الصدى‘ بقلم جريس عوّاد’
عرض ومراجعة
حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
جريس عوّاد (جامع وصائغ بتصرّف)، الصدى، مئة قصّة وقصّة، قصص قصيرة ذات مغزى. الناصرة: الياس عوّاد م. ض. طبعة ثانية مزيدة ومنقّحة، تموز (يوليو) ٢٠٠٩، ١٧٢ ص. من القطع المتوسّط. قدّم له القاضي المتقاعد خليل عبود، وظهّر له المحامي وليد الفاهوم، والدكتور خالد تركي.
هذا الكتاب هو باكورة أعمال المهندس المدني النصراوي، السيّد جريس عوّاد، تبعته خلال مدّة قصيرة، ثلاثة كتب وهي:
أ) مورد الأمثال، مئة مثل ومثل. الناصرة: إلياس عوّاد م. ض.، ط. ١، ٢٠١٠، ط. ٢، ٢٠١١، ١٤٥ ص. من القطع المتوسّط. قدّم له الأستاذ فتحي فوراني وظهّر له الكاتب والإعلامي نادر أبو تامر.
ب) 101 Expressions and Terms تعابير ومصطلحات، مصادر ومعاني (هكذا في الأصل! لم أوفّق تقنيًّا في وضع الرقم 101 قبل أوّل كلمة إنجليزية كما في الأصل)، الناصرة: إلياس عوّاد م. ض.، ط. ١، ٢٠١٠، ط. ٢، ٢٠١٢، ١٩١ ص. من القطع المتوسّط. [لا أدري ما الداعي لإضافة عنوان بالإنكليزية هنا، فهو لا يتماشى وما بعده بالعربية. المقصود: مائة وواحد من التعابير والمصطلحات أو: مائة تعبير وتعبير/ومصطلح، على منوال عناوين كتبه الأخرى، وهي تذكّر القارىء بالاسم - ألف ليلة وليلة]. قدّم له الشاعر رشدي الماضي، المهندس جريس عوّاد، معدّ الكتاب وصائغه، وظهّر له الدكنور حبيب بولس.
جـ) إبداعات وشخصيات. باقة من أجمل الأقوال المأثورة ونُبَذٌ عن سِيَر قائليها. الناصرة: إلياس عوّاد م. ض.، ط. ١، ٢٠١١، ط. ٢، ٢٠١٢، ٣٦٨ ص. من القطع المتوسّط. قدّم له الكاتب والروائي محمد علي طه والمهندس جريس عوّاد، معدّ الكتاب وصائغه، وظهّر له حنّا أبو حنّا.
أوّل ما يلاحظه الباحث، هو غزارة نتاج السيّد جريس عوّاد، قرابة التسعمائة صفحة في غضون سنوات قليلة، وصدور طبعة ثانية، وهذه ظاهرة نادرة في العالم العربي، بالرغم من عدد النسخ المحدود عادة في كلّ طبعة. لا شكّ في أنّ هذا النتاج التنويري الترشيدي، هو ثمرة يانعة لجهود دؤوبة ومخلصة في المطالعة الجادّة، والبحث عن الجديد والمفيد، الجميل والممتع، في شتّى مجالات العلم والمعرفة الإنسانية.
ممّا لفت انتباهي في البداية أيضًا، الجملة الأولى في تقديم القاضي عبّود ”أحب اللغة العربية الجميلة، بل اعشقها، ولكني عندما أقرأ مادة تظهر وكأنها ليست بالأدب، عندها أهتم بالمضمون.“ (ص. ٩). هذا لا يعني أن الكاتب لا يهتمّ بالمضمون في الكتابات الأدبية، بل المقصود، في تقديري، إيلاء المحتوى الاهتمام الأكبر في الموادّ غير الأدبية. ويحضرني هنا رأي اللغوي المعروف، أبي الفتح عثمان بن جني (ت. ١٠٠٢م.)، في خصائصه، بشأن العلاقة بين الألفاظ والمعاني. كرّس ابن جنّي لهذه العلاقة الهامّة بابين معنونين بـ ”باب في الردّ على من ادّعى على العرب عنايتَها بالألفاظ وإغفالها المعاني؛ باب في قوّة اللفظ لقوّة المعنى“. وممّا يقوله ابن جنّي هناك باقتضاب شديد: هذا الباب من أشرف فصول العربية؛ المعاني عند العرب أقوى من الألفاظ؛ العناية بالألفاظ تخدم المعاني؛ الوعاء السليم يحفظ ما فيه؛ هناك نصوص شريفة الألفاظ رفيعتها ولكنها مشروفة المعاني خفيضتها [هذا البنط منّي]؛ العرب تحلّي ألفاظها وتدبجها وتشيها، وتزخرفها، عنايةً بالمعاني التي وراءها؛ الألفاظ خَدَم للمعاني، والمخدوم - لا شك - أشرفُ من الخادم؛ غلبة المعنى للفظ، وكون اللفظ خادما له، مُشيدا بهِ، وأنه إنما جيء بِه له، ومن أجلهِ؛ فزادوا في اللفظ لزيادة معناه؛ تكثير اللفظ لتكثير المعنى؛ فإذا كانت الألفاظ أدلة المعاني، ثم زيد فيها شيء أوجبت القسمة له لزيادة المعنى به؛ [أُنظر: الخصائص تأليف أبي الفتح عثمان بن جنّي، حققه محمّد علي النجّار، الأستاذ بكلية اللغة العربية. الجزء الأول. بيروت: دار الهدى للطباعة والنشر، ط. ٢، ١٩٥٢، الباب ٣٣، ص. ٢١٥-٢٣٧؛ ج. ٣، ص. ٢٦٤-٢٦٩].
كتاب ’الصدى‘ قد نُقل حتّى الآن إلى أربع لغات، العبرية، الإنجليزية، البلغارية (بعنوان معناه: الهدية المخفية) والمكدونية؛ كما قُدّم مسرحية من انتاج مسرح إنسمبل فرينج في الناصرة. هناك دلائل واضحة تشير إلى رواج هذا الكتاب في البلاد وفي بلغاريا، وبخاصّة على ما يبدو، في أوساط الشباب، أمل المستقبل، إذ لا نكشف سرًّا إذا ما قلنا إنّ أمّة إقرأ لا تقرأ وإن قرأت فبالأذنين. رواج مثل هذه الأعمال التثقيفية، بعكس رواج كتب الطهي والدين والجنس، تنمّ في تقديري عن ظمأ معرفي فكري جدّي لدى القرّاء، ولا سيّما، الأجيال الصاعدة التي تتعرّض لموجات جارفة من الصرعات الاجتماعية المتواترة. والسيّد عوّاد، يُهدي هذا الكتاب أيضًا إلى الباحثين عن الحكمة كتمهيد للسعادة، وكشمعة لإنارة الطريق، وصنّارة لالتقاط البسمة.
بين دفتي ’الصدى‘، وهو أيضًا اسم القصّة الثامنة ص. ٢٧-٢٨، مائة قصّة وقصّة قصيرة بمعدّل صفحة ونصف لكل واحدة، كلّها مجهولة المؤلِّف باستثناء اثنتين، على ما يبدو، بعضها عربي الأصل والبعض الآخر أجنبي. يصرّح السيّد عوّاد في مقدّمته أنّه قام ”بصياغة معظمها، مع بعض التصرّف، لتصبح بقالب أدبي ولغوي جميل“، كما ترجم بعض القصص من لغات أخرى. لا يعرف القارىء أيّة قصص طالها قلم عوّاد، ولأيّ مدى عدّل في النصّ الذي اعتمده، وهل كان مشمولًا في كتاب أم على الشبكة العنكبوتية. كما لا يعلم القرّاء ما هي القصص المترجمة إلى اللغة العربية ومن أية لغة/لغات نُقلت. بإيجاز شديد، لا نتكلّم هنا عن دراسة علمية أكاديمية موثّقة بل عن مائة قصّة وقصّة قصيرة اختارها السيّد عوّاد. وثمة حكمة أحاول جهدي السير على هديها منذ زمن طويل، يذكرها عوّاد في مقدمته ”اللهم أعطني القوة كي أقبل ما لا يمكن تغييره، والشجاعة كي أجرؤ على تغيير ما يمكن تغييره، والحكمة حتى أميّز بينهما“. ينسب عوّاد هذه الحكمة إلى المفكّر ب. هـ. ليدّل هارت (B. H. Liddell Hart, ت. ١٩٧٠) في حين أن بعض المصادر تذكر أنّها بمثابة دعاء فيلسوف إغريقي (أنظر مثلًا: http://www.jamaliya.com/printPage.php?id=745) ومصادر أخرى كالوكيبيديا تنسبها للاهوتي الأمريكي راينهولد نيبور (Reinhold Niebuhr1892-1972).
لجميع القصص تقريبًا غايات نبيلة وعِبر سامية، فهي عُصارة تجارب الشعوب على مرّ الأزمنة والعصور؛ وهي تصبّ في إطار الحقول الدلالية التالية: الصِّدق والصداقة، الكرم، الإخلاص، الصبر والمثابرة، الوفاء، التسامح، العدل، الاتّحاد قوّة، القناعة، الحبّ، السعادة رحلة لا محطّة، حريّة الاختيار، التريّث، التركيز على الجانب الإيجابي، قدوة للغير، فرز الغث عن السمين، القناعة، الأمل، الحذق والفطنة، الحكمة، الخير والشرّ، النجاح، تطوير الذات، الخطيئة، إبدأ بنفسك فالتغيير يبدأ من الداخل، عدم الاتّكال على الغير، عدم الأنانية ومساعدة الغير، رحابة الصدر، الواقعية، العاطفة، الدفء العائلي، الطمع، تضحية الأمّ، داو السبب قبل النتيجة، الفعل لا القول، المعاملة الحسنة والكلام الطيّب. لا عجب إذن في أنّ عيّنات من هذه القصص قد اقتبسها معلمو ومعلمات بعض المدارس في البلاد، كما أظهر لي المحرّك المعطاء والضروري، غوغل. [أنظر:
https://sites.google.com/a/taiba.tzafonet.org.il/arabic/kalimat
https://sites.google.com/a/sisters.tzafonet.org.il/fourthgradec1/home/ahdth-tghyyr-ayjabya
من القصص التي تمتّعت في قراءتها: قصة صديقين (ترد في الشابكة تحت عنوان: حدوته مسيحية) ص. ١٥؛ حجارة حياتنا الكبيرة ص. ٢٩-٣٠؛ الأسوار والجسور ص. ٣٣-٣٤؛ الحمار الميت ص. ٣٨؛ كيف نواجه مصاعب الحياة؟ ص. ٤٦-٤٧؛ حمار الفلاح ص. ٤٨؛ بيدك أن تختار (ربّما من الأفضل القول: لك أن تختار) ص. ٥١-٥٢؛ دعوة ”الحب“ أم ”الثروة“ أم ”النجاح“؟ ص. ٥٥-٥٦؛ محادثة مع حكيم، ص. ٥٧- ٥٨؛ نعل الملك، ص. ٦٣؛ إدارة الغضب ص. ٦٤؛ ما أروع أن نسعد الآخرين، ص. ٦٨-٦٩ (كنت قد ترجمت هذة القصّة ونشرتها منذ أوائل هذا القرن تحت عنوان: النافذة، أنظر أدناه)؛ الصحن الخشبي والجد العجوز، ص. ٨٧-٨٨؛ الساحرة والزوجان، ص. ٩٩؛ ألأم التي تملك عينًا واحدة (يبدو نقلا عن الإنجليزية ومن الأفضل: الأم بعين واحدة)، ص. ١٠٣-١٠٤؛ دائمًا توجد طريقة للمساعدة، ص. ١٣٤؛ رائحة الكراهية، ص. ١٤٥؛ الغني والفقير، ص. ١٥٥؛ الزوجة والحماة، ص. ١٦٤-١٦٦ (أطول قصّة)؛ ”لعلُّه خير“، ص. ١٧٠. بضع قصص هذه المجموعة، كانت قد وصلتني إلكترونيا بالإنجليزية من أصدقاء، ومن موقع باسم سارة، وقد نقلتُها إلى العربية قبل سنوات عديدة، ونشرتها في منابر مختلفة على الشابكة.
لغة ’الصدى‘ وأسلوبه سليمان سلسان بصورة عامّة، يستسيغهما كلّ قارىء. مع هذا تجدر الإشارة إلى وقوع بعض الأخطاء والهفوات اللغوية، أنوّه هنا ببعضها حسب ورودها في الكتاب، على أمل تصحيحها في الطبعة الثالثة إن شاء الله. أعيد وأكرر ضرورة وجود مدقّق لغوي لدى كل دار نشر، وإلا فعلى صاحب الكتاب أن يدفع عمله للمدقق أوّلًا قبل طباعته. همزة القطع وهمزة الوصل: ص. ٩ س. ٩، ١٣- ٢٠، ص. ٣٤ س. ٤ من الأسفل؛ ص. ١٢ س. ٨ و ٩ من الأسفل: تحمل قيما وعبرا، أن هنالك عددًا؛ ص. ٢٤ س. ٥ من الأسفل؛ مكان تنوين الفتح قبل الألف، ص. ٣٨ س. ٣؛ ص. ٣٩ س. ٢ من الأسفل، سَبَحَ؛ ص. ٤٤ س. ٧، انهم من يجعلونكم؛ ص. ٤٦ س. ١١، القهوة المغلية، س. ١٥القهوة الغنية؟!؛ ص. ٤٧ س. ٤؛ ص. ٤٨ س. ٢ ربما عميقة بدلا من غائرة؛ ص. ٤٩ س. ٤ شاهدت، س. ١١ طالبًا؛ ص. ٥١ س. ٥ من الأسفل: الابنتان؛ ص. ٥٤ رفضوه ولن يعرفوا؛ ص. ٦٦ س. ٣ يملأونه؛ ص. ٦٩ س. ١٣جدارًا أصمَّ؛ ص. ٨٠ س. ٣ ابنتيه؛ ص. ٨٣ س. ٧ بدون باقٍ؛ ص. ٨٨ س. ٥-٦ فوق وجنتيها، الذي ينبغي (المصدر مصري؟)؛ ص. ٨٩ س. ٢ يملك أراضي شاسعة؛ ص. ٩٣ س. ٢، ٨ من الأسفل: التأمين، دولارًا؛ ص. ١٠١ س. ٢ الحُبّ مختفٍ؛ ص. ١٠٢ س. ٢، ٥ راعٍ، ليبعدوا؛ ص. ١٠٨ س. ٦ ربما تشذيب بدلا من تهذيب؛ ص. ١٤١ س. ٦ متخلّفًا؛ ص. ١٤٨ س. ٧ من الأسفل رؤيتِ إذا أردت التشكيل؛ ص. ١٤٩ س. ٥ طلبت مني، س. ٤ من الأسفل ويرون؛ ص. ١٦٧ س. ٦ وأخواته؛ ص. ١٧٠-١٧١ الإصبع والكأس عادة مؤنثتان. وأخيرًا لا بدّ من إيلاء موضوع الترقيم العناية الكافية وتشكيل انتقائي درءً للالتباس.
مع هذا، يستحقّ السيّد الكاتب والمهندس جريس عوّاد، كلّ الشكر والتشجيع على اختياره الموفّق وصياغته وإلى الأمام!
فيما يلي قصّتان نقلتهما من الإنجليزية ونشرتهما في مواقعَ عديدة على الشابكة منذ مستهلّ هذا القرن، القصّة الثانية وردت في كتاب الصدي تحت رقم ٣٥، ص. ٦٨-٦٩.
قصتان: شجرة المتاعب، النافذة
كنت قد تسلّمت هاتين القصّتين القصيرتين بالإنجليزية بالبريد الالكتروني، من صديق لبناني وارتأيت أن أنقلهما إلى اللغة العربية، ليطّلع عليهما الراغبون. في القصّتين مجهولتي المؤلِّف مِسحة عطرة من الحكمة البسيطة، والإنسانية العميقة نحو الغير.
شجرة المتاعب:
اكتريت نجّارًا لمساعدتي في ترميم بيت قديم في المزرعة. وبعد أن انتهى من يوم عمله المضني الأوّل، وجد أن إطارًا مفرّغا (منفّسا) من الهواء، قد أدّى إلى تضييع ساعة عمل، وكما أن مِنشاره الكهربائي تعطّل، وكذلك شاحنته الخفيفة والقديمة.
أرجعتُ النجّار بسيارتي إلى بيته، وكان صامتا كالحجر. عند وصولنا إلى بيته، دعاني للدخول والتعرّف على عائلته. وعندما توجّهنا نحو الباب الأمامي توقّف النجّار برهة قصيرة من الزمن بجانب شجرة، ولمس بكفّيه رؤوس الأغصان. وحال فتح الباب تحوّل النجّار بصورة غريبة. ولّى الوجوم والعبوس من على وجهه، وارتسمت ابتسامة عريضة على محياه، عانق ولديه الصغيرين وقبّل زوجته. بعد ذلك رافقني إلى السيارة، ومررنا بالشجرة ذاتها ولم أستطع كبت حبّ الاستطلاع، فنبق سـؤال عمّا رأيته يفعل من قبلُ.
آهٍ، هذه شجرة متاعبي، أجاب. أعلم أن لا مندوحة من مواجهة المتاعب والمصائب في العمل، إلا أنّ هناك أمرًا واحدًا مؤكّدًا، لا غبارَ عليه وهو: هذه المتاعب والمصائب، لا دخلَ لها في البيت مع زوجتي وأولادي. إنّي أُعلّق تلك الهموم على الشجرة كلّ مساء، عند عودتي إلى البيت. وفي الصباح، التقطها من جديد، ومن الطريف المضحك، أضاف النجّار مبتسمًا، عندما أخرج في الصباح لالتقط تلك الهموم والمتاعب، أجدها أقلّ عددًا مما تركت من قبلُ.
النافذة
مريضان يعانيان من مرض عُضال يقبعان في غرفة واحدة في المستشفى. كان يُسمح لأحدهما أن يجلس على سريره ساعة واحدة كل عصر، ليتسنّى له تفريغ السائل من رئتيه، وكان سريره بجانب النافذة الوحيدة في الغرفة. أمّا الرجل الآخر فكان عليه تمضية الوقت كلّه مستلقيًاعلى ظهره. تحادث الرجلان طوال ساعات وساعات من دون انقطاع، عن زوجتيهما وأسرتيهما، منزليهما ومهنتيهما، الخدمة العسكرية وأماكن الإجازة والاستجمام.
في كل يوم بعد الظهر، عند جلوس الرجل الذي بجانب النافذة، كان يقضي الوقت وهو يصف لجاره في الغرفة كلَّ ما كان ممكنًا رؤيته خارج النافذة. في مثل هذه الفترات ذات الساعة، كان الرجل المستلقي يحسّ بالحياة والبهجة تدبّان في كيانه، عند استماعه لما يجري من نشاط وتغيير في العالم الخارجي.
كانت النافذة تطلّ على حديقة عامّة، وهناك بحيرة جميلة، حيث يسبح البطّ والإوزّ، والفتية يطلقون مجسّمات القوارب على سطح الماء. عشّاق في عنفوان الشباب يتمشّون متشابكي الذراعين، وسط زهور ذات ألوان قوس قزح كافّة. أشجار ضخمة تضفي روعة وبهجة على المنظر، ومشهد جميل لأفق المدينة يتجلّى عن بُعد. وعند وصف الرجل الذي بجانب النافذة كلّ هذا بتفاصيل فاتنة، كان بميسور الرجل المستلقي في الجانب الثاني من الحجرة، أن يُغمض عينيه ليتخيّلَ تلك المناظر الخلابة الأخّاذة بكل مجامع الإحساس والشعور.
ذات عصر دافىء، وصف الرجل الذي بجانب النافذة عرضًا عسكريًا مرّ من هناك. وبالرغم من أنّ الرجل الآخر لم يتمكّن من سماع الجوقة الموسيقية، إلا أنّه كان في مقدوره أن يرى رؤية القلب، كلّ ما كان يسرده عليه الرجل الآخر بكل دقّة وتفصيل.
مضت أيام وأسابيع، وذات صباح، جاءت ممرضة لإحضار الماء للاستحمام، وإذا بالرجل الذي بجانب النافذة جثة هامدة. قضى نحبه بكل هدوء وسكينة، أثناء النوم. حزنت الممرضة عليه حزنًا شديدًا، ونقلت الجثة إلى مكان آخر في المستشفى. وفي أقرب فرصة سانحة، طلب الرجل الآخر أن يُنقلَ إلى السرير المحاذي للنافذة، فقامت الممرضة بتلبية تلك الرغبة، بكل ترحاب وسرور.
ببطىءٍ ووجع واضحين، اتّكأ الرجل على كوعه، ليلقي نظرته الأولى على العالم الخارجي، ليمتّع نفسه بما تراه عيناه. وإثر جهد جهيد تمكّن من إلقاء نظرة إلى الخارج، فارتطمت بجدار أبيضَ شاحب. سأل الرجلُ الممرضةَ ما الذي أرغم زميله المتوفّى لوصف كل تلك الأمور الجميلة، خارج هذه الغرفة. أجابت الممرضة قائلة إن ذلك الرجلَ، رحمه الله، كان ضريرًا ولم ير حتى ذلك الجدار. ثم أردفت قائلةً، ربّما أراد فقط أن يشجعك ويشدَّ على يديك.
الخاتمة
هناك سعادة عظمى في إسعاد الآخرين، رغم ظروفنا الخاصّة. الحزن المشارك فيه ينتصف، أما السعادة المشارك فيها فتتضاعف. إذا نويت أن تشعر بالغنى فعُدَّ كلَّ الأشياء التي بحوزتك والتي لا تُقتنى بمال!
Today is a gift, that’s why it is called the present
سمّي الحاضر حاضرًا لحضور هبة الله!