حول العبرية المحكية الحديثة وفصحى عربية العصر
ب. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
قد لا يعرف الكثيرون من المثقفين أن اللغة العبرية كانت لغة "ميّتة"، بمعنى أنها كانت لغة مكتوبة فقط طوال سبعة عشر قرنًا من الزمان، حتى أواخر القرن التاسع عشر، حيث كانت الظروف مؤاتية لبدء التحدث بها، وبدأت جهود حثيثة بغية جعلها من جديد لغة محكية في فلسطين لتصبح رويدًا رويدًا كسائر اللغات البشرية الطبيعية. ومن المألوف في الأبحاث اللغوية الحديثة استخدام بعض الكلمات العبرية مثل תחייה, החיאה, חידּוש, התהוות, התחדשות (إحياء، تجديد، تكوّن، تجدّد، على التوالي ( والمصطلحات الإنجليزية revival, rebirth, renaissance, revernacularization ) عند تناول أي جانب من جوانب هذه الظاهرة اللغوية الفريدة من نوعها بالبحث والاستقراء. إنها، بمعنى ما، فريدة حقّاً لأنّ سُنّة اللغات البشرية هي أن تكون اللغة محكية في البداية، ومن ثمّ تتبلور تدريجيا إحدى اللهجات المركزية ذات الشأن لتصبح لغة الكتابة، في حين أن الوضع في اللغة العبرية الحديثة المحكية معاكس، فهي قد انبثقت من لغة قديمة جدا ومكتوبة منذ ثلاثة آلاف سنة ونيّف. زد إلى ذلك أنه ليس هناك أي مثل آخر في التاريخ اللغوي للبشرية، حيث نجد فيه أن لغة اندثرت من حيث الاستعمال الشفوي قد تحوّلت في يوم ما إلى لغة محكية لدى الصغار والكبار كلغة أمّ، هذا لم يحدث مثلا في إيرلندا أو في غيرها من بلدان العالم.
هذه اللغة العبرية الحديثة، بشقّيها المكتوب والمنطوق، والهوّة بينهما ما زالت ضيّقة نسبيًا ولكنها في اتّساع مستمر، هي اللغة القومية لليهود ولغة دولة إسرائيل الرسمية الأولى، إذ أن اللغة الرسمية الثانية، على الورق على الأقلّ، هي العربية. علينا أن ننوّه بأن هذه العبرية هي لغة التربية والتعليم في كل المراحل التعليمية والتربوية، من رياض الأطفال، لا بل من دور الحضانة، وحتى الجامعات وفي المواضيع الإنسانية والعلمية كافّةً. ويذكر أن روضة الأطفال العبرية الأولى قد افتتحت في مستوطنة ريشون لتصيون عام ٢٩٨١. والشيء بالشيء يُذكر، إن الدولة العربية الوحيدة التي تستخدم العربية في التدريس الجامعي في الفروع العلمية أيضاً هي الجمهورية العربية السورية، إذ لم نكن من المخطئين.
هناك بالإضافة إلى ذلك سمتان هامّتان للعبرية وددنا لفت نظر القارىء إليهما. تمتاز اللغة العبرية عن باقي اللغات الأخرى بأنه لم يمت فيها أي شيء، فهي كالمتحف ذي الطبقات اللغوية المختلفة، مرتبة الواحدة بجانب الأخرى، وليس الواحدة فوق التالية لها، كما هو الحال في اللغات التي لم تنقطع عن الألسنة، أي التي لم تندثر. والسمة الثانية البارزة هي أن حوالي نصف تعداد اليهود في العالم، وهم يعيشون خارج إسرائيل، حوالي ستة ملايين نسمة، لا يعرفون اللغة العبرية المحكية، وفي الكثير من الأحيان، حتى ولا المكتوبة ولا الثقافة اليهودية أيضا، كما كان الوضع بالنسبة للكثيرين من زعماء الحركة الصهيونية في الشطر الأول من حياتهم على الأقلّ، وعلى رأسهم هرتصل وجابوتنسكي. وكان الأخير قد أقام الحركة الشبيبية "بيتار" (בית’’ר, ברית יוסף טרוּמפּלדור، اتّحاد / ميثاق يوسف ترومپِلدور) وأجبر أعضاءها الذين لم يعرفوا العبرية على تعلّمها خلال سنة وإلا فلا مكان لهم في الحركة. ليس هذا فحسب، بل أضاف قائلاً إن أي فتىً يهودي لا يعرف العبرية فإنه ليس يهوديا حتى ولو كان "بيتاريا". كما وقام بتأليف كتاب تعليمي باسم תרי’’ג كلمة أي ٣١٦ كلمة، وعادة عند ذكر هذا العدد بالقيمة الحرفية، حساب الجُمّل، يتبادر إلى الذهن عدد الواجبات الدينية بشقيها "إفعل" وعددها ٨٤٢ (רמ’’ח) "ولا تفعل" وعددها ٥٦٣ (שס’’ה) أضف إلى هذه الصورة أن قسما لا يُستهان به، قد يصل إلى أكثرَ من ثُلث الناطقين بالعبرية الحديثة "المحكية" هم من العرب الفلسطينيين.
هناك قلّة من الباحثين، مثل زئيڤ (وليم) تشومسكي (٦٩٨١-٧٧٩١، والد اللغوي والسياسي الأمريكي المعروف، أڤراهام نوعم تشومسكي، ٨٢٩١-) الذين يعتقدون بأن العبرية لم تمت قُطّ، وفكرة "إحياء الموتى" لا تنطبق عليها فهي كانت نابضة بالحياة في المصادر اليهودية على اختلافها وفي الصلوات والأدعية، ولذلك فلا يصحّ التحدث عن "أعجوبة" التكلم بها ثانية. وأصحاب مثل هذا الرأي يسوقون عادة نفس الدليل وهو أنه عند التقاء اليهود القادمين من بلدان مختلفة منذ العصور الوسطى في مكان ما، كانوا يتكلمون بلغة العهد القديم ذي الثمانية آلاف لفظة تقريبا، لانعدام أية لغة حية مشتركة للتواصل الشفوي فيما بينهم. لغتهم تلك كانت نمطا معينا من لغة مهجّنة ومحدودة جدا.
غنيّ عن البيان أن البون بين مثل هذا الاستعمال المحدود والطارىء عند الحاجة الماسّة للغة والاستعمال للغة الأم الحية، كما نعرفه ونفهمه في العصر الحديث، واسع جدا، وليس من الصواب الحديث عن لغة محكية بالمفهوم المعاصر بتاتا. وينظر مثلا في نظرية عالم اللسانيات البريطاني هلليدي (M. A. K. Halliday) حول التطور الوظيفي للغة عند الطفل في السنوات الأولى. إنه يتحدّث عن سبع وظائف كهذه هي: كون اللغة أداة؛ كون اللغة وسيلة تنظيمية؛ كون اللغة وسيلة تعبير عن تفاعل مع الغير؛ كون اللغة وسيلة تعبير عن الذات؛ كون اللغة وسيلة استكشاف؛ كون اللغة وسيلة للخيال؛ كون اللغة وسيلة إخبارية .(instrumental; regulatory; interactional; personal; heuristic; imaginative; informative) وكثيرا ما يقال عن اللغة إنها تؤدّي ثلاث وظائف رئيسية: وصفية وتعبيرية واجتماعية.
لتوضيح هذه النقطة يمكن مقارنتها باللغة العربية الأدبية الحديثة— MSA, Modern Standard Arabic– فهل يصحّ لنا نعتُها بأنها لغة حيّة محكية دارجة على ألسنة العرب صغاراً وكباراً، كلغة أم رغم شيوعها وفهمها كتابة وحديثا في وسائط الاتصال العصرية المتنوعة؟ هذا النمط اللغوي العربي ليس، في الواقع، لغة أمّ أي عربي بالمعنى المتعارف عليه لمصطلح "لغة الأم" (Mother Tongue)، إلا أنه في الوقت ذاته، مثل هذا النمط، كما هو معروف، يُصبح بعد فترة زمنية معينة ونتيجة جهد جهيد من الممارسة الفعلية في السماع والتحدّث والكتابة قريبا جدا من "لغة الأم" لدى نخبة من المثقفين العرب أدبيا ولغويا.
هناك كم هائل من الأبحاث حول ما يسمّى أحيانا بـ "أعجوبة" العبرية المحكية المعاصرة أو الطُمْطمانية (pidginization) وذلك بلغات أوروبية عديدة إلا أن للعبرية الحديثة نصيب الأسد فيها. ومن جهة أخرى، هناك من ادّعى أن العبرية الحديثة في الواقع ليست لغة "سامية" كالأخوات الساميات، الأكادية والأوغريتية والآرامية والعربية وچيعز والأمهرية والسريانية الخ. بل هي، في واقع الأمر، لغة "سلاڤية" (أنظر Paul Vexler) أو "סורסית" , הרמתי (תשל’’ח)، ص. ٤٢. ورأيت في هذه الإطلالة تسليط بعض الضوء على هذه الظاهرة المجهولة عربيا لعلّها تتمخّض عن بعض الفائدة للقارىء العربي عامة والمثقف خاصّة، فصلة القرابة اللغوية بين العربية والعبرية وغيرهما من فصيلة اللغات السامية لا تحتاج إلى دليل.
السؤال الطبيعي الذي يطرح نفسه هو كيف تمكّن اليهود من "إحياء" العبرية، لغة العهد القديم والتوراة الشفوية "المشناة" وكذلك عبرية التلموديْن، الفلسطيني والبابلي بعد هذه الحقبة الزمنية الطويلة التي تحدثوا في غضونها بشتى اللغات كالآرامية أولا، التي حلّت محلّ العبرية في القرن الثاني للميلاد وغدت اللغة الرسمية (lingua franca) في منطقة الشرق الأوسط، مرورًا بالعربية بعد إقامة الإمبراطورية العربية مترامية الأطراف واحتلال العربية محلّ العديد من اللغات كالآرامية واليونانية واللاتينية والفهلوية والقبطية الخ. في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط. وبعد ذلك تحدّث اليهود في الشتات (diaspora) في مختلف بلدان العالم وما زالوا بلغاتها كالروسية والألمانية والفرنسية والبولندية والهنغارية والإيدش إلخ. ولا بدّ من الإشارة إلى أن اليهود الغربيين، الإشكناز في أوروبا الشرقية خاصة، كانوا يتكلمون ويكتبون بلغة خاصة بهم وهي "الإيدش" أو "اليديش" (Yiddish) المشتقة من "يهوديت" وهي بمثابة مزيج من ألمانية تلك الفترة (Mittelhochdeutsch) وخاصّة من كلمات عبرية وآرامية من التلمود والأسطورة (האגדה). والإيدش لغة هندو-أوروبية (Indo-European) واعتبرت لغة بدون قواعد (كما يدّعي خطأ جلّ العرب بالنسبة للهجات العربية)، وهي تستعمل الحرف العبري في الكتابة ومن أشهر كتّابها في الأدب اليهودي مِنْدِلي موخير سِفَريم (مندلي بائع الكتب، اسمه الحقيقي: شلوم يعقوب أڤراموڤيتش، ٥٣٨١-٧١٩١) واسحق ل. پيرتس (٢٥٨١-٥١٩١) وشلوم عليخِم. وتجدر الإشارة إلى أنه نتيجة للوباء الكبير الذي تفشّى في منتصف القرن التاسع عشر في ألمانيا، اضطر اليهود هناك إلى الفرار إلى أوروبا الشرقية، وتابعوا التحدّث بلغتهم "الإيدش"، بل وطوّروها وغدت ذات فرعين، غربي وشرقي. وضمن ما يُدعى باسم "لغات اليهود" هناك "الآرامية اليهودية"، "العربية اليهودية" (Judaeo-Arabic) والفارسية اليهودية والإسبانية اليهودية (لادينو) وهذا الموضوع يستحق بحثا منفردا.
كما ويرى الباحثون بعض جوانب شَبه مشتركة بين إحياء العبرية المحكية الحديثة وإحياء العربية الأدبية المعاصرة المدعوة في الغرب باسم MSA ، ومن أوجه الشبه هذه يمكن ذكر الحقيقة القائلة بأن العرب واليهود أصحابُ ثقافة دينية تقليدية راسخة، وهم يمارسون حفظ العديد من النصوص عن ظهر قلب، المأخوذة من العهد القديم والمشناة وكتب الصلوات (سِدّوريم) من جهة والقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف والعهد الجديد والصلوات من جهة أخرى. وبناء على هذه الأرضية والمناخ التراثي فلا بدّ من نمو ما يمكن تسميته بـ"ملكة لغوية" وفق استعمال عبد الرحمن بن خلدون (٢٣٣١-٦٠٤١) في مقدّمته إلا أنها كامنة، غير فعّالة (passive knowledge)، أو "حاسّة لغوية" كما يُستخدم في الأبحاث اللغوية الحديثة، لدى صفوة القوم. وتجدر الإشارة إلى أن طريقة التعليم الديني التقليدي لدى الشعبين المذكورين في "الكتّاب" و"اليشيڤوت" تركّز على القراءة بصوت عال، فالعين ترى وتقرأ، بعد أن يفهم العقلُ النصوصَ غير المشكّلة، والأذن تسمع ويخزّن هذا المقروء المسموع لا سيّما في الأشعار والصلوات والنثر المقفّى، وكل هذا يساعد على الحفظ عن ظهر قلب. ومن الجليّ للجميع أن هاتين الثقافتين التقليديتين، العربية والعبرية، على درجة عالية جدا من اللفظية الشفوية (verbal culture)، وفي الكثير من الأحيان يتسنّى للمرء إكمال ما يُبدأ به في الكتابة أو الحديث لوفرة المادة المقتبسة من الكتب المقدسة آنفة الذكر وهذا ما يسمى بالأقوال الجاهزة، شبه: جوابه تحت باطه (ready-made utterances). ومن الممكن في ظروف اجتماعية ولغوية وسياسية معيّنة أن "تتفجّر، تنتفض" هذه الملكة اللغوية الكامنة، غير الفعّالة وتصحو و”تفزّ‘‘ من سُباتها، لتصبح ملكة منتجة فعّالة كجمرة خابية احتاجت لبعض التهوية لتضطرم من جديد على مهل، كما حدث لبزوغ ما يسمّى باللغة العبرية المحكية الحديثة في أواخر القرن التاسع عشر في فلسطين، وسنشرح ذلك لاحقا ضمن إطار ما اتّفق على تسميته بـ "حرب اللغات" (מלחמת השפות) أي حول هوية لغة التدريس في المدارس والمؤسسات العلمية، وقد احتدم النقاش حول هذه النقطة قبيل الحرب العالمية الأولى، ٢١٩١-٤١٩١ وكانت الغلبة للعبرية على الألمانية خصوصا في آخر المطاف لأن الطلاب طالبوا بكل قناعة تلقي دراساتهم العليا في التخنيون بالعبرية وليس بالألمانية كما أرادت جمعية عِزره (مساعَدة). كما نظّمت حلقات دراسية مسائية لتعليم الكبار لغة الآجداد التي بدأ الأبناء التحدث بها.
وفي السياق العربي نجد مثلا أن حسن البنّا (حسن أحمد عبد الرحمن محمد البنا الساعاتي ١٩٠٦-١٩٤٩)، مؤسس حركة ’’الإخوان المسلمين‘‘ في مصر، كان قد نادى بجعل العربية الأدبية لغة الحديث اليومي. وفي المقابل كان في مصر أيضا المفكر سلامة موسى (١٨٨٧-١٩٥٨) الذي ادّعى أن بلاده ليست شرقية بل غربية ولا بد من جعل اللهجة العامية المصرية لغة أدبية بالحرف اللاتيني. ومن نافلة القول أن للرأي الوسط، لكل نمط لغوي مجاله ووقته، كانت الغلبة وأسّست المجامع اللغوية في بعض العواصم العربية، في دمشق عام ١٩١٩، في القاهرة عام ١٩٣٢، في بغداد سنة ١٩٤٧ وفي عمان عام ١٩٧٦ إلخ.
في التاريخ اليهودي كانت اللغة العبرية المكتوبة هي العنصر الجامع والموحّد بين الناس في حين أن اللغات المحكية كانت عاملا مفرّقا بينهم. ولإيضاح هذه النقطة، الحس اللغوي، يمكن إلقاء نظرة عابرة على وضع اللغة العربية المحكية والأدبية لدى معظم المستشرقين والباحثين في الإسلام في الغرب وأساتذة العربية والأبحاث الإسلامية في الجامعات الغربية وفي إسرائيل أيضا. يمكن وصف ذلك الوضع بكلمة واحدة passive وقد يقابلها بالعربية "غير فعّال، مستكين، سلبي، غير منتج " أي أن هذا المستشرق أو ذاك يقرأ العربية وهو على دراية شبه تامّة بالقواعد ويترجم إلى لغته عادة دون المقدرة على التكلم وعلى فهم ما يسمع أو الكتابة بالعربية الأدبية المعاصرة، ناهيك عن معرفة أية لهجة عربية حديثة. معرفة العربية هنا تختلف عمّا تحدّثنا عنه أعلاه بالنسبة للحسّ اللغوي الكامن لدى أبناء العربية والعبرية، ويبدو لنا أنه من غير الصحيح التحدّث عن مثل هذا "الحسّ" عند فئة المستشرقين، فالعين وليست الأذن هي الفعّالة والمعرفة "خامدة، خاملة"، إنها في "القوة" ولا تخرج في مثل هذه الظروف إلى حيز "الفعل" ولا تقوى لرصد ما يمكن أن يُقال أو يكتب في اللغة بل هي منصبّة على الوصف المنهجي والتحليل لما هو موجود وفق معايير غربية حديثة. ولا نُخفي سرّا إذا ما قلنا بأن معرفة أية لغة طبيعية لا بدّ أن تشمل أربع مهارات: السمع والفهم طبعا، (والسمع أبو الملكات اللسانية، كما قال ابن خلدون)، والقراءة وهاتان سلبيتان أو استقباليتان (passive skill) والتكلم والكتابة وهما مهارتان فاعلتان نشطتان (active skills) وقد يضيف المرء دُربة أو حذاقة خامسة وهي العليا، التفكير بهذه اللغة المقصودة كلغة أمّ. مثل هذه المهارات يتحتّم توفرُها لدى أي مدرّس للغات حية كالعبرية والعربية والفنلندية والسواحيلية إلخ. وليس فقط بالنسبة للغات عالمية مثل الإنجليزية والألمانية والفرنسية والإسبانية، وفي كل المستويات التعليمية ولا سيّما العليا. هذا الوضع يذكّرني بفقرة قرأتها على الشبكة العنكبوتية تقول :
“Theory is when you understand everything but nothing works. Practice is when everything” works, but you do not understand why. In this research station, we combine theory with practice: nothing works, and we do not understand why.”
أي ’’ نحن بصدد النظرية عندما نفهم كل شيء ولكن لا شيء يعمل وفي الممارسة والتطبيق كل شيء يعمل ولكننا لا نفقه كنه ذلك. في هذا المركز البحثي إننا ندمج النظرية بالممارسة والنتيجة: لا شيء يعمل ولا ندري لماذا‘‘.
هذا الوضع عند اليهود ينسحب جزئيًا على العرب ولغتهم، فالفصحى المكتوبة توحّدهم (رغم وجود بعض الاختلافات المعجمية بين المشرق العربي ومغربه) في حين أن اللهجات تفرّقهم إلى درجات مختلفة وقد تصل إلى حالات تعذر التواصل. وفي المقابل نقول إن تحوّل "فصحى العصر" إلى لغة محكية عادية، لغة أمّ، قد يتحقّق أيضا في ظروف مؤاتية، لو افترضنا أن مجموعة من العرب المتعلمين المثقفين المتحدّرين من أقطار عربية مختلفة مثل المغرب وفلسطين واليمن والسودان والسعودية والإمارات العربية المتحدة، وفيهم شباب وصبايا من عائلات الفلاحين والبدو والقرويين والمدنيين، قد عاشت في جزيرة معزولة لعشرات السنين. قد يقال إن هذا الوضع قائم على أرض الواقع، وما عربية المثقفين أو اللغة المشتركة أو لغة بينَ بين أو اللغة الوسطى أو المبسّطة الخ.، إلا خير دليل على ذلك، إذن ما الجديد في هذا الطرح؟ نجيب إن هذه اللغة المشتركة قائمة بين هذه الشريحة الاجتماعية الثقافية من العرب عند اللقاء بين الفينة والأخرى، في حين أن ما أوردناه عن العيش المشترك في الجزيرة سيؤدي، لا محالة في أخر المطاف، إلى نمو سليقة لغوية لدى ضئضئي أولائك الآباء والأمهات، أي لا يتحتّم على المرء إنهاء المرحلة الثانوية أو حتى الجامعية ليتسنّى له التحدث بطلاقة بما يسمى بـ "فصحى العصر" ذات إعراب جزئي لا بدّ من تحديد ملامحه وأبعاده في بحث منفرد.
وفي الجانب العربي نرى أن الأمر مختلف لحد كبير إذ أن "الازدواج اللغوي" (diglossia)، عربية مكتوبة و"عربيات" محكيات أي لهجات، لم يزل قائماً منذ القرن السابع للميلاد، على الأقلّ، وحتى يوم الناس هذا. لكل منهما نمط رئيسي من هذين النمطين دوره ومجاله في الأغلب الأعمّ، فاللغة المكتوبة التي نطلق عليها عادة لقب "الفصحى" تستخدم في المجالات الرسمية مثل الكتابة الأدبية والعلمية ونظم الشعر التراثي والمعاصر الخ.، في حين أن اللهجات هي لغة الفطرة والسليقة والحياة اليومية العادية بين الانسان وأخيه الانسان في البيت والسوق والعمل وعند الفرح والترح. تغلب على اللغة الأدبية، اللغة المكتوبة سمة الركود (static) في حين أن اللهجة المحكية تتّسم بالنشاط والحيوية والتبدّل (dynamic). ولا بدّ في هذا السياق من التنويه بأن هناك في العربية الحديثة خمسة أنماط لغوية هي: فصحى التراث، فصحى العصر، عامية المثقفين، عامية المتنورين (خرّيجي المدرسة الابتدائية) وعامية الأميين (أنظر: محمد السعيد بدوي). بعبارة أخرى، الحسّ اللغوي أو الاقتران / التلازم اللغوي (collocation) من حيث التوافقيةُ والمدى والتواترية والقدرة اللغوية (competence) لدى العربي المثقف كان موجودا على الدوام على الصعيد العملي بالنسبة للهجة، لغة الأم، وعلى صعيد آخر وهو مزيج من الجانب النظري والعملي ليصبح أداء (performance) على حدّ سواء. معنى ذلك أن العربي المثقف تراثيا بمقدوره إلقاء محاضرة ارتجالية في مجال تخصّصه باللغة الأدبية المعاصرة، وما خطب الجمعة في المساجد ومواعظ يوم الأحد في الكنائس، رغم الفرق الواضح من حيث المستوى اللغوي بينهما، إلا خير دليل لما نرمي إليه.
إن دور الكلمة المقروءة والمكتوبة على جانب كبير من الأهمية في نفوس العرب، لا سيما، في ظروف تكون فيها التعابير الفنية كالموسيقى والرسم والدراما شبه منعدمة، وكما هو معروف، فإن فن الكلمة المنطوقة كان وحيدا في الجاهلية. وفي هذا السياق يتحتّم علينا ذكر الدور الهام الذي أنجزته نخبة من الأدباء والمثقفين في سوريا ولبنان في أواخر القرن التاسع عشر، لا سيما من العرب المسيحيين أمثال جبران خليل جبران (٣٨٨١-١٣٩١) وميخائيل نعيمة (٩٨٨١-٨٨٩١) وآل البستاني، في بلورة اللغة العربية الأدبية الحديثة مبنى ومعنى لتواكب العصر الحديث. ولا بدّ في هذا السياق من التنويه بدور "الرابطة القلمية" التي أُسّست أولا العام ١٩١٦ في نيويورك إثر جهود نسيب عريضة وعبد المسيح حدّاد على وجه الخصوص. ومما كتبه أمين مشرق، أحد أعضاء الرابطة التسعة آنذاك ما يلي: "اللغة العربية يا إخوتي ليست إلها ولا شيطانا ولا جنا. هي لغة كباقي اللغات تنحط إلى أدنى الدركات وتسمو إلى أعلى الدرجات وتموت بموت شعبها وتحيا بحياة المتكلمين بها. ولسوء حظنا وحظها إننا تمسكنا بأذيالها وربطنا في عنقنا وعنقها حجرين كحجارة الرحى ورمينا بأنفسنا إلى بحر عميق من الخمول والموت ـــ لا أقول إنه موت ابدي ولكنه طويل طويل جدا - - "(أنظر ppoP, ص. ٥). وهذا الموت الذي يتحدّث عنه الكاتب كان قد بدأ، كما يذكر في مجرى مقالته هذه، عام ٢٩٤١، نهاية حكم العرب في الأندلس أو كما يصفه مشرق "سقوط أول حجر من زاوية المجد العربي الكبير". ويبدأ مشرق مقالته الموسومة "الرابطة القلمية" بالكلمات "ما هي الرابطة القلمية. وما هي غايتها. وكم عمرها. ومن هم أعضاؤها. ومن هو رئيسها ولماذا هي مختبئة إلى الآن. وما هي سياستها. وما ومن ولماذا وأين وإلى أين ...؟؟ (ن. م. ص. ٤٤). لا شك أن هذا الأسلوب السلس يبدو وكأنه وليد هذه الأيام وليس ابن قرن من الزمان تقريبا؛ ولغة الكاتب مطعّمة بكلمات واستعمالات عامية مثل "هس، من بعد أمركم، لسواد عيون، عارف ماذا اتكلم، الساعة السوداء". وهذا ما قلناه سابقا بعدم تشابه وضع الأديب العربي الحديث بالأديب العبري الحديث والخلفية اللغوية لدى كل منهما. وأعضاء الرابطة "شرعوا بتهيئة اللغة العربية لطورها الجديد الآتي ... هي رابطة تربط أدباء اللغة إلى بعض وتجعلهم قلباً واحداً ورأياً واحداً وغايتها المحافظة على الجرثومة الباقية من آداب اللغة وتغذيتها بالجديد المفيد وتنقيتها من العقيم البليد وتعزيز مركز الأدباء من كل مذهب وطبقة وإحداث صلة حقيقية بين اللغة العربية وبين الشعب العربي" (ن. م. ٦٤-٧٤) وهذا يشمل تجنّب الكلمات الطنانة الرنانة التي لا طائل تحتها "إلى آخر ما هناك من التطبيل والتزمير والضجة التي تشبه طنين الأجراس المتدلية من رقاب البغال والحمير" (ن. م. ص. ٧٤).
أضف إلى ذلك أن الأديب العربي الحديث كتب وما زال يكتب بما يسمى بـ "فصحى العصر" ويتحدث بلهجة عربية معيّنة لم تمت على مرّ الأزمان بل تبدّلت باستمرار وبشكل تدريجي والصلة بينهما وثيقة في التلاقح المتبادل. أما في الأدب العبري فحتى منتصف القرن العشرين تقريبا كان الأديب اليهودي يكتب بالعبرية في حين أنه كان يتكلم لغة أخرى لا تمتّ، في الغالب الأعمّ، بأية صلة، لا من قريب ولا من بعيد، بالعبرية. حتى أن الكتّاب الذين ولدوا في البلاد (أولاد بلد، sabras, צבּרים) أمثال يهودا بورلا المقدسي (٦٨٨١-٩٦٩١) واسحق شامي المولود في الخليل (٨٨٨١-٩٤٩١) كانوا يسمعون العربية واللادينو (إسبانية قديمة وفيها الكثير من الكلمات العبرية) في بيوتهم أكثر من سماعهم للعبرية. وكان أ.م. ليفشيتس قد كتب عام ١٩١٤ ما معناه “نحن، معظم أبناء الشتات ومعظم القاطنين في أرض إسرائيل، لغتنا الداخلية ليست العبرية، بل إنها أجنبية، ولا بد من قول هذه الحقيقة بالرغم من مرارتها، صورة الكلمات الداخليةُ أجنبية والاستعمال اللغوي غريب‘‘.
واستنادا إلى ما طرحناه، لا يمكن الحديث عن تجديد التحدّث بالعبرية المعاصرة (هي في الواقع ذات أصول جدّ قديمة) وربما كان من الأنسب القول الكلام حديثاً، والكتابة والحديث باللغة العربية الأدبية المعاصرة أو العربية المعيارية وكأنهما نفس الشيء، كما يظنّ بعض الباحثين في إسرائيل وعلى رأسهم الأستاذ يهوشوع بلاو (יהושע בלאו) في كتابه بالعبرية "إحياء العبرية والعربية الأدبية، أوجه شبه واختلاف. القدس ٦٧٩١، ثم ترجم إلى الإنجليزية وصدر عام ١٨٩١ وفي مقالات لاحقة نوّه بها في المراجع المختارة. أما الناحية المشتركة البارزة، في تقديرنا، بين العبرية الحديثة والعربية الأدبية المعاصرة والمحكيات بنسب متفاوتة، فهي "تطويع" أو "استيعاب" ثقافة الغرب الحديثة وإيجاد المصطلحات العلمية المعاصرة التي لا حصر لها في شتّى ميادين العلم والمعرفة. بعبارة أخرى، تمثل هاتان اللغتان بثقافتيهما العريقتين في القرون الوسطى، لا سيما فيما يدعى بـ "العصر الذهبي" (egA nedloG، תור הזהב) في الأندلس في القرن العاشر وحتى الثاني عشر، ملائمتيهما لثقافة العالم الغربي الراهن. والمغذي الرئيسي لهاتين اللغتين وغيرهما من لغات العالم هو ما يطلق عليه اسم "المعيار الأوروبي الحديث (MES, Modern European Standard ) ويضمّ الإنجليزية والفرنسية والألمانية التي تجسّد التقدم العلمي المعاصر بكل جوانبه. وعليه فمصطلح Kindergarten بالألمانية، على سبيل المثال، كان الأصل إذ أن ألمانيا كانت السبّاقة في إدخال هذه المرحلة التربوية الأولى في نظام التربية والتعليم، ويعني هذا المصطلح حرفيا "حديقة أولاد" وتناقلته اللغات الأخرى إما نقلا (calque) كما حدث في العربية والعبرية "روضة أطفال، גן ילדים" (المصطلح כרם ילדים الذي اقترحه إليعزر بن يهودا لم يعمّر طويلاً) أو اقتراضا (borrowing) كما هو تقريبا في الإنجليزية. وهذه المهمّة الحضارية في التعريب والعبرنة ملقاة، في الأساس، على عاتق مجامع اللغة العربية في القاهرة ودمشق وبغداد مثلا وعلى مجمع اللغة العبرية (האקדמיה ללשון העברית) في القدس الذي أُسّس عام ٣٥٩١، وبموجب قانون إسرائيلي فإن هذا المجمع هو "المؤسسة العليا لعلم اللغة العبرية" وهدفه "توجيه تطور العبرية على أساس بحث اللغة في فروعها وعصورها المختلفة". وفي هذا السياق، لا مندوحة من ذكر الدور الهام والريادي الذي يقوم به مثقفو أي مجتمع، لا سيما الشعراء بحسّهم المرهف، في إثراء اللغة وابتكار كلمات وعبارات ضرورية تُكتب لها الحياة. ونأتي إلى ما يسمّى في تاريخ اللغة العبرية باسم "حرب اللغات" في فلسطين التي كانت تحت حكم الإمبراطورية العثمانية. ففي أواخر القرن التاسع عشر لم تكن أية لغة حيّة مشتركة تجمع بين اليهود المحليين وبين الذين قدِموا إلى البلاد من بلدان مختلفة فيما يعرف باسم الهجرات اليهودية إلى فلسطين. ففي الهجرة الأولى وصل إلى البلاد حوالي خمسة وعشرين ألف يهودي من أوروبا الشرقية في الفترة الواقعة ما بين ١٨٨٢ و ١٩٠٤. كانوا طوائف وفرقا شتّى، منهم من تكلم بالإيدش وهم من الإشكناز ومنهم من تكلم بلهجة آرامية حديثة أو بالفارسية أو بلهجات عربية معينة أو باللادينو. والمدارس اليهودية المختلفة كانت تدرّس بلغات مختلفة غير العبرية، فمثلاً مدرسة "ليمل"، التي تأسست في القدس سنة ١٨٥٧، كانت تدرّس بالألمانية النمساوية. أما المدارس التي بدأت جمعية "كل إسرائيل أصدقاء" (כל ישׂראל חברים, כי’’ח) بإقامتها في البلاد منذ سنة ٩٦٨١ فقد استخدمت الفرنسية لغة للتدريس في حين أنّ المدارس التي كانت تابعة لـ"منظمة الإخوة" (אגודת אחים) كانت قد استخدمت الإنجليزية للغرض ذاته. ولم تنتشر آنذاك لغة السلطة الحاكمة، اللغة التركية لا بين اليهود ولا بين العرب، والوضع ذاته ينسحب بشأن اللغة العربية ولغات أوروبا الحديثة كالإنجليزية والألمانية والفرنسية والروسية، لم تكن في حينه قد ضربت بعد جذورها في الديار المقدسة. وبعد الهجرة اليهودية الثانية إلى فلسطين ١٩٠٤-١٩١٤ كان عدد الناطقين بالعبرية في الحياة اليومية ضئيلا، إلا أنه أخذ بالازدياد بمرور الوقت. وفي هذا السياق قد يكون مفيدا الإشارة إلى موقف أحد أعضاء هذه الهجرة، يهوشوع ألترمان، الذي كتب ما معناه: عندما داست قدماي أرض شاطىء يافا ندرت ندرين: الأول ألا أنطق بأية لغة أجنبية بل سأتكلم بلغتنا العبرية، والثاني ألا أعود إلى المهجر/الشتات (גרינצוייג, 1997, 409). ּألترمان لم يكن وحيدا في موقفه هذا إزاء استعمال العبرية فالكثيرون عقدوا العزم للتحدث بالعبرية فقط. وهذا الزعيم العمالي برل كتسنلسون كتب أيضا ما معناه: عند قدومي إلى البلاد لم أعرف تركيب جملة طبيعية واحدة بالعبرية ولم أنو التحدث بلغة أجنبية. قررت ألا أُخرج من فمي أية كلمة أجنبية. وفي خلال عشرة أيام لم أتكلم بالمرّة، وعندما اضطررتُ الإجابة على شيء ما، كنت أجيب بجملة قريبة من الموضوع. (כצנלסון, תש’’ז, 70). أمامنا موقف حاسم اتخذه معظم القادمين الجدد، الانفصال عن المهجر وثقافته والانخراط في البلاد والثقافة اليهودية وبخاصة تعلم اللغة العبرية والتحدث بها. لعب المعلمون دورا محوريا في نشر العبرية المحكية في كل المراحل التعليمية ابتداء من رياض الأطفال ولغاية الجامعات، فاللغة مفتاح الثقافة والفكر والكيان. وينبغي هنا ذكر ما يسمّى بـمؤسسة الأولپان (אולפן) ودورها الهام في نشر العبرية والثقافة اليهودية بين القادمين الجدد أولا ثم بين الأجانب ثانيا وقد أقيم أول أولپان، أولپان عتصيون، عام ١٩٤٩.
بعبارة موجزة، كانت الأرض خصبة لجعل تلك الملكة اللغوية الكامنة في وجدان اليهود المتدينين التراثيين وعقولهم، التي ذكرناها آنفا، أن تتطور تدريجيا إلى ملكة لغوية فاعلة إذ كانت السبيل الوحيد (lingua franca) للاتصال المباشر بين أبناء الطوائف اليهودية المختلفة. أضف إلى ذلك توفّر الشعور القومي اليهودي المتمثل بالحركة الصهيونية التي انبثقت بعد قرن من
عصر التنوير (Haskalah, Jewish Enlightenment) في ألمانيا وهولندا وإيطاليا فشرق أوروبا. وفي عصر التنوير كان الشعار في الجاليات اليهودية المختلفة والمشتتة في العديد من بقاع أوروبا "كن يهوديا في البيت وإنسانا في الخارج". ثم جاء تأسيس חיבּת ציוֹן (محبة صهيون) والحركة الصهيونية السياسية وتوافدت الهجرات تباعا إلى فلسطين منذ العام ٢٨٨١، أرض وشعب ولغة، وإحياء اللغة شرط ضروري للنهضة القومية، لا بل هو جزء لا يتجزأ منها. نعم، اللغة عامل أساسي في بناء هوية قومية وخلق أمّة (Anderson, 1991). كما ولعبت الصحف والمجلات العبرية المختلفة مثل : האור, חבצלת, החרות, היום, הכרמל, הלבנון, המגיד, המליץ, הפועל הצעיר, הצבי, הצפירה, השקפה وسلسلة "كتب الأچورة" أي القرش (شبيهة بسلسلة "إقرأ" المصرية) دورا في النهضة الأدبية واللغوية العبرية منذ أواخر القرن التاسع عشر. وكما قال إليعزر يتسحاق بن يهودا (في الأصل: إليعزر پيرلمن) "ماتت العبرية بموت الأمة وعند بعثها من جديد تنبعث اللغة أيضا سيالة على ألسنة ذريتنا وليس عبر التراجم" (החלום ושברו, ص. ٣٥) واللغة، أية لغة، تقوى وتتطور وفق تقدم الناطقين واتساع معارفهم بها في ميادين الحياة المختلفة فاللغة مرآة الشعب. وقد أسهم الكثيرون في النشاطين القومي واللغوي في العقد الأول من القرن العشرين فصاعدا، وتجدر هنا الإشارة إلى اسمين لامعين هما: ي. ح. برينر (י’’ח ברנר ١٨٨١-١٢٩١) وبرل كتسنلسون (ברל כצנלסון ٧٨٨١-٤٤٩١). كلاهما عمل في مجال تدريس اللغة العبرية للشباب وللكبار في صفوف العمال من القادمين الجدد إثر قدومهما إلى فلسطين عام ٨٠٩١. وقد أولى هذان الأديبان أهمية خاصة إلى تنمية ما سمّي بـ "الدربة في القراءة" (החינּוּך לקריאה). وكان كتسنلسون، الزعيم المعروف في حركة العمل، قد أوجد عبارة "تدريس / غرس اللغة" (הנחָלַת הלשון) بالنسبة لتعليم العبرية للكبار. كما وناشد بعدم الاكتفاء بتدريس التحدّث بالعبرية بل بضرورة تدريس العبرية بكافّة أنماطها مشفوعة بالثقافة اليهودية. كما ونادى بأن على كل عامل في البلاد تعلّم العبرية واستخدامها (כצנלסון, תש’’ו, 293). وفي نطاق الحديث عن "إحياء" العبرية الحديثة لا بدّ من التطرق إلى أبرز فرد أسهم في هذه العملية "الإحيائية" بجدّ وتفان طوال زهاء أربعة عقود (٩٧٨١-٢٢٩١) رغم مرض السلّ الذي أصابه وأنهك جسده، إنه إليعزِر بن يهودا (الذي ألحق نسبة "مقدسي" (ירושלמי) إلى اسمه بعد عيشه في القدس) والذي ولد في شمال روسيا العام ٨٥٨١، بدأ بدراسة الطب في باريس العام ٨٧٨١، إلا أنه توقّف عن ذلك بعد ثلاث سنوات لأسباب صحية وآنها بلور رؤيته القومية وتحدّث عن النهضة القومية اليهودية على أرض فلسطين، وأشار بتسع كلمات إلى إمكانية إحياء العبرية المحكية إذا توفّرت النية (וגם לדבּר בהּ יש לאל ידינו אם אך נחפוץ)؛ ورد ذلك في مقال مشهور بعنوان "مسألة جليلة" وكان باكورة كتاباته (في الأصل שאלה לוהטה أي "مسألة ملتهبة" وغيّرها محرِّر השחר سمولنسكين، نُشرت أولا عام ١٨٧٩ ثم في בן יהודה, אליעזר, החלום ושברו ص. ٧٣-٨٤، ترجمت إلى الإنجليزية في Silberschlag ص. ١-٢١)، وهو الذي أوجد كلمة לאוֹמוּת في العبرية بمعنى "القومية". وهل يمكن لشعب أو لقومية ما أن يكتب لهما الحياة بدون أهم الدعائم ألا وهي اللغة من جهة والأرض من جهة أخرى، كما ورد في المقال المذكور؟ وهذه اللغة يجب أن تكون العبرية، إذ بها دوّن المخزون التراثي اليهودي على مرّ العصور. وعلينا أن نؤكد على حقيقة تاريخية قلّما حظيت بالاهتمام اللائق بها وهي أن إليعزر بن يهودا لم يكن، في الواقع، أوّل من نادى بإحياء العبرية الحديثة وبتدريس العبرية بالعبرية دون أية ترجمة للغة أخرى (שיטת עברית בעברית). أو أوّل من تكلم بالعبرية الحديثة، هناك، على الأقلّ، ثلاثة من اليهود السفارديم، الشرقيين، المعروفين الذين عملوا قبل بن يهودا وهم: يوسف هليڤي (יוסף הלוי) اللغوي والشاعر (٧٢٨١-٧١٩١) وباروخ بن اسحق مِطراني (ברוך בן יצחק מיטראני, בני’’ם) الصحفي والمربّي (٧٤٨١-٩١٩١) ونسيم بخار (נסים בכר) المربي ومن وجهاء اليهود في بيت المقدس (٨٤٨١-١٣٩١). ومن الجدير بالذكر أن نسيم بِخار وليس غيره يستحقّ لقب "أبي تدريس العبرية بالعبرية" كما وأنه نادى بتشكيل ועד הלשון (لجنة اللغة) قبل أن أسّسها بن يهودا بثلاثة عقود. وبخار هذا، الذي كان مديرا لمدرسة התורה והמלאכה (التوراة والعمل)، التي أُسّست في القدس عام ١٨٨٢ أخذ بعين الاعتبار تحسين علاقة اليهود بعرب البلاد وقبِل لمدرسته بعض التلاميذ العرب، لا سيما من أبناء "الأفندية". وتجدر الإشارة هنا إلى الدور الهام والشاقّ الذي قام به المدرّسون بالعبربة في وقت لم تكن الكتب المدرسية الجيدة متوفرة بالعبرية بل كانت بلغات أجنبية كالألمانية والفرنسية على وجه الخصوص. وعليه فقد ألقي على عاتق المدرس "عبرنة" مثل هذه الكتب وإيجاد البدائل (equivalents) اللغوية في لغة ما زالت آنذاك تحبو وتفتقر إلى أبسط الكلمات مثل: חמצן, מטריה, מילון, עפּרוֹן, גלידה, צעצוע, חביתה, מטפּחת, אופניים, מגּבת, מעדר, עגבניה, עיתונאי, אדיב, רציני, רשמי (أكسجين، شمسية، قاموس، قلم رصاص، بوظة، دمية، عجة، مَحرمة، درّاجة، منشفة، فأس، بندورة، صحفي، أديب (مؤدَّب)، رصين، رسمي، على التوالي). وتجدر الإشارة هنا إلى أن إليعزر بن يهودا كان قد اقتبس الكلمات الثلاث الأخيرة من اللغة العربية وعبرنها. وأولائك المدرسون يذكرونني بأستاذ الرياضيات الأرمني في مدرستي الثانوية في كفرياسيف في بداية الستينات من القرن العشرين الذي كان يستعمل كتابا تدريسيا بالإنجليزية لعدم توفر بديل صالح بالعربية وكان عليه أن يقوم بترجمة فورية لتمارينه بالعامية الفلسطينية. ومن الفروق البارزة بين جهود هؤلاء الثلاثة وجهود بن يهودا في قضية إحياء العبرية وترسيخ الاستيطان اليهودي في البلاد أن الأخير عمل كل حياته من أجل هذين الهدفين في الديار المقدسة بواقع ثماني عشرة ساعة يوميا في بعض الأحيان (أنظر عن الثلاثة كتاب هَرَماتي في المراجع المختارة، תשל’’ח) وعليه فهو مستحق للقب "أبو العبرية المحكية" (אבי הדיבור העברי) أي جعلها حية على ألسنة الجميع وفي كل المناسبات والمستويات، لغة قومية للشعب اليهودي في الديار المقدسة. هناك مربّون معروفون ثلاثة، چور وإپشتاين ويلين (גוּר, אפשטיין, ילין) وهم، في الواقع، الذين بلوروا وطوروا، كل على حدة، منهاجا متكاملا خاصّا به في تدريس العبرية بالعبرية أو ما يطلق عليه مرارا اسم "النهج الطبيعي" (méthode naturelle) وقد اعتمد في الشتات اليهودي أيضا.
وكان لهذه الفكرة، فكرة "إحياء" العبرية كلغة محكية، معارضون كُثر في الزعامة اليهودية الثقافية والسياسية وكذلك الهستدروت الصهيونية. وقتئذ، عارض كل الأدباء اليهود تقريبا هذه الفكرة وعلى رأسهم مندلي موخير سفريم، أبو الأدب العبري الحديث، كما وخطّ الأديب اليهودي النمساوي، ثيودور هرتصل ( ٠٦٨١-٤٠٩١)Theodor Herzl، مؤسّس الحركة الصهيونية السياسية، في كتابه "دولة اليهود" (taatsneduJ red) ما معناه "من منّا يعرف العبرية بشكل كاف ليتمكن عبرها من شراء بطاقة قطار"؟ ويشار إلى أن هرتصل كان قد غيّر رأيه هذا فيما بعد قائلا بوجوب اتخاذ العبرية لغة للدولة اليهودية العتيدة بالرغم من أنه لم يحقّق، على ما يبدو، أمنيته في تعلم هذه اللغة والتحدث بها (أنظر: הרמתי, ٦٩٩١, ص. ١٠٢-٧٢٢ (. وقال آخرون باستحالة جعل العبرية لغة حية فالأمر شبيه بإناء زجاجي قد تحطّم ولا يمكن إعادة بنائه مجددا والأمر يعيق تقدم الجيل الصاعد فكريا لفقر العبرية مقارنة بالألمانية والفرنسية مثلا. وكانت الطبقات الاجتماعية العليا من اليهود، التي قدمت من أوروبا إلى فلسطين، تمارس لغات بلادها الأصلية كالألمانية والفرنسية والإنجليزية في حين أن أفراد الطبقات السفلى في مجتمع تلك الفترة كانوا يتحدثون بلغات شعبية مختلفة كالعربية والفارسية والكردية، وقد عارضت هاتان الشريحتان الاجتماعيتان إدخال العبرية لتحل محلّ ما لديهما من لغات. وفي سياق عملية إحياء اللغة يمكننا ذكر مثلين: الباسكيون عملوا جاهدين وما زالوا من أجل الحفاظ على لغتهم القومية Euskera ويعتبرون ذلك أهم من الاستقلال؛ ربعهم تقريبًا يتحدّث هذه اللغة بالإضافة للإسبانية أو الفرنسية. والمثل الثاني يتمثّل في تجديد اللغة الفنلندية (language revitalization) فالفنلنديون كانوا تحت الحكم السويدي من القرن الثالث عشر وحتى عام ١٨٠٩ حين احتلال روسيا ويعود الاهتمام بالهوية الفنلندية ولا سيما باللغة إلى منتصف القرن الثامن عشر. تكلم بالفنلندية العمال والفلاحون في حين تكلمت طبقة الموظفين باللغة السويدية، لغة الدولة والتدريس.