يوم الأرض ومخطط الجهض
أ. د. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
تحتفل دول العالم بيوم الأرض بغية العمل على تقليل عوامل تلوث الماء والهواء والتراب، أما حاملو الهوية وفيها في خانة الملة كان مكتوبا حتى بضع سنوات “عرب” فعندهم يوم أرض من طينة أخرى.
تصادف يوم الأحد الموافق لـ ٢٠١٤/٣/٣٠ الذكرى الثامنة والثلاثون لـ «يوم الأرض»، العيد القومي لفلسطينيي الداخل، رمز التشبث بتراب الوطن والاحتجاج الصارخ ضد التمييز العنصري المستشري عامّة. يوم الأرض، في الواقع، هو رمز تجذّر الإنسان الفلسطيني على تراب وطنه، أو قل على ما تبقّى منه من فتات أوصال.
في الثلاثين من آذار١٩٧٦ هبّت الجماهير العربية في إسرائيل، في الجليل والمثلث، مشاركة في إضراب ومظاهرات احتجاجا واستنكارا لقرار الحكومة الإسرائيلية الصادر يوم ١١ آذار ١٩٧٦ والقاضي بمصادرة قرابة مائة ألف دونم من الأراضي العربية في الجليل الأشمّ، أراضي الملّ. كان ذلك بعد إقامة ثلاث مدن تطوير يهودية ما بين الأعوام ١٩٥٧-١٩٦٤ وهي ”نتسيرت عيليت وكرميئيل ومعالوت” على أراض عربية أولاً وبغية تقطيع أواصر التواصل الجغرافي للقرى والبلدات العربية. خلال ذلك اليوم التاريخي قُتل ستة من المواطنين العرب وجُرح تسعة وأربعون شخصا واعتقل ثلاثمائة عربي، أما عدد المصابين من أفراد الشرطة والجنود فوصل عشرين. الضحايا الستّ: خير محمد سليم ياسين ابن ثلاثة وعشرين عاما من عرّابة وكان أول الشهداء، في التاسع والعشرين من آذار مساء، رجا حسين أبو ريّا ابن ثلاثين عاما من سخنين، خضر عيد محمود خلايلة ابن ثلاثة وعشرين عاما من سخنين، خديجة قاسم شواهنة ابنة ثلاث وعشرين سنة من سخنين، رأفت علي زهيري ابن واحد وعشرين عاما من مخيّم نور شمس في قضاء طولكرم واستشهد في الطيبة، محسن حسن سيد طه، ابن خمسة عشر ربيعا من كفر كنّا. وقد أقام أهالي طيبة بني صعب نصبا تذكاريا لرأفت في الساحة العامّة حيث تجري احتفالات ذكرى يوم الأرض فيها سنويا. في هذا السياق لا بدّ من التنويه بشيخة يوسف أبو صالح السخنينية التي لاقت حتفها في ١٩٧٦/٣/٣٠ في أرض الجميجمة بسبب استنشاق الغاز المسيل للدموع الذي أطلقه الجنود الإسرائيليون. كما وتمخّض عن ذلك اليوم جوّ من التمرّد وتحطيم جدار الخوف وانبلاج صحوة وعي وأزمة انعدام الثقة ما بين الوسط العربي والدولة وهذا ما كان يحذّر منه ويخشاه جهاز المخابرات العامة، ”الشاباك” وهو اختصار-شيروتي بيطحون كِلَلي- خدمات الأمن العام، انطلقت الشرارة الأولى للمواجهات في دير حنّا فعرابة فسخنين، مثلّث يوم الأرض. تحركت الشبيبة الشيوعية، التنظيم الشبابي الفاعل الوحيد آنذاك في الوسط العربي في البلاد. صدحت حناجر الشباب بالشعارات مثل ”جليلنا ما لك مثيل وترابك أغلى من الذهب، بالروح بالدم نفديك يا جليل”. ومما يجدر ذكره أن صاحب هذه التسمية ”يوم الأرض” كان المرحوم صليبا خميس (ت. ١٩٩٤)، أحد قادة الحزب الشيوعي الإسرائيلي والسكرتير الأول للجنة الدفاع عن الأراضي. استخدمت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ العام ١٩٤٨ وحتى يوم الناس هذا أساليب شتّى في الاستيلاء على المزيد من الأراضي العربية وهي من أعزّ الأمور للعربي، بغية إقامة المدن والقرى والكيبوتسات اليهودية لا سيما في الجليل حيث الأكثرية السكانية عربية. ويُعتبر الاستيلاء على الأراضي أحد الأهداف الهامّة والملحة للحركة الصهيونية منذ أواخر القرن التاسع عشر، منذ انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بال السويسرية العام ١٨٩٧، والشعار تهويد الأرض، أرض بلا شعب لشعب بلا أرض! إن أملاك العدو هي ملك للحكومة الإسرائيلية كما أعلن رئيس حكومة إسرائيل، دافيد بن غوريون البولوني الأصل، ١٨٨٦-١٩٧٢. فعلى سبيل المثال، تمّت مصادرة ١٢٠٠ دونم لإنشاء مدينة الناصرة العليا في أواخر الخمسينات من القرن العشرين و١٥٥٠ دونما لإقامة مدينة كرميئيل- كروم الله- (تمعّن في هذا الاسم) في أوائل الستينات من القرن ذاته. بناء على بعض المصادر فإن ما بين ٤٠%-٦٠% من الأراضي التي كانت بحوزة العرب وهي ٢،٤- ٣،٦ مليون دونم قد صودرت في الثامن عشر من تشرين الثاني عام ١٩٧٥. كما صودر في الفترة الواقعة ما بين العامين ١٩٤٨-١٩٧٢ أكثر من مليون دونم. وفي اليوم الأخير من شباط العام ١٩٧٦ صودر واحد وعشرون ألف دونم من أراضي عرابة وسخنين ودير حنا وعرب السواد، ضمن مخطّط تهويد الجليل. بمبادرة الحزب الشيوعي الإسرائيلي أقيمت لجنة الدفاع عن الأراضي في الخامس عشر من آب العام ١٩٧٥ في الناصرة وفي الرابع عشر من شباط عام ١٩٧٦ عقد مؤتمر شعبي بسخنين ضد المصادرة وفي السادس من آذار نفس العام اجتمعت لجنة الدفاع عن الأراضي بالناصرة وأعلنت الإضراب العامّ في يوم الثلاثاء الموافق في الثلاثين من آذار ١٩٧٦. يشار إلى أنه في الخامس والعشرين من نفس الشهر توجّه بعض رؤساء المجالس المحلية العربية الموالين للسلطة مطالبين بإلغاء الإضراب إلا أن طلبهم هذا لم يُقبل. لجنة المتابعة ما زالت حيّة تُرزق، تصرخ وتستنكر وتدعو للقيام بالاحتجاج والاستنكار والمظاهرات والمسيرات والاعتصامات في مناسبة يوم الأرض. كل هذا مطلوب لترسيخ الحدث في الذاكرة الفلسطينية الجماعية إلا أنه غير كاف. كتب شاعر فلسطين، محمود درويش (١٩٤١-٢٠٠٨):
أسمّي التراب امتدادا لروحي
أسمّي يدي رصيف الجروح
أسمّي الحصى أجنحة
أسمّي ضلوعي شجر
واستلّ من تينة الصدر غصنا
واقذفه كالحجر
أما الشاعر الفلسطيني الآخر، توفيق زيّاد (١٩٢٩-١٩٩٤) فكتب:
كأننا عشرون مستحيل
في اللد والرملة والجليل
هنا … على صدوركم باقون كالجدار
وفي عيونكم، زوبعة من نار
من الواضح أن الأقلام الأدبية العربية قد تفاعلت مع ما حلّ بعرب البلاد من مآس وأحداث مثل مجزرة كفر قاسم والنكسة وأكتوبر ٢٠٠٠، إلا أن ليوم الأرض كان القدح المعلى (أنظر ”مجلة الشعراء” ع. ١٢).
ومن يوم الأرض إلى مخطط الجهض فلا قيمة للأرض بدون أهلها ولا للأهل وطن دون الأرض والسيادة التامّة. في السادس من آذار العام ١٩٩٨ كشفت الصنّارة، صحيفة عربية تصدر في الناصرة منذ ١٩٨٣/٣/١٨ وصدرت في فترة ما مرتين أسبوعيا، يومي الثلاثاء والجمعة، عن مخطط مذهل في الستينيات من القرن العشرين رمى إلى تحديد النسل لدى العرب في إسرائيل. إلا أن ذلك المخطط أو المشروع لم يُصادق عليه في الحكومة الإسرائيلية وذلك إثر مداولات كثيرة إزاء توزيع وسائل لمنع الحمل. كان هدف الحكومة الإسرائيلية من وراء المشروع المذكور، كما لا يخفى على أحد، حلّ المشكلة الديموغرافية الناجمة عن التزايد الطبيعي الكبير لدى العرب الفلسطينيين في إسرائيل. ويُعتبر ذلك التزايذ، على ضوء بعض الإحصائيات، من أعلى النسب في العالم بأسره وعليه فقد خشيت منه الحكومة الإسرائيلية البنغوريونية واعتبرته خطرا أمنيا داهما لا بدّ من تلافيه. قامت الحكومة الإسرائيلية برئاسة بن غوريون وباستشارة الاختصاصيين بإعداد اقتراح حمل اسم ”السيطرة على الولادة لدى العرب” ليس من أجل رفاهية الأسرة العربية بل لتخفيض عدد أفرادها بقدر الإمكان. وقد أعلنت الصِنّارة بأن هذه الوثيقة في غاية السرية ولم تنشر بعد رغم تقادمها الزمني. ومما يجدر ذكرُه بأن الصحيفة كانت قد قدّمت استجوابا خطيا لثلاثة زعماء إسرائيليين بشأن المخطط آنف الذكر وهم: أولا: شمعون بيرس، رئيس حكومة سابق، مساعد بن غوريون وسكرتيره، مدير وزارة الدفاع آنذاك. ثانيا: يتسحاق نافون، رئيس دولة سابق، سكرتير ومقرّب لبن غوريون. ثالثا: حاييم يسرائيلي، موظف رفيع المستوى في وزارة الدفاع، وحصل العام ١٩٩٨ على جائزة إسرائيل على خدماته الجليلة من أجل أمن إسرائيل.
وقد ضمّ الاستجواب ثلاثة أسئلة وهي:
أولا: أصحيح أن حكومة إسرائيل قد أعدّت في الستينيات من القرن العشرين أو في أية فترة أخرى خطةً لتحديد النسل لدى العرب؟
ثانيا: أصحيح أن أساس الخطة هو توزيع حبوب منع الحمل للنساء العربيات؟
ثالثا : أصحيح أن عقاقير منع الحمل قد فُحصت حقّآ؟
لم يُجب أي واحد من هؤلاء الثلاثة خطيا على هذه التساؤلات. نافون اكتفى بإجابة شفوية مفادها: ”هذه القصة كذبة وفرية لا أساس لها من الصحة”. أما يسرائيلي فقال إن الأمر مختلف ولم يُفصح أما بيرس فلم يحرّك ساكنا. ومما يجدر ذكره بأن الصنارة قد اتصلت ببعض الموظفين الكبار في الدولة إلا أنهم احتدّوا غضبا واشتاطوا حنقا وقالوا إنهم كانوا خارج البلاد آنذاك في مهمات دبلوماسية ولا شأن أو صلة لهم ببني يعرب. وقد عُرف عن دافيد بن غوريون بأنه كان ”يتسلّى” ويطيب له التحدث والعمل من أجل تهويد العرب في البلاد أو ترحيلهم إلى أمريكا الجنوبية.
بعد الأرض والجهض مسلسل عُرض على القناة الأولى في التلفزيون الإسرائيلي في حينه بعنوان يمكن تعريبه ”النهضة” وذلك بمناسبة مرور نصف قرن من الزمان على قيام دولة إسرائيل وبالنسبة للعرب بداية النكبة. في إحدى حلقات هذا المسلسل يدور الحوار حول العرب في إسرائيل والمتحدّث فيها السيد نافون ذاته. واستناداً إلى تلك الحلقة يمكن القولُ بأنه كانت هناك خطة باسم ”حملة يوحنان” هدفت لترحيل العرب من الجليل إلى أمريكا الجنوبية. سافر نافون بنفسه إلى الأرجنتين في حينه لإبرام صفقة تبادل بين أراضي اليهود في ”مندوسا” وأراضي العرب في الجليل. إلا أن السيد نافون قدِ اكتشف أن مثل هذا المشروع غير واقعي. اليهود هناك في الأرجنتين كانوا بادىء ذي بدء فقط فلاحين وأن العرب هنا في الجليل لن يتهافتوا على الترحال والسفر إلى الأرجنتين.
جاء في مقدمة المذيع قبل تعليق نافون في الحلقة ما يلي: ”بعد قيام دولة إسرايل سنة ١٩٤٨ بقي في البلاد نحو مائة وخمسين ألف فلسطيني واعتبرتهم الزعامة الإسرائيلية وقادة الجيش ”لغما خطيرا أو طابورا خامسا وذوي ولاء مزدوج” وطُرحت أفكار مختلفة حول مصيرهم، واليوم كما يعلم كل صبي تعلو الأصوات المنادية بـ «لا جنسية بدون ولاء» (وفي الأصل العبري: בלי נאמנות אין אזרחוּת).
أخيراً وليس آخرا فإن «الصنّارة» قد نشرت قبل بضع سنوات خبرا من كتاب للسيد نور الدين مصالحة «أرض أكثر، عرب أقل» حول خطة إسرائيلية لعملية استبدال عرب جليليين بيهود أرجنتينيين وهذا ما يقرّ به نافون اليوم.
ختاما لا بد من الإشارة إلى أن عدد العرب في إسرائيل من المسلمين والمسيحينن والدروز في الوقت الراهن قرابة المليون والنصف، وهم يشكلون خُمس السكان تقريبا. يعيش العرب في ثلاث مناطق رئيسية، الجليل الشرقي والغربي والمثلث والبدو في الجنوب، ويشكل عدد أعضاء الكنيست، البرلمان الإسرائيلي، حوالي العُشر من المجموع الكلي للأعضاء وهو مائة وعشرون.
يبدو أننا لا نخطىء إذا ما قلنا إن هذه الأقلية العربية القومية فى إسرائيل هي الوحيدة التي كانت تحمل بطاقات الهوية الشخصية وفيها التعريف ”عربي” تحت بند ”الملّة”. كما ولهذه الشريحة البشرية أسماء وألقاب عديدة نذكر منها، على سبيل المثال، عرب ٤٨، عرب جوّا، عرب إسرائيل، العرب الإسرائيليون، عرب رغم أنهم إسرائيليون، الجوييم، المجتمع العربي الفلسطيني في إسرائيل، أبناء الأقليات، غير اليهود في إسرائيل، الحاضرون الغائبون، مواطنو الدرجة الثانية، عرب الخط الأخضر، (ينظر في: كي لا ننسى، ٢٥ عاما على يوم الأرض، إعداد خالد عوض، الناصرة، ٢٠٠١, ١١٢ ص.، الكتاب الأسود عن يوم الأرض، اللجنة القطرية للدفاع عن الأراضي في إسرائيل، حيفا ١٩٧٦، غازي فلاح، الجليل ومخططات التهويد، بيروت، ١٩٩٣. بعد يوم الأرض صدر تقرير بنفنيستي لعام ١٩٧٦ وبُعيد الهبّة في أكتوبر عام ٢٠٠٠ وسقوط ثلاثة عشر مواطنا عربيا صدر تقرير لجنة أور لعام ٢٠٠٢، ربع قرن من الزمان يفصل بينهما وكلاهما يسعيان لفهم ما جرى في الوسط العربي ودراسة سبل إعادة السيطرة المحكمة على الأقلية العربية القومية في البلاد. يبدو لنا أن لسان حال هذه الأقلية بغالبيتها الكاسحة.
هذا وطنّا واحنا هون، والسـؤال الجوهري طبيعة حياتهم في دولة ”يهودية وديمقراطية” كما تدعي وهل الضدان يجتمعان؟ أحقاً لا يضيع حق وراءه مطالب؟