الصورة الأدبية للقرآن (تابع)
كنا انتهينا في ص 191 والفقرة الأولى من ص 192 إلى محو فرض (مرجليوث) المستشرق الإنكليزي في مسألة اللغة الجاهلية واللغة المسلمة فقد سقط ذلك الفرض بفضل دراسات المدرسة الرافعة كما أفاد المؤلف.
بالإضافة إلى ذلك يذهب مالك بن نبي إلى نفي إمكان تصور اختراع أو اختلاق شعر رصين كما قال مثل الشعر الجاهلي ووضع أسماء مبتدعة لشعرائه فهو افتراض غريب وغير قابل للتصور مجرد التصور الحقيقي السليم, وهو أمر غير قابل للفهم أصلا؟!
ثم يضيف مالك بن نبي بكل وضوح ما سماه المسألة اللغوية التي تسبب في نشأتها القرآن وهي مسألة جديرة بالدراسة الجادة يقول: (تستحق في ذاتها دراسة جادة, تضم ألفاظه الجديدة, واستخدامه الفذ للكلمات, وخاصة في مجال الأخرويات, وربما ظفر علم التفسير من ذلك بمجال رحيب يستطع أن يلاحظ فيه امتداد الظاهرة القرآنية.)
وكان من الحتمي على القرآن الكريم إن هو أراد إدخال فكرته الدينية في اللغة العربية ومفاهيمه التوحيدية (أن يتجاوز الحدود التقليدية للأدب الجاهلي). وقد أحدث بذلك انقلابا هائلا في الأدب الجاهلي بتغييره الأداة الفنية في التعبير يقول مالك, فهو من جهة يحل الجملة المنظمة محل البيت الموزون, ومن جهة أخرى جاء بفكرة جديدة (أدخل بها مفاهيم وموضوعات جديدة, لكي يصل العقلية الجاهلية بتيار التوحيد.).
ويلاحظ المؤلف أن هذه المفاهيم الجديدة لم تتوقف عند مجرد الذكر بل قام القرآن الكريم بهضمها وتمثلها كما يقول, ثم كيفها لتتناسب مع العقلية العربية أي أن التكييف يتجاوز الجانب اللغوي البحت إلى الجانب العقلي الذي استطاع القرآن أن يدخل عليه التطور الضروري ليستوعب المفاهيم المستحدثة في مجال التوحيد وغيره أو إن شئنا فإن التطور اللغوي الحاصل إنما هو وسيلة للتغير العقلي والفكري المستهدف أساسا.
وفي هذا الصدد يضرب مالك مثلا من التعبير الإنجيلي كما قال (مًلك الله Royaume se Dieu) ليقارن إن كان القرآن يستعمل نفس التعبير؟ ويؤكد بعد هذا المثال أن القرآن لم ينقله حرفيا بل شكله في هيئة خاصة تعطيه أصالته كما قال ) نهاية ص192 .. ولنتوقف هنا لنعمق الأفكار في الجلسة الفكرية أثناء السهرة بالمناقشة والتحاور والتلاقح الفكري وإثراء الموضوع. ونلاحظ مع ذلك بداية أن مالك بن نبي يذكر هنا بصريح العبارة أن القرآن أضاف ألفاظا إلى اللغة العربية وفي المرة الماضية رأيناه يبرهن على ذلك بألفاظ من لغات أخرى استعارها القرآن ذكر منها اللغة الأرامية لأن لغة الجاهلية تعجز عن استيعاب بعض الأفكار والمفاهيم الجديدة مثل فكرة التوحيد ونبقى نميل من ناحية روح النص إلى أن مالك بن نبي لا يقصد إتيان القرآن بمفردات جديدة عدا تلك التي استعارها من اللغات الأخرى بل يهدف إلى التراكيب الجديدة والجمل الجديدة والأسلوب الجديد الذي يستوعب الفكر الجديد والحضارة الجديدة والموضوعات الغيبية وغيرها مما ذكره مالك بن نبي في المرة الماضية ويبقى المعول على الجلسة في السهرة الفكرية هذا المساء لتضيف ما تضيفه من إثراء وتوضيح وتجذير لمقاصد مالك بن نبي والقرآن الكريم ذاته. وللحديث بقية في الموضوع ومنه المثل الإنجيلي (مملكة الله) التي يوضح مالك بن نبي كيف عبر عنها القرآن تعبيرا أصيلا وليس مجرد ترجمة لغوية مما يجعله يحدث تطورا لغويا وفكريا في آن واحد.