صحيفة الشرق القطريه الثلاثاء 25 المحرم 1433 – 20 ديسمبر 2011
منصف المرزوقي: تونس من "الجملوكية" إلى الجمهورية – فهمي هويدي – المقال الأسبوعي
http://fahmyhoweidy.blogspot.com/2011/12/blog-post_20.html
يعتبر الدكتور منصف المرزوقي نفسه أول رئيس جمهورية حقيقي في تونس، حيث يرى أن النظام الذي ساد في البلاد منذ الاستقلال (1956) كان «جملوكيا». لأن كلا من بورقيبة وبن علي كان ملكا في زمانه. هذا آخر حوار معه قبل أن ينتقل إلى قصر قرطاج.
(1)
لم أستغرب ما قاله بعد اختياره رئيسا للجمهورية، حين أعلن أن الانفلات والفوضى إذا لم يتوقفا في تونس خلال ستة أشهر، فإنه سوف يستقيل من منصبه، معتبرا أن ذلك يدل على أن رئاسته لم تنجح في إعادة الاستقرار إلى البلاد التي لا تحتمل ظروفها استمرار وضع من هذا القبيل.
حين سألته عن سبب مبادرته إلى إعلان هذا الموقف فور توليه السلطة قال إنه أراد أن يكون صريحا وواضحا وأن يحذر الجميع من استمرار الفوضى التي وصفها بأنها بمثابة «انتحار جماعي» للتونسيين. ضرب لذلك مثلا بقضية البطالة التي تعد قنبلة اجتماعية شديدة الانفجار لا تحتمل البلاد تداعياتها، وهو يشرح فكرته قال إنه كان في تونس قبل الثورة نصف مليون عاطل، وبعد الثورة توقفت حركة السياحة تقريبا فارتفع العدد إلى 700 ألف.
وإذا استمر الوضع كما هو عليه فإننا سنفاجأ في النصف الأول من السنة الجديدة بأن لدينا مليون عاطل في بلد تعداد سكانه عشرة ملايين نسمة، وحين يحدث ذلك فإن القنبلة التي أحذر من وجودها ستكون قد انفجرت بالفعل.
في رأيه إن تدوير عجلة الاقتصاد ومن ثم حل مشكلة البطالة هي المهمة العاجلة وواجب الوقت. وهناك مهمة أخرى موازية تتمثل في القطيعة مع النظام السابق التي يرى أن أولى خطواتها تتمثل في إعادة النظر في أدوات ذلك النظام الذي اعتمد طول الوقت على الأجهزة الأمنية التي كان القضاء عونا لها، بحيث يمكن القول إن الأجهزة الأمنية كانت ذراع النظام وإن القضاء كان ذراعا للأمن.
وكانت النتيجة أنه تم تدمير هذين المرفقين، بحيث بات إصلاحهما ورد الاعتبار إليهما من أولويات النظام الجديد الذي نريد له أن يكون جمهورية ديمقراطية حقيقية، وليست مغشوشة أو مزيفة كلما كانت في السابق.
كان الدكتور المرزوقي هو من ابتدع مصطلح «الجملوكية» أثناء إقامته في فرنسا التي استمرت 15 عاما. وأراد به أن يصف الوضع في تونس الذي اعتبره جمهوريا في مظهره وملكيا في جوهره. «فبورقيبة كان رجلا وطنيا له إيجابياته لكنه عاش ملكا على البلاد طوال ثلاثين عاما، انفرد خلالها بالسلطة ولم يسمح بأي تداول لها. أما خلفه بن علي الذي لم يختره أحد، ولكنه اختطف السلطة في عام 1987 إثر انقلاب طبي بوليسي، فإنه أوغل في ملكيته ولم تكن له طوال فترة حكمه التي استمرت نحو 23 عاما إيجابية تذكر، حيث حول البلد إلى مخفر كبير». عند هذه النقطة قاطعته متسائلا: لهذا السبب قلت عنه لا يصلِح (بكسر اللام)ولا يصلُح بضم اللام.
عندما سمع العبارة مني لمعت عيناه من وراء نظارته التي لا يخلعها إلا وقت النوم، وعلت وجهه ابتسامة عريضة ثم قال: هذه العبارة أفقدت بن علي أعصابه. ثم استرخى في مقعده وراح يشرح قصة ما جرى آنذاك.
(2)
كان الدكتور المرزوقي (66 سنة) قد حصل على شهادة الدكتوراه في علم النفس من فرنسا. ولأنه كان مهجوسا منذ وقت مبكر بالفقراء والمستضعفين، ومعجبا بالمهاتما غاندي فقد أهله ذلك للفوز في مسابقة عالمية للشبان (عام 1970) بمناسبة مئوية الزعيم الهندي، ومكنه ذلك من أن يقضي شهرا في الهند مدعوا من حكومتها. وبعد عودته بوقت قصير سافر إلى الصين لمعاينة تجربة الطب الشعبي هناك، وهي الخبرة التي حاول أن ينقلها إلى بلاده بعدما عاد إليها وعين أستاذا مساعدا في قسم الأعصاب بكلية الطب في جامعة تونس، لكن نظام بن علي أوقف مشروعه.
وهو في الجامعة ذاع صيته بعدما صار طرفا في الحوارات السياسية والفكرية في تونس، وأدرك أنه لا حل لمشكلة البلاد إلا بزوال النظام الحاكم، فقرر أن يتحدى بن علي وقدم أوراق ترشيحه للرئاسة في عام 1994.
كان يعلم جيدا أنه لن ينجح، وقال إنه أراد فقط أن يكسر هالة الخوف من منافسته. لكن ذلك أدى إلى اعتقاله، حيث أمضى أربعة أشهر في زنزانة انفرادية. ولم يطلق سراحه إلا بعدما نظم عارفوه حملة دولية لإطلاقه باعتباره سجينا سياسيا، الأمر الذي دفع نيلسون مانديلا المناضل الجنوب إفريقي للتوسط في ذلك.
لم تلن قناة الدكتور منصف الذي يعتز بانتمائه إلى أهل الجنوب المشهود لهم بقوة المراس، فأسس مع بعض زملائه المجلس الوطني للحريات في عام 1997، في مناسبة الذكرى السنوية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وكان تأسيس الجمعية التي كان أول رئيس لها، خطوة باتجاه تحدي نظام بن علي وأجهزته الأمنية الجبارة، بعدما سبق أن تحداه شخصيا في الانتخابات الرئاسية. ومنذ ظهرت الجمعية إلى الوجود دخلت معاناته طورا جديدا، حيث لم يسلم من الملاحقة والمصادرة، حتى اضطر إلى مغادرة البلاد حيث اختار باريس منفى له، التي عمل بها محاضرا بجامعتها.
من باريس واصل الدكتور المنصف معركته ضد بن علي ونظامه، حيث ظل حاضرا في كل محفل وفاضحا لسياساته في كل مناسبة. وفي عام 2006 ظهر في أحد البرامج على شاشة قناة الجزيرة حيث دعا إلى العصيان المدني في تونس، وقال قولته التي اشتهرت آنذاك، وأعلن فيها أن نظام بن علي لا يصلِح ولا يصلُح. وحين ترددت مقولته مدوية في الفضاء التونسي، لم يتمالك بن علي نفسه وقرر قطع العلاقات الدبلوماسية مع قطر بسببها.
عاد اللمعان إلى عينيه ولم تفارق الابتسامة وجهه وهو يختم القصة قائلا:
لم أتصور أن ذلك الصًنَم الكبير بتلك الهشاشة والضعف، وتأكد لي ذلك حين لم يحتمل الرجل المظاهرات التي خرجت تندد بنظامه، فسارع إلى الهروب إلى السعودية.
(3)
قلت إن البعض لم يستوعب تركيبة الحكم في تونس التي تحولت إلى «ترويكا» بين الإسلاميين واليساريين والقوميين. فعلق على ذلك قائلا:
لعلك لاحظت أن أغلبية الشعب التونسي صوتت إلى جانب أهل الاعتدال من كل الاتجاهات، إذ وجدهم الناس يعبرون عن المزاح التونسي الحقيقي. ولا مفر من الإقرار بأن ما يسمى بالترويكا هو ثمرة تفاعل حقيقي بين قادة الأحزاب الثلاثة (النهضة ــ المؤتمر من أجل الجمهورية ــ التكتل من أجل العمل والحريات).
هذا التفاعل الذي نضج خلال حوارات معمقة أجريناها في فرنسا، قام على ركنين أساسيين
أولهما تحدي استبداد نظام بن علي الذي كان خصما للجميع.
أما ثانيهما فقد تمثل في تحديد القواسم المشتركة بين حزبنا (المؤتمر) وبين الحزبين الآخرين (النهضة والتكتل).
وحين توافقنا على ما هو مشترك بيننا ونحينا خلافاتنا جانبا، كان من اليسير أن نتقدم بعد ذلك سواء في مواجهة بن علي ونظامه أو في انتخابات الجمعية التأسيسية.
قلت هذه نقطة تحتاج إلى مزيد من الإيضاح، لأنها تمثل مشكلة في مصر لم تحل.
قال: كان اتفاقنا حول هوية تونس العربية والإسلامية، حيث قلنا إن موضوع هوية البلد ليس مطروحا للمناقشة. اتفقنا أيضا على أن الديمقراطية هي أساس النظام السياسي الذي ننشده، وأن احترام الحريات العامة وحقوق الإنسان في القلب منها أمر بدوره ليس مطروحا للمناقشة والاجتهاد. فنحن جميعا ملتزمون بها إلى أبعد الحدود.
قلت: كانت تونس منذ الاستقلال تعتبر نفسها بلدا علمانيا، وكان بن علي يتكئ على ذلك في إصراره على قمع المعارضين الإسلاميين.
اعتدل الدكتور المرزوقي في مقعده وقال: كلامك يذكرني بما حدث معي أثناء رئاستي للمجلس الوطني للحريات. ذلك أن بن علي كان قد اشتد في محاربة الإسلاميين حتى بدا وكأنه قرر القضاء عليهم كليا. وهو ما عارضته وانتقدته في بيانات صدرت آنذاك سببت لنا متاعب كثيرة. إلا أنني فوجئت ببعض الشيوعيين وغلاة العلمانيين يطلبون مني أن أتجنب نقد النظام في هذه المسألة، بدعوى أن القضاء على الإسلاميين هو في النهاية لمصلحتهم، حيث سيخلي الساحة لهم. وهو ما أدهشني، لأنني أعتبرته موقفا انتهازيا وغير أخلاقي، وأصررت على موقفي، حتى أن ذلك كان أحد أسباب استقالتي من رئاسة المجلس.
في التعليق على ملاحظتي قال إن مشكلة العلمانية في تونس أنها متأثرة بتراثها الفرنسي المخاصم للدين، وهو ما يرفضه المجتمع التونسي الذي عاقب الشيوعيين بشدة في الانتخابات الأخيرة. (حصلوا على ثلاثة مقاعد فقط). ونحن في تونس لا نريد أن نفرط في أمرين نعتبرهما من الثوابت التي يقوم عليها المجتمع. هما الدين والحرية. وقد بينت نتائج انتخابات الجمعية التأسيسية أن الأغلبية الساحقة أيدت ذلك الموقف.
(4)
حين تطرقنا إلى موضوع السياسة الخارجية كانت لديه ملاحظتان.
الأولى أن الشأن الداخلي هو الشاغل الأساسي للنظام الجديد في الأجل المنظور.
الثانية. أنه شخصيا ليست لديه مشكلة مع الغرب (أشار بين قوسين إلى أنه لم يطلب اللجوء السياسي حين ذهب إلى منفاه في فرنسا)، لكنه يفرق بين ثلاثة مستويات للغرب.
غرب الأنظمة وهو قبيح ويرتبط في الأذهان بالاستعمار ودعم الأنظمة الديكتاتورية،
وغرب القيم والتكنولوجيا الذي لنا أن نتعلم منه كما تعلم منا.
ثم هناك غرب المجتمعات المدنية الذي اعتبره حليفا لنا وصديقا، ومن العبث والغباء وضعه في سلة واحدة مع غرب الأنظمة.
قلت قرأت لك تفرقة بين الدولتين الديمقراطية والليبرالية، انحزت للأولى وانتقدت الثانية. قال: هذا صحيح، فأنا أعتبر الدولة الديمقراطية هي دولة الخدمات التعليمية والصحة والضمان الاجتماعي والحريات الفردية والجماعية. ثم إنها دولة ترتبط بالمجتمع بعلاقة تعاون، وتخضع للقانون الدولي ولا تعتدي على أحد. وهي خصائص متوافرة في الدول الاسكندينافية.
أما الدولة الليبرالية التي تعد الولايات المتحدة رمزا لها، فهي لا تعنيها الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للغالبية في شيء. ويعرف الجميع أنها رفضت دائما المواثيق الدولية للبيئة أو لحقوق الإنسان أو لتتبع جرائم الحرب، وتصدت لمبدأ التجارة العالمية لإنقاذ ثلث البشرية من الموت جوعا.
كما أنها تتدخل عسكريا في كل مكان من الأرض بدعوى حماية مصالحها غير المتناهية.
لم أر الدكتور المرزوقي مرة واحدة مرتديا ربطة عنق، حتى وهو يحلف اليمين عقب تنصيبه رئيسا للجمهورية. وحين سألت من حوله عن تفسير ذلك قالوا إن الرجل عاش في فرنسا نحو عقدين من الزمان (سنوات الدكتوراه + سنوات المنفى) لكنه ظل جنوبيا لم يتغير شيء في مظهره. حتى زوجته الفرنسية التي عاد بها من هناك طلقها أخيرا، بعدما أنجب منها بنتين، لكنه يستدرك على الملاحظة قائلا إنه «أنجب» أيضا 25 كتابا في الطب والأدب والسياسة. وليس واثقا من أن وجوده في قصر قرطاج سيمكنه من إضافة شيء إلى هذه «السلالة». وقد حاولت الاتصال به هاتفيا بعد حلف اليمين على الرقم الذي أعطانيه من قبل لأستطلع رأيه بعد ذهابه إلى قصر الرئاسة.
لكنني خلال ثلاث محاولات كنت أتلقى ردا واحدا يقول:
نشكرك لاستخدامكم شبكة تونسيانا. الهاتف الجوال المطلوب مغلق حاليا. الرجاء الاتصال لاحقا!