قِصص أبي جلال - خضوع وأجرُه بجانبه
Abū Ğalāl’s Stories - Surrender and its Wage is Included
ترجمة
ب. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
في ما يلي ترجمة عربية لهذه القصّة، التي رواها راضي بن الأمين صالح صدقة الصباحي [رتسون بن بنياميم تسدكه هصفري، ١٩٢٢-١٩٩٠، أبرز مثقّف سامري في القرن العشرين، مُحيي الثقافة والأدب السامريين في العصر الحديث، خبير بقراءة التوراة، متمكّن من العبرية الحديثة، العربية، العبرية القديمة والآرامية السامرية. جامع تقاليدَ قديمة، مُرنّم، شمّاس، قاصّ بارع، كاتب أصدر حوالي ثلاثين كتابًا وهي مصدر لكُتّاب ونُسّاخ معاصرين، شاعر نظم قُرابة الثمانمائة قصيدة، تعلّم منه باحثون كُثْر عن التراث السامري؛ سمّاه المرحوم زئيڤ بن حاييم، أعظم باحثي الدراسات السامرية في عصرنا ”أستاذي ومرشدي“] بالعبرية على مسامع ابنه الأمين (بنياميم)، الذي نقّحها، اعتنى بأسلوبها ونشرها في الدورية السامرية أ. ب.- أخبار السامرة، عدد ١٢٤٨-١٢٤٩، ١ أيلول ٢٠١٧، ص. ٤٥-٤٨. هذه الدورية التي تصدر مرّتين شهريًا في مدينة حولون جنوبي تل أبيب، فريدة من نوعها ــ إنّها تستعمل أربع لغات بأربعة خطوط أو أربع أبجديات: العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ العبري الحالي؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنجليزية (أحيانًا لغات أخرى مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية) بالخطّ اللاتيني.
بدأت هذه الدورية السامرية في الصُّدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدر بانتظام، تُوزَّع مجّانًا على كلّ بيت سامري من المائة والستّين بيتًا في نابلس وحولون، قُرابة الثمانمائة سامري، وهناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين في الدراسات السامرية، في شتّى أرجاء العالم. هذه الدورية ما زالت حيّةً تُرزق، لا بل وتتطوّر بفضل إخلاص ومثابرة المحرّريْن، الشقيقَين، الأمين وحُسني (بِنْياميم ويفت)، نجْلي المرحوم راضي (رتسون) صدقة (٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).
سرِقة في الظُهْر
قد سمعتَ قصّتين عن عَمّنا أبي جلال، وهما تشهَدان على فًطنته الفائقة، ففي القصّة الأولى تمكّن من إنقاذ نفسه من أيدي الذين أرادوا ضربَه؛ وفي الثانية أنقذ ماله من أيدي لصوص جشِعين. أحيانًا قد لا تساعد الفِطنة كقول ذلك الحكيم: أحمقُ يرمي حجَرًا في نهر وسبعةُ حكماءَ لا يقدرون على انتشاله. نعم، يجب على الإنسان أحيانًا وببساطة أن يكون ورِعًا، يقوم بالفروض الدينية نصًّا وروحًا، كي تحدُث الأُعْجوبة أو الشيء غير المتوقّع لخلاص نفسِك، كما تشهَد على ذلك القصّة الثالثةُ عن أبي جلال، وهو يوسف بن حبيب صدقة، عمّ والدي الأمين (بنيميم).
لقد قصّوا عليك أنّ أبا جلال اعتاش على بيع القماش، لُحُف صوف ولحف ريش؛ كان يحمّل البضاعة على حمار أو حمارين وعلى الثالث كان يركب، وبه رُبط باقي الحمير. وكما قيل لك، فإنّ أبا جلال كان يقضي جُلَّ أيّام الأسبوع، كلّ أسبوع راكبًا حماره من قرية لقرية، في مناطق نابلس وجنين وطولكرم.
دأب على الوصول إلى قرية معيّنة، يعرِض بضاعته في ذلك اليوم، يبيت فيها وفي صباح اليوم التالي، كان يتوجّه إلى قرية أُخرى. أحيانًا تسنّى له زيارةُ قريتين في اليوم ذاته. هذا كان قوت يومه، انتظر حتّى باع ما كان معه. عند ذلك، كان يعود إلى نابلس في وسط الأسبوع أيضًا، لتحميل البضاعة مجدّدًا التي ابتاعها بالجملة من التاجر العربي الكبير في المدينة، يُودع مبلغًا ما على الحساب ويسير في طريقه. وأحيانًا لم يُعرّج على بيته كي يصل إلى إحدى القُرى قبل حلول الظلام؛ هكذا كان جدول عملِه في كلّ الأيّام.
ذات يوم، وبعد أن وُفّق في بيع كلّ بضاعته بسرعة فائقة وبسعر جيّد، استملحه التاجر النابلسي الكبير، ضاعف له كميّة بضاعته من الأقمشة ذات الألوان المختلفة والغريبة من شتّى الأصناف، لُحُف كبيرة وأغطية بألوان رائعة تجذِب عُيون الفلّاحين - سار العمّ أبو جلال في طريقه مسرورًا وطيّبَ القلب، نحوَ القرى المجاورة لمدينة جنين في شَمال الضفّة الغربية.
امتطى حِمارَه وسارت خلفَه ثلاثة بِغال محمّلة بكلّ ما طاب. نظر أبو جلال إلى بضاعته برضًا وارتياح، إذ كان لديه الوقت الكافي ليحسب الأرباح التي سيجنيها في هذه الجولة في القرى. إنّه لم يكن التاجر الوحيد إلا أنّ سمعة بضاعته وصلت كل القرى وفضّلها القرويون على بضائع الباعة المتجوّلين الآخرين.
بينما كان أبو جلال يحسُب حساباتِه، وخلُص إلى أنّ ما سيجنيه هذه المرّةَ من مال سيكفيه لأيّام العيد، كاد اليوم أن يصل إلى نهايته؛ وإذا به يسمع صرخة انطلقت من أمامه. نظر أبو جلال فرأى رجُلًا ضخم الجثّة ممتطيًا حِصانًا واقفًا للسطو والنهب. صاح ذلك الرجل آمرًا أبا جلال بالوقوف مكانه وهرع نحوه. لا ريب أنّّه لصّ، قال أبو جلال بينه وبين نفسه، سأُرضيه بأحد الأقمشة وينصرف.
وصل الرجل إلى أبي جلال، ترجّل عن حِصانه؛ رأى أبو جلال بندقية بيد الرجُل. علِم الآن أنّ الشرَّ آتٍ قريبا؛ أوْقف حماره ونزل عنه كما أُمر.
ما معك؟ سأل الرجل ذو الجثّة الضخمة.
لا شيءَ معي سوى ما تراه عيناك، قال أبو جلال بصوتٍ مرتجف - إنّها بضاعة أبيعُها للقرويين، وبما أتقاضاه أُعيل عائلتي. البضاعة ليست لي، وما أجنيه من بيعها ما هو سوى ربحٍ ضئيل.
أمسَك الرجُل برسَن حِمار أبي جلال وربطه بحصانه، امتطى حصانه وتابع طريقه. شعر أبو جلال بالخزي والخجل، وأخذ يتساءل عن مدلول أعمال الرجُل. وفقط بعد أن ابتعد الرجل بحمار أبي جلال وثلاثة بغاله المحمّلة ببضاعته، أيقن أبو جلال المذعورُ كُليًا بأنّ كلَّ بضاعته قد أُخِذت منه، وظلّ خالي الوِفاض بجانب الطريق؛ لم يجرؤ على العدُوّ خلف الرجل لأنّه مسلّحٌ ببندقية كبيرة، ولم يقوَ على الرجوع لأنّ الخوف قد شلّ كلّ جسمه.
عندما وعى معنى هذا العمل الفظيع بشكل كامل، أجهش ببكاء شديد، إلّا أن ذلك لم يؤثّر على السارق الراكب على حصانه. نُقلت بضاعةُ أبي جلال إلى جهة قرية عرّابة في منطقة المدينة جنين.
الكاهن الأكثر توفيق (مَتْسليح) هَبَّ للمساعدة
تناهى إلى مسامع الكاهن الأكبر توفيق بن خضر (فنحاس) المكَنّى بأبي واصف، خبرُ ما حدث لأبي جلال، فاستدعاه إليه لسماع قصّته. بدأ أبو جلال بسرد ما حدث له، وكلّما كان يتابع روايته كلّما زادت دموعه، فنهره أبو واصف قائلًا بأنّه يسلُك كولد أُخذت منه لُعَبه. وفي نهاية القصّة ربّت أبو واصف على لحيته الطويلة الجميلة وابتسم نحو أبي جلال ببشاشة:
”هل تعلَم أنّ اللهَ كان في عونك وأنقذ روحك؟ أُشكُرْه على خلاصه. ألا تعرِف من سرقك؟ إنّه بلا شكّ فخري عبد الهادي الذي كان يُرعب كلَّ شمال الضفة الغربية. حقًّا إنّك تقف أمامي سالمًا ومعافىً بعون الخالق فقط؛ أمّا بخُصوص بضاعتك فلا تهتمّ ولا تغتمّ، فإنّ اللهَ سيجازيك بألف مرّة مثلها ويبارك عملك“، بهذه الكلمات هدأّه الكاهن الأكبر.
”فخر عبد الهادي؟“، همس أبو جلال، وكلّ جسمه يرتجف لسماع الاسم المخيف المرعب، إنّه زعيم العصابات، كيف حظيت بأنّه اكتفى ببضاعتي ولم يقضِ عليّ أيضا؟“. ”إنزع كلّ همّ من قلبك، الله خلّصك، أبعدِ القتامة عن قلبك بسبب البضاعة التي نُهبت“، قال أبو واصف لأبي جلال. قال وفعل، اصطحب أبا جلال إلى التاجر الكبير الذي انفعل جدّا بسبب الشرف الذي حظي به بزيارة الكاهن الأكبر، هبّ من مكانه وقبّل يد أبي واصف.
حكى أبو واصف كلّ قصّة أبي جلال، وطلب من التاجر أن يتفهّم الوضع ويُعطي أبا جلال بضاعة أُخرى ليتمكّن من إعالة نفسه وبني عائلته. وبخصوص المال فالله سيعوّضه لك عاجلًا أضعافًا، وسيسُدّ أبو جلال ديْنه على أقساط كلّما تيسّر له ذلك.
استجاب التاجر لإلحاح أبي واصف وسلّم أبا جلال بضاعة أُخرى محذِّرًا إيّاه بألّا يعود لتلك المنطقة. من الصعوبة بمكان القول بأنّ أبا جلال قدِ ٱنتعش، إلّا أنّه حفِظ قول الكاهن الأكبر توفيق في قلبه، أي الاستمرار في الاتّكال على الله. إنطلق ثانيةً إلى القرى التي تنتظره في منطقة جنين، وتفادى الاقتراب من قرية عرابة.
يبدو أنّ الحيْطةَ لم تُجد نفعًا، فبينما كان يحوّل نظراتِه هنا وهنا، خوفًا من سارق على حين غِرّة، وإذا بذلك الرجل ضخم الجثة راكبًا مشيرًا إليه ببندقيته أن يقترب. عرَف أبو جلال بأنّ لا مسوّغ للهرب، نزل حالًا عن الحمار، توسّل إلى الرجل وهو يبكي بألّا يُسيء إليه هذه المرّةَ أيضًا، ويسمَح له أن ينصرف سالمًا، ”يزمط بريشه“.
”إنّ فخر عبد الهادي رجلٌ محترم، وليس قاطعَ طريق“ - قال الراكب لأبي جلال - ”في اليوم الذي أخذتُ منك بضاعتك كنتُ محتاجًا لها لعُرس ابنتي الحبيبة، والآن جئتك لأدفعَ لك أجرَك، ما قيمة أجرك لأسلّمه لك“، ضحِك فخري عبد الهادي راضيًا.
”أهذا هو الأمر؟ - بارك الله فرحك؛ لن آخذ منك أكثرَ ممّا أستحقّ“ - قال أبو جلال، كما يفعل التجار، وطلب اثنتي عشرة ليرة، ضِعف ثمن البضاعة، أدخلَ فخري عبد الهادي يده إلى حِضنه وأعطى أبا جلال عشرين ليرة ذهب، ثماني ليرات تعويض هي، على ما سبّبته لك من الحزن والكَرْب نفسيا؛ أعرف أنّك سامريّ، بَلِّغ سلامي لأبي واصف كاهنكم“ - قال فخري عبد الهادي وطفق عائدًا سريعًا بالحصان إلى قريته.