مضمون الرسالة
يبدي مالك بن نبي إعجابا منقطع النظير بمحتوى القرآن الكريم من حيث الاتساع والتنوع مستشهدا بعبارة من الكتاب العزيز نفسه هي قوله جلت كلمته: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) [الأنعام 38/6] ذلك الشمول والاتساع والرحابة التي يستوعبها حديث الكتاب السماوي والمستغرقة للذرة والنجم والكوكب الضخم وما بينهما من (ذرة الوجود المستودعة باطن الصخر والمستقرة في أعماق البحار) (1) إلى (النجم الذي يسبح في فلكه نحو مستقره المعلوم)(2) كما يتوغل في أغوار الجوانب العميقة الداكنة داخل قلب الإنسان فيسبر ما في نفس المؤمن والكافر سبرا دقيقا وعميقا فلا يخفى عنه ما يدور فيها من أحوال شعورية أو لا شعورية لا يغيب عنه شيء منها مهما كان موقعه وطبيعته ووظيفته, كما يرتد بعيدا في ردهات التاريخ السحيق فلا يغيب عنه شيء منه صغيرا كان أو كبيرا كما يستشرف المستقبل راعيا للإنسانية ومعلما لها لما هو واجب نحو حياتها, كما يرسم لوحة بديعة للحضارات الإنسانية المتتابعة داعيا لنا لنتأمله ونستخلص منه العبرة والموعظة الحسنة ونستفيد منه فيما يصلح له.
وفي الأخلاق يقول المؤلف يقدم لنا القرآن العظيم درسا نافعا مستخلصا من نظرة نفسية عميقة للطبيعة البشرية مبينة نقائصها المنهي عنها والفضائل المرفقة بالدعوة إلى العمل والاتصاف بها, وذلك من خلال تقديم القدوة الصالحة المتمثلة في حياة الأنبياء وبطولات الشهداء مستخلصا أن هذا هو الأساس الذي يدفع به القرآن المؤمن إلى الندم الصادق عندما يعده بالغفران الذي هو أساس (التربية الجزائية في الأديان السماوية).
يقول مالك بن نبي أمام هذا المشهد العظيم لم يتمالك الفيلسوف (توماس كارليل) نفسه إذ انبعثت من أعماقه صرخة إعجاب بالقرآن قائلا: (هذا صدى متفجر من قلب الكون نفسه)(3).
يقول مالك بن نبي (في هذه الصرخة الفلسفية نجد أكثر من فكرة جافة لمؤرخ). نهاية ص 195. يواصل في الصفحة الموالية تقييم ذات الصرخة على أنها شبه اعتراف تلقائي لضمير إنساني رفيع المستوى (بهت أمام عظمة الظاهرة القرآنية, ويستخلص المؤلف من هذا حيرة العقل البشري أمام اتساع القرآن وعمقه (إنه بناء فريد ذو هندسة ونسب فنية تتحدي المقدرة المبدعة للإنسان.) .. نتوقف هنا عند نهاية الفقرة الأولى من ص 196لنترك المجال للمناقشة والحوار والإثراء أثناء الجلسة الفكرية في سهرتنا هذه. لوحة واحدة تتكرر في مشاهد متنوعة بحسب المواقف والموضوعات لوحة ساحرة تجسد عبقرية المفكر الكبير مالك بن نبي تلخص تفاعل المبادئ الثلاثة الكبرى وفعاليتها الخير والحق والجمال في أبهى حلة لها عندما تنبعث من مصدر قرآني يتجاوز كل وصف وكل إبداع وكل عبقرية فكيف لا يكون دافعا عظيما للحضارة والرقي والإنسانية والاستقامة؟ عن هذه المعاني ألأصيلة يصدر فكر مالك بن نبي التنويري القويم ولننظر إلى ذلك الخلق الإسلامي السامي في الحث على استيعاب حضارات سابقة حتى الوثنية منها والملحدة للاستفادة من الجانب المفيد من محتوياتها وانظروا كيف يجد مشاعر راقية في الإعجاب بصرخة الفيلسيوف غير المسلم (توماس كارليل) بعظمة القرآن وروعة عبارته وفكرته وسحر بيانه وسمو معانيه إنه التسامح وسعة الأفق التي هي أساس سلوك المسلم وفكره بعيدا عن التعصب وضيق الأفق والكراهية والبغضاء كما هي حالة الكثير اليوم .. كم هو جميل أن تجد هذه المعاني تداولا وحوارا وتعمقا أثناء سهرتنا الفكرية الليلة.