأن من السهل البقاء فيها ولمدة طويلة، والذي على الأرجح ستتكفل بتغذيتها الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة، ولسوف تظهر كل هذه الصور وغيرها، من الآن وصاعداً لا محالة على السطح، إن لم تكن هناك معجزةً منزّلةً، تنفيها أو تحِد منها.