كلمة عن بافو رُوتسالاينن، الواعظ الفنلندي الشهير )١٧٧٧/٧/٩- ١٨٥٢/١/٢٧
حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
كان بافو )Paavo (Påhl) Henrik Ruotsalainen( الابن الأكبر لوالدين فلاحين عاشا في شرق فنلندا وهو زعيم حركة لوثرية إنجيلية نهضوية تدعى باسم “اليقظة” )herännäisyys/körttiläisyys, awakening( في مناطق ساڤو وأوستروبوثنيا
وكاينو )Savo, Kainuu, Ostrobothnia( في فنلندا، وهو الشخص الذي أثّر على الحياة المسيحية في فنلندا في تاريخ الكنيسة الحديث أكثر من أي إنسان آخر. جاء بافو بعد الزعيم الأول لهذه الحركة Juhana Lustig )١٧٧١-١٨٣٣( . ما زال بيته الخشبي وما شيّد فيما بعد في جزيرة أهولا )aholansaari( بالقرب من مدينة نيلسيا محطّا للزوار والفعاليات الدينية المختلفة. تلقّى بافو نسخة من الكتاب المقدّس عندما كان ابن ستّ سنوات ويوم حصوله على التثبيت، المناولة الأولى )confirmation(، كان قد قرأ كلّ الكتاب المقدّس ثلاث مرّات. أطلقت عليه كنية “بافو الأحمق” لانهماكه الشديد بكلمات الكتاب المقدّس.
عندما سمع عن القسيس، يعقوب هيچمان )Jakob Högman( في مدينة يڤاسكيلا توجّه إلى هناك مشيا، حوالي ٢٠٠ كم. كانت زيارته تلك بمثابة أساس حياته الدينية. وعرف عن هيچمان نهمه في قراءة الكتيّب الديني “اختيار قطرة من العسل” لتوماس
ويلكوكس )Thomas Wilcocks, 1621- 1678( المعمداني، الذي ترجم لعدة لغات مثل الصينية والفنلندية والألمانية وأوشيندونغا والسويدية، وأهدى نسخة منه لبافو، وقد احتلّت مكانة مرموقة عنده طوال حياته. كان هيچمان قد أوضح لزائره أن أهمّ ما ينقصه بالفعل، أقصى درجة من الفقر الروحي حيث يجلب المسيح فقط الرحمة.
الجدير بالإشارة أن رُوَتْسالاينن لم يتلق أية تربية دينية رسمية، إلا أنه استطاع أن يطوّر الأفكار اللوثرية الأساسية لتتلائم مع المحيط الطبيعي القاسي في الشمال وتغيّر المجتمع المتسارع. جوهر تعليمه يقول في الحياة الروحية يستطيع الإنسان فقط أن يكون متسلما لرحمة الله. على المرء أن يلتزم ويتوق لله ليتجلّى له. من دعائم تلك اليقظة: عظمة الله؛ خطيئة الإنسان؛ قوّة الإيمان لدى الفرد وتشجيع الناس لاتّباع المسيح؛ التبشير بالإنجيل بطريقة سهلة تناسب مستوى الشعب؛ قَبول رسم القسيسات؛ التأكيد على حياة هادئة وبسيطة وتحمّل المسؤولة في المجتمع؛ العدالة الاجتماعية أمر هام في المجتمع الفنلندي. عدم جدوى جهود الإنسان في الحصول على الخلاص. الإيمان والخلاص من عمل الله والروح القدس فقط وكما قال مارتن لوثر )١٤٨٣-١٥٤٦( sola gratia. من الممكن تلخيص فكر روتسالاينن بأنه مزيج من حكمة شعبية قديمة، من اللاهوت ومن تقاليد مسيحية قديمة. امتاز تفكيره بالأصالة والطزاجة والعنف والقساوة. كما ودأب على التشديد على المصداقية والاستبطان، سبر الأغوار. في رأيه من الأفضل للإنسان أمام الرب أن يعترف بنقص الإيمان أو حتى بغيابه كلية من فرض العقيدة الدينية. كان يقول في نصائحة للروح الباحثة، لا بدّ من التوجّه لله بغض النظر عن طبيعة الأحاسيس والمشاعر. في خضمّ الحزن واليأس على الإنسان الاستمرار في الدعاء لله، والله سيستجيب بطريقته هو. انتهج روتسالاينن ذلك التقليد اللاهوتي القديم القاضي بالتركيز على ماهية الله وكيفية تصرّفه بدلا من تلك العادات والتقاليد التي تولي جلّ الاهتمام بحياة المؤمن الروحية. في نظر هذا الواعظ والمزارع، الإيمان هبة من عند الله ولا يتسنّى للإنسان الحصول عليه بمفرده وبقواه الذاتية. عارض بضراوة المتزمتين الذين شدّدوا على سلوك مسيحي معين، من المعروف عنه أنه احتسى لترين من المشروبات الروحية في ساحة مدينة ميكّيلي. بهذا العمل أراد بافو أن يُُظهر أن الإيمان يعلو على العمل والتصرّف وأن الكل خطاة ولا أحد أحسن من الآخر والكل سينجو بفضل الرحمة الإلهية فقط.
ومما تمخّضت عنه هذه “اليقظة” عقد اجتماعات صغيرة وقصيرة غير رسمية لأناس عاديين من أجل طرح مواضيع دينية وبحثها من قبل جميح الحضور في جو هادىء وودي، شيء شبيه باليشيڤا اليهودية. تتخلّل هذه اللقاءات ترانيم صلواتية وبعض الكلمات التفسيرية الإيضاحية. أجريت تلك اللقاءات في البداية في بيوت خاصّة ثم في قاعات الكنائس وأماكن أخرى. تستهلّ هذه اللقاءات بتناول القهوة وتنتهي بالحديث عمّا يرغب فيه المشتركون. حظيت التوبة والصلاة بقسط وافر من تلك اللقاءات والمواعظ.
مواعظ روتسالاينن غزت قلوب آلاف المستمعين لأنّها نبعت من قلب صادق وعبّر عنها بلغة حيّة مباشرة، لهجة إقليم ساڤو، ونجح في تغيير حيوات الآلاف من سكّان القرى والريف (: أنظر: E. F. Juurmaa, Kristuksen sisällinen Tunto. Paavo Ruotsalaisen sanoja, Helsinki 1948 أي: الشعور الداخلي بالمسيح، كلمات بافو روتسالاينن إلخ. ) شعاره كان: “الإنسان لا شيء، الله كل شيء”( وهنالك أطروحة دكتوراة عن هذا المزارع الواعظ
بالفنلندية:ُ Tapani Ruokanen, Talonpoikain Paavo Herrättäjä Ruotsalainen. Porvoo-Helsinli-Juva, 1989، ٣٦٨ ص. (.
كان روتسالاينن يجول مشيًا، تزلجًا، ممتطيًا صهوة حصانه، في أرجاء فنلندا للقاء أعضاء في حركته، لا سيّما القسيسَين يوناس لاچوس ونيلس چوستاڤ مالمبرچ في شمال غرب فنلندا، إلا أن القسيس الثاني آنفصل فيما بعد عن الحركة. هنالك تقديرات تقول إن المسافة التي قطعها بافو غالبا سيرا على الأقدام بلغت حوالي أربعين ألف كيلومنر وكثيرا ما كان يترك زوجته وابنه في البيت بدون لقمة سائغة للعيش. بعد انتشار هذه الحركة “اليقظة” في أوساط الفلاحين أخذت الكنيسة وسلطات الدولة تشعر بالقلق وفي العام ١٨٣٨/٩ حوكم بافو وغرّم ولكن عزيمته لم تثبط. آثار طريقته الوعظية وما نادى به من مبادىء وأسس ما زالت ماثلة للعيان لا سيّما في الاحتفال السنوي الموسوم بـ”عيد أهل اليقظة/الصحوة” )Herättäjäjuhlat( المنعقد في شهر تموز ويشترك فيه قرابة الثلاثين ألفا في عدة مدن. ويعتبر هذا الاحتفال مصدر دخل هام للحركة وهنالك بعض المدارس للحركة في مدن كثيرة كيڤاسكيلا وتوركو وكياني. ورد في إحصاء أجري قبل أربع سنوات أن ٤٨٪ من رجال الدين اللوثري الفنلندي اعترفوا بتأثير فلسفة “اليقظة” على تفكيرهم وأن ٢٨٪ مهنم كانوا منتمين لها. كما وجذبت هذه الحركة فنّانين وأدباء إليها وتمثّل ذلك في مسرحيات وفي الأوپيرا، بالرغم من موقفها التقليدي المعادي للثقافة. وكان الملحّن الفنلندي، يوناس كوكّونن)١٩٢١-١٩٩٦( قد أنتج أوپيرا بعنوان “الإغراءات الأخيرة” وهي تعكس حياة روتسالاينن. ومن الكتّاب يمكن ذكر Juhani Aho )١٨٦١-١٩٢١( الذي نما وترعرع في الحركة وكانت موضوع الكثير من رواياته وقصصه.
منظّمة “حركة اليقظة” تعمل تحت كنف “جمعية اليقظة” ويعمل فيها عشرون شخصًا معظمهم قساوسة ووعاظ، ومركزها في مدينة لاپوا في غرب فنلندا، وترأستها في عام ٢٠١٠ امرأة باسم Kaisa Rönkä وهي الامرأة الأولى التي تقلّدت مثل هذا المنصب في فنلندا. كما وتنشر هذه المنظّمة دوريتها الروحية ودوريات أخرى والكتب والموسيقى وتنظّم احتفالات التثبيت في جزيرة أهولا في مدينة نيلسيا، منزل روتسالاينن. يذكر أن مؤيدي حركة اليقظة ساهموا فعلا في إنشاء جمعية التبشير الفنلندية.