تساؤلات الثورة عن المجلس الوطني الانتقالي السوري
عمل المجلس على وقع تاريخي ومسار الثورة على وقع مستقبلي
مخاض عسير ومسؤولية جسيمة - بعض ما لم يتحقق من المطلوب الممكن - لغز العلاقة بين المجلس والثورة
هذه كلمات صريحة مباشرة بشأن المجلس الوطني الانتقالي السوري، يفرضها واقع الثورة وواقع المجلس، ويفرضها الأمل في أن يؤدّي مهمته الجسيمة، وفق ما يحقق الأهداف الجليلة للثورة الشعبية البطولية.
في الأحوال الاعتيادية يسري تقليد في الدول الديمقراطية الغربية يقول بانتظار مائة يوم بعد تشكيل حكومة جديدة، قبل استخدام الأسلوب المباشر في مساءلتها عمّا أنجزت وما ارتكبت من أخطاء أو تقصير. وليست الأوضاع السورية أوضاعا اعتيادية، ولا يمكن التعامل مع المجلس الوطني الانتقالي السوري بهذا الأسلوب التقليدي.
التساؤل: أين المجلس الوطني؟ -كما ظهر في إحدى لافتات الثوار في محافظة إدلب الأبية الثائرة- يمكن أن يتحوّل كما تأتي الأخبار من هذه المحافظة وسواها إلى رفض عام من جانب الثورة للمجلس من بعد تأييدها له. المطلوب إنجازات واضحة للعيان، وسريعة، ودون أخطاء جسيمة، ولا يكفي القول أثناء استمرار تدفق سيل دماء الضحايا: نحن نتخذ الخطوات التمهيدية الضرورية للإنجاز!.. وليس الموضوع هنا موضوع "محاسبة"، فالمحاسبة تفترض ظهور إنجازات مسبقة لتكون موضع نقد إيجابي وسلبي، كما أن تشكيل المجلس لم يكن بطبيعة الأمر نتيجة انتخابات، بل حصيلة توافق بين أطرافه من المعارضة السياسية، لتحقيق أغراض محددة، وهذا مسوّغ وجوده، فإن أصبح هذا المسوّغ هيوليا، أصبح وجود المجلس في مسار الثورة هيوليا، وإن بقي قائما بهياكل وأسماء تبدو عتيدة للوهلة الأولى.
إلى الأعلى
مخاض عسير ومسؤولية جسيمة
الهيئة الانتقالية السياسية في مفاصل التغيير التاريخي -من قبيل المجلس الوطني- تحمل من الأصل مسؤولية تاريخية بالغة الأهمية، فالمواكبة السياسية لثورة شعبية أشبه بصمّام الأمان للانتقال من مطالب الثورة.. إلى آليات السياسة، ومن واقع المواجهة في جولات التضحية والبطولة والإقدام من جهة والقمع والتقتيل والفجور من جهة أخرى، إلى واقع التمهيد لحقبة بناء مستقبل آخر.
ولكنّ المجلس الوطني الانتقالي السوري بالذات يحمل علاوة على ذلك مسؤوليات إضافية، فهو لا يضمّ ساسة معارضين سبقوا إلى المبادرة وصنعوا ثورة، ولا حتى ساسة معارضين تحرّك سواهم بالثورة فسارعوا في اللحظة المناسبة إلى التخلّي عن أعباء ماضٍ نشؤوا فيه، ليؤدّوا واجبا حيويا تجاه الثورة والشعب الثائر الذي انتزع زمام المبادرة من السياسيين جميعا، فيشكّلوا لها جناحا سياسيا يظلها ويحتضنها..
لقد كان مخاض ولادة المجلس الوطني الانتقالي السوري طويلا، عسيرا، مضنيا، حافلا بالسلبيات إلى جانب الإيجابيات، وبارتكاب المحظورات وليس أداء الأمانة فحسب، فتميزت هذه الولادة بأنها كانت "قيصرية"، وبتعبير أوضح: لم تكن تلقائية بل جاءت تحت ضغوط الثوار، وبتعبير أكثر وضوحا وصراحة: بقيت الثورة تقدّم الضحايا وتحقق الإنجازات شهورا عديدة، وتخلّف عنها السياسيون طويلا، وهم ينتظرون.. أو يحاولون ويخفقون، رغم الدماء والتضحيات وما تعنيه على أرض الواقع وليس في قاعات الجدل والنقاش!.. هذا بالذات ما لم يمكن القبول باستمرارة بعد تشكيل المجلس.
هذه الولادة المتأخرة، تحمّل -مع ما رافقها- المجلس الوليد مسؤولية إضافية، فسيرة نشأته تضاعف حجم التوقعات منه من جهة، كما أنّها لا تزيل الشكوك في قابلية نجاحه قبل أن يصبح هذا النجاح حقيقة واقعة وليس أمنيات وبيانات وتصريحات.
لا تكفي نصوص وثيقة تأسيس المجلس قطعا لأداء المهام الأساسية والإضافية على المجلس الوطني الانتقالي السوري:
1- الثورة الشعبية في سورية تحتاج إلى ميثاق وطني يحدّد الكليات الكبرى الجامعة لجميع أطياف الشعب، ولجميع القوى السياسية، والقواعد الأساسية الضابطة للتعامل فيما بينها.. الآن ومستقبلا، فمن يصنع تلك المهمة "السياسية الفكرية" الانتقالية إن لم يكن المجلس الوطني؟.. هذا من مسوّغات وجوده، ولا يعوّضه "انتظار" تحقيق ذلك من جانب الثوار وقياداتهم الميدانية وهم يحملون على عاتقهم أعباء مسار هذه الثورة البطولية التاريخية.
2- لا تكفي التحركات بين عواصم عربية ودولية، والالتقاء مع لفيف من المسؤولين، والاكتفاء ببعض التصريحات واللقاءات الإعلامية حول ما يجري "خلف الكواليس"، بل لا بد أن يسبق ذلك وضع بنود، قطعية الدلالة في صياغتها، واضحة الهدف ممّا يراد الوصول إليه من خلالها، فهذا ما بات يحلو وصفه بخارطة طريق، وما يمثل مخططا عمل، معلنٍ للشعب الثائر الذي يريد المجلس تمثيله سياسيا.. بجدارة، وهذا ما يحدّد على ضوء التواصل السياسي، ما أمكن إنجازه أو لم يمكن، لقاء بعد لقاء، ويوما بعد يوم.. ولا يعوّض عن ذلك القول، إنّ هؤلاء السياسيين أصحاب خبرة ودراية، ويعلمون ما يصنعون، فالعنصر الحاسم بين مسوّغات وجود المجلس وأداء مهمته، هي أن يعلم الشعب الثائر -بكل شفافية- بما يصنعه السياسيون عبر المجلس وباسم الشعب، فإما أن يقبل به أو يرفضه، أما بقاء ذلك "مجهولا" أو "غامضا" أو "تعميميا" فسيجلب الرفض الشعبي الثوري له، وليس القبول والتأييد دون معرفة ووعي بما يجري.
ويوجد المزيد.. إنما يكفي هذان المثالان في هذه المرحلة..
إلى الأعلى
بعض ما لم يتحقق من المطلوب الممكن
قد يقال، إن الأهداف كبيرة، وإن الظروف المحلية والإقليمية والدولية صعبة معقدة، وإن للسياسة دهاليزها ومتاهاتها، فلا بد من بعض الصبر "الثوري الشعبي" على عمل المجلس "السياسي المدروس".. وهذا بالذات ما لا يمكن الأخذ به في حقبة الثورة، ولذا سبق التنويه أنّ الأوضاع السورية الراهنة ليست اعتيادية، ولا يمكن التعامل مع المجلس الوطني الانتقالي السوري بالأسلوب التقليدي.
رغم ذلك.. يمكن الوقوف عند جانبين اثنين ممّا كان مطلوبا تحقيقه في الأيام الأولى ولا يمثل أمرا خارقا.. أي كان تحقيقه ممكنا في الأصل، ولكن بقي السؤال عن ذلك مطروحا-ساعة كتابة هذه االسطور- أي بعد 23 يوما مضت على الإعلان الرسمي عن تشكيل المجلس، يوم 2/10/2011م.. ارتفع خلالها من أرواح الشهداء ما ارتفع، واعتقل من الأحرار من اعتقل، وارتكب من الجرائم بحق الحرائر والأطفال وعامة الشعب ما ارتكب.
1- لم يكن مشكلةً تمنع من إعلان الثوار تأييدهم للمجلس، أنّ تشكيلته كانت ناقصة من حيث تمثيل بعض فئات الشعب الثائر وأطيافه كما ينبغي، فهذا من طبيعة ما تفرضه الظروف على أي مبادرة سياسية، علاوة على أنّ النقص على هذا الصعيد كان محدودا، وقابلا للاستدراك خلال فترة زمنية معقولة.. هل تحقق ذلك؟..
2- لم يكن عقبةً تمنع من تأييد الثوار للمجلس، أنّ الأهداف المعلنة يوم اكتمال تشكيلة المجلس بقيت في حدود صياغة ما كان ثابتا من قبل -عبر الثورة الشعبية- من أهداف، فلم تضف التشكيلة جديدا بمعنى الكلمة، وكان بعض الأهداف الثورية في حاجة إلى عملية صياغة وصقل لتحديد معالمها بلغة السياسيين أيضا إلى جانب لغة الثوار وحدهم، ومثال ذلك هدف "إسقاط النظام"، إذ لم يبتكره المجلس، ولكن نقله عن الثوار.. وهو شعار ثوري سياسي بامتياز، وثابت دون جدال، وكان على المجلس أن يضعه في قالب عبارات سياسية قاطعة، تفرض نفسها على أرض الواقع، في عمليات التواصل السياسي، وفي المواكبة الإعلامية للثورة.. فهل تحقق ذلك، أم بقي التعميم مقصودا؟..
ألا يخشى المجلس في هذه الحالة من أصداء ما ينشره بعض المشكّكين من اتهامات له بأنّه يتعمد عبر هذا "الغموض.. أو التقصير"، أن يترك أحد الأبواب مفتوحا، مواربةً كما يقال في الدهاليز السياسية، من أجل حوار ما مع السلطة، وبالتالي من أجل حل وسطي، كالذي وضعت جامعة الدول العربية له إطارا يأباه الشعب الثائر بشدة، فهو حوار "محرّم ثوريا" ولكنّه "قابل للتفكير!" في عالم المراوغات السياسية؟..
إلى الأعلى
لغز العلاقة بين المجلس والثورة
تحدّث كثير من أعضاء المجلس وسواهم عن الظروف التاريخية التي جعلت المعارضة التقليدية تدخل في حلبة صراع وتسابق على المبادرات، قبل الوصول مع الثورة وبضغوطها إلى تشكيلة المجلس الوطني الانتقالي.. وكان ذلك حديث البحث عن أعذار، إنّما ينطوي واقعيا على الإقرار بأنّ الثورة التي أطلقها جيل المستقبل في سورية، تجاوزت المعارضة التقليدية كما فرضت نفسها أيضا على النظام المتحجّر القمعي، وعلى أرض الواقع العربي والإسلامي والدولي.
وبدا تشكيل المجلس الوطني الانتقالي السوري، بعد كل ماسبقه وما بقي في موازاته من مبادرات، أوّل محاولة جادّة للحاق بركب الثورة، ثورة جيل المستقبل.. إنّما لن يتحقق ذلك دون جملة شروط، هي في مقدّمة ما يقع على عاتق المشاركين في المجلس تحقيقه، ليصبحوا على مستوى جيل الثورة وإنجازاته التاريخية:
1- يسري على المعارضة السياسية -وليس على النظام المتحجر فقط وهو يتهالك ويتساقط مهترئا- أنّ من المستحيل أن تجرّ التقاليد السياسية الماضية الثورة المستقبلية إلى بوتقتها، أي يستحيل أن "تحتويها وتضبط مسارها" وفق إرادة السياسيين.. فإرادة الشعب الثائر هي الأصل وهي الأقوى، وهي ما يجب على المجلس أن يكيّف نفسها على وقع مسارها.. ومطالبها.. وتوقعاتها.. وخطوطها الحمراء.. وأساليبها أيضا.
2- إشكالية هذه التقاليد أنها تمثل قوالب من التفكير والسلوك، جمّدتها حقبة نصف قرن مضى، وجعلت من يتشبّث بها أسيرا لقيودها ومفعولها، بحكم الاعتياد الطويل عليها، وفتحت اثورة الشعبية آفاقا بعيدة المدى، لا يمكن أن يراها السياسيون دون الخروج من القوالب التقليدية التي تحكم سلوكهم ولا ينبغي أن يستمر تحكّمها في طرائق تفكيرهم.
3- لا يزال يوجد خلط كبير بين "التنافس التعددي" بين القوى السياسية، المفروض والمطلوب.. بعد أن تستقر دعائم الدولة المستقبلية المرجوّة، وبين "الوحدة الوطنية" الجامعة للقوى السياسية، في فترة محددة، لأداء مهمة محددة، ومصدر تحديدها: الثورة ومسارها، وليس: السياسات والتوجهات والرؤى المتعدّد’. وبتعبير آخر:
يجب أن يكون الإسلاميون في المجلس وطنيين إسلاميين الآن.. وأن يحفظوا توجّههم لحقبة تنافس مشروع مقبلة لم تبدأ بعد، ويجب أن يكون العلمانيون في المجلس وطنيين علمانيين الآن.. وأن يحفظوا توجّههم لحقبة تنافس مشروع مقبلة لم تبدأ بعد.. وهذا ما يسري على القوميين العروبيين، والقوميين الأكراد، وعلى مختلف المكوّنات الحزبية وغير الحزبية، المدنية والعشائرية، وعلى ما يوصف بالرموز التاريخية، وغيرها، ممّا يضمّها المجلس الآن أو قد تنضمّ إليه من بعد.
4- يضم المجلس وجهات نظر متعدّدة.. تشمل فيما تشمل ما يراه كل فريق هو الأصلح للتعامل مع القوى المحلية والإقليمية والدولية، ويبدو أنّ أصحاب وجهات النظر هذه، في حاجة ماسّة أن يدركوا أنّهم لا يمثلون في المجلس أنفسهم.. لا يمثلون توجهاتهم المتعددة وبالتالي وجهات نظرهم المتعددة، بل يمثلون القاسم المشترك بينهم، الذي صنعته الثورة شعبيا، وأوجبت عليهم التلاقي في "هيئة مشتركة" لتمثيله.. وليس لتمثيل أحزاب وجماعات وتوجّهات، ولكن هذا بالذات ما ينعكس في سلوك سياسي، تارة يعطي الأولوية للمحاصصة وتوزيع المسؤوليات، وتارة أخرى يعبّر عن نفسه في صدور أكثر من موقف علني، تجاه مسألة واحدة، حتى ولو كانت مصيرية خطيرة كمسألة التدخل العسكري الأجنبي، أو الحوار مع بقايا النظام حوارا يعيد له صفة نظام ولا يقتصر على تسليمه ما سبق أن تسلّط عليه تسلطا لا مشروعية فيه منذ اللحظة الأولى.. ثم تجري التغطية على تلك المواقف الانفرادية المتناقضة، بأنها تمثل هذا الفريق أو ذاك، ولا تمثل المجلس ككلّ.. فمن يمارس ذلك لا يلتزم بأن المجلس تشكل لتأجيل المواقف المتعددة ولإطلاق موقف "المجلس" على أساس القواسم المشتركة.. فقط، كيلا يتحوّل المجلس إلى ائتلاف سياسي مشروط بين عدة أطراف، بدلا من أن يكون -كما ينبغي- هيئة تابعة للثورة وللإرادة الشعبية في مرحلة زمنية تاريخية محددة.
ويوجد المزيد..إنّما يُرجى أن تغيب الحاجة لذكر المزيد، ولن تغيب إلا عندما تبدأ إنجازات المجلس بالظهور على المستوى المطلوب، وتترك أثرها الفعال على أرض الواقع، فلا يخطر في بال فريق من الثوار أن يسحب ثقته من المجلس، وكي يدخل المجلس الوطني السوري الانتقالي في سجلّ التاريخ، أنّه نهض فعلا بالمسؤولية الجسيمة الواقعة على عاتقه في هذه المرحلة التاريخية الحاسمة.
والله من وراء القصد.
نبيل شبيب