نافذة على طائفة قُمران ومخطوطاتها
أ. د. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
ثمّة ثلاثة مصادر تلقي الضوء على هذه الطائفة المتنسّكة السرية وهي: الاكتشافات الأثرية واللفائف أو المخطوطات وما رواه مؤرخون في تلك الحقبة وهم ثلاثة فيلون الإلكسندروني (ت. حوالي عام ٤٥ م. وكتب باليونانية) ويوسف بن متتياهو/فلاڤيوس (ت. ١٠٠م وكتب باليونانية) وپلينيوس الملقّب بالعجوز (ت. ٧٩ وكتب باللاتينية). من ضمن تلك المخطوطات المسماة بلفائف البحر الميّت، اللفائف المخفية، لفائف بريّة اليهودية ولفائف قُمران (خربة أو وادي قمران)، هنالك مخطوط بعنوان ”كتاب الطائفة“ وهو يلقي الضوء على حياة تنسّك اشتراكية انتهجتها جماعة خِربة قُمران أو طائفة بريّة اليهودية، أو حرّاس أسرار الله، أو سرّ الجماعة، أو فرع متطرّف من حركة الإسيين (الحركتان الأُخريان في اليهودية كانتا الفرّيسيين والصدوقيين) بحسب رأي غالبية الباحثين، رجال الحقّ، أبناء النور، في صحراء (أنظر سفر أشعياء ٤٠: ٣ ”صوت صارخ في البرية أعدّوا طريق الربّ قوّموا في القفر سبيلا لإلهنا“) جرداء في شمال غرب البحر الميّت منذ أكثر من قرن قبل الميلاد. وممّا يجدر ذكره أنّ كلمة ”الإسيين“ لا ذكر لها في لفائف قمران ومعناها حسب بعض الآراء ”المعالجين“ وأصلها آرامي איסיי وآراء أُخرى تذهب إلى أنّ تأثيلها يعود إلى اللفظة اليونانية hosiotes المشتقّة، على ما يبدو، من الكلمة العبرية חסידות وعليه فالمعنى ”الأتقياء، الورعون“.
هذه الجماعة الدينية المعروفة أيضا باسم ”طائفة معًا“ (עדת היחד) والمحافظة بشكل متزمّت على الشريعة اليهودية لا سيّما بخصوص قوانين الطهارة والنجاسة ولها لباس موحّد. إنّها ذات هرمية صارمة، ضمّت عشرات من الرجال. إنّهم خالفوا الزعامة اليهودية الضالّة في القدس فانتقلوا للسكن بالقرب من البحر الميّت في ثلاثين مغارة تقريبًا وفي خيام وعرائش، على ما يبدو، محاطة بسلسلة من المباني. وموقع قمران اليوم هو حديقة وطنية يؤمّها عشرات آلاف السوّاح سنويا . وهناك رأي يقول إنّ ديدن هذه الطائفة الصدق والعدل والتواضع ومحبّة الغير كما ورد في أسفار الأنبياء، وكانت تنتظر مجيء مسيحين، الأوّل من ذريّة داؤود من السلالة الملكية واسمه المسيح من إسرائيل والثاني من الكهنة اللاويين ومسيحهم من نسل هارون وهو يتبوّأ المكانة الأولى. ومن أهم أهداف هذه الطائفة إعداد العدّة للحرب ضد الشرّ، حرب طاحنة يشنّها أبناء النور أي هم على أبناء الظلام أي سائر بني إسرائيل والعالم أجمع. وتبنّى أعضاء طائفة قمران تقويمًا شمسيًا خاصًّا بهم ذا ٣٦٤ يومًا وتحلّ كلّ الأعياد في أيام محدّدة في الأسبوع، كما اعتقدوا بأنّ موعد عاقبة الأيام محدّد وثابت.
هذا المخطوط الذي حُفظ جيّدًا، لا يذكر اسم أيّ عضو من أعضاء الجماعة إلّا أن الاسم يوحنان يظهر على إحدى الجرار. ويذكر أنّ الشخصيّة المركزية في هذه الطائفة يوصف باسم ”معلّم العدل/البِرّ“ وهو كاهن من نسل صادوق عارض الحشمونئيم. عند وصول يوحنان هذا إلى قمران مثُل بين يدي رئيس الجماعة الأعلى، استُجوب بشكل جذري حول قراره للانضمام للجماعة وامتُحنت معلوماته وأفعاله وفي آخر المطاف قُبل لفترة تجريبية ذات مراحل امتدّت لسنوات عديدة وتعهّد بأنّه ”سيثوب إلى الحقّ وينأى عن الباطل“. البتّ النهائي بخصوص قبول عضو جديد يتمّ بإلقاء القرعة بعد فترة من الاستجواب وفحص معرفة الشخص بالكتاب المقدس والتأكّد من أنّه يتحلّى بالأخلاق الحميدة. وكان على المتمتّعين بكامل العضوية في الجماعة إيداع كلّ ما في حوزتهم في صندوق مشترك والمشاركة في وجبات الطعام المشتركة. ويمكن القول إنّ الدخول من خرم إبرة أسهل من الانضمام لجماعة قُمران.
في الجماعة نظام يقسّم الأعضاء إلى طبقات عليا وأخرى دنيا، إلى كهنة ولاويين وأعضاء عاديين يصنّفون في مراتب متسلسة وَفق مدى المعرفة والأعمال، والوزن الأكبر في التدريج أعطي لمعرفة الكتاب المقدّس، وكان يعلن عن توزيع المراتب سنويا. تمتّع أصحاب المراكز العليا بامتيازات معيّنة مثل الجلوس في مكان الصدارة بجوار مائدة الطعام المشتركة وفي الاجتماعات المختلفة كانت كلمتهم نافذة. ولهذه المائدة نظامها الخاصّ، يتصدّر الكاهن المكان ويبارك الخبز والنبيذ قُبيل تناول الطعام. ويحصل كل عضو على حصّته، ومن يخالف النظام يستقطع جزء من وجبته لفترات معلومة. ويقال إنّ زعيم جماعة قُمران كان يسمّى بـ”معلّم العدل/الحقّ“ ورئيس كهنة أورشليم لقّب بـ”الكاهن الشرّير“. ولدى ”معلّم الحقّ“ القدرة على تفسير أسفار العهد القديم إذ أنّ الله أماط له لثام أسرار كلام الأنبياء.
وفي كتاب الجماعة إشارات واضحة تحُثُ ذوي المناصب العليا على عدم التكبّر والتعجرف. ومن مبادىء جماعة قُمران الأساسية التي تميّزها عن التيّار المركزي في اليهودية أي الربانية أو التلمودية الإيمان بأنّ الإنسان يولد إمّا ”ابن نور“ وإمّا ”ابن ظلام“ ومصيره محدّد منذ البداية، وليس كما هي الحال في اليهودية وغيرها من الديانات حيث التوبة متوفّرة فأبوابها مفتوحة أمام الخطاة على الدوام. تِلاوة الكتاب المقدّس بدون انقطاع ويتمّ ذلك بتناوب الأعضاء ليل نهار. أضف إلى ذلك عقدت اجتماعات حوارية وتشاورية تبحث فيها شتّى المشاكل والمسائل الدينية والتنظيمية. وكل من كان يخالف أنظمة الجماعة وقوانيها كان يُبعد لفترة ما، ومن العقوبات الغريبة العجيبة الامتناع عن التحدّث مع الغير وطرد كلّ من يغفو في خلال الاجتماع العامّ أو يضحك أو يبصق، لمدة شهر.
وهنالك في الجماعة احتفال سنوي يدعى بتجديد الميثاق أو العهد، يقام في يوم الغفران على ما يبدو. ففي العهد القديم نرى أنّ الله تعاهد مع نوح وإبراهيم وموسى لحماية ذريّتهم التي عليها الامتثال لوصايا الله. ومن المعروف أن الشعب نكث العهد مرارًا وتوجّب على الأنبياء إرشاد الشعب إلى جادّة الصواب. وخلال قرون كثيرة وإلى الوقت الراهن لم يأت أيّ نبي في إسرائيل، وتذهب طائفة قُمران أنّ الخالق غير راض عن إسرائيل فتركهم واختارها هي للحفاظ على العهد، واعتبرت الطائفة نفسها بأنّها بمثابة ”إسرائيل الجديدة، الصادقة“ وهذا العهد يجدّد سنويا. يتعهّد أعضاء الطائفة بعمل الخير وممارسة الحقّ في نظر الله كما أمر الأنبياء وعلى رأسهم كليم الله موسى. وفي الاحتفال السنوي هذا يتحدّث الكهنة عن نعمة الله على إسرائيل ثم يتكلّم اللاويون عن خطايا إسرائيل وعندها تقول الطائفة ما معناه ”لقد ارتكبنا الآثام ، أذنبنا، أجرمنا إلخ. نحن وآباؤنا من قبل إلخ“. ثم يبارك الكهنة الطائفةَ بما معناه ”يباركك الربّ بكلّ ما هو خير ويحفظك من كلّ شرّ، ينير قلبك بالحكمة المحيية ويُسبغ عليك المعرفة الأبدية، ويلتفت إليك بنظرته الرؤوفة لسلام أزلي“. ثم يأتي دور اللاويين لإلقاء لعناتهم على الإسرائيليين الذين لم يلتحقوا بجماعة قُمران قائلين ”ملعون أنت في عتمة النار الأزلية، لن يرحمك الله أبدًا، لن يصفح عنك حين تتضرّع إليه ولن يغفر خطاياك. إنّه سيرمقك بنظرة غيظ ويعاقبك عقابًا شديدا“. وفي النهاية يلعن الكهنة واللاويون معًا المنافقَ الذي اندسّ بين صفوف الجماعة، وفي اعتقاد هذه الجماعة أنّها بتقواها ستحظى بالتكفير عن ذنوب إسرائيل ومصالحة الربّ لا تتحقّق إلا بالصلاة والتقوى والقيام بالعمل الصالح كما تفعل الطائفة في الصحراء.
والجدير بالذكر ذلك الدُّرج النحاسي الذي عُثر عليه في كهف رقم ٣ في قُمران وهو يتطرّق إلى نهاية الطائفة. هنالك قائمة بما أخفي من كنوز طائلة من الذهب والفضة في ستين موضعًا في المنطقة الممتدّة ما بين أريحا وقُمران وأماكن أخرى مثل وادي آكور، جبل جريزيم تحت المدرجات المؤدية إلى السدّ العلوي، بئر أمام البوابة الشرقية. وهذه الثروة هي ملك الهيكل ومعها ذكرت ثياب الكهنة والبخور وما إلى ذلك أيضا. ويشار إلى أنّ دُرح الحرب الذي عثر عليه قبل الدرج النحاسي قد اشترته الجامعة العبرية عام ١٩٤٧. أبناء النور سيخوضون غمار حرب ضد أبناء الظلام، الأدوميين والأشوريين والعمونيين والموآبيين والفلسطينيين. وسبعة كهنة ينضمون للحرب، واحد منهم يمشي ذهابا وإيابًا أمام المقاتلين لتشجيعهم والستّة الباقون يحملون أبواقًا لغايات الاستغاثة والنداء. المقصود هنا حرب الله وجنده ضد قوى الشرّ بغية القضاء على الشيطان.
يصل عدد المخطوطات، مخطوطات قمران أو صحراء يهودا أو اللفائف المكنوزة، التي عُثر عليها في الكهوف الأحد عشر ولا سيّما في الكهف رقم ٤ في الجبال المشرفة على البحر الميّت المنخفض ٤٠٠ م. عن سطح البحر بين العامين، ١٩٤٧-١٩٥٦، في منطقة قُمران إلى أكثر من تسعمائة يعود تاريخها إلى ما بين القرن الأوّل ق.م. ولغاية حوالي العام ٦٨م. في الكهف رقم ٤، ويطلق عليه في الأبحاث المعاصرة، الاسم ”مكتبة/مخزن“ عُثر على حوالي ثلاثة أرباع المخطوطات في قمران.
ويذكر أن الحفريات الإضافية التي أُجريت بين العامين ١٩٩٤-١٩٩٦ لم تتمخّض عن عثور أي اكتشاف مخطوطات مقرائية في قمران. ويشار إلى أنّ معظم المخطوطات مصنوعة من الرقّ وبعضها من البردى وأغلبها مكتوب بالعبرية والباقي بالآرامية واليونانية ووصلتنا بأغلبيتها بحالة جيّدة. وهذه المخطوطات بمثابة قطع من حوالي ٨٠٠ كتاب من فترة الهيكل الثاني وثلثها تقريبًا مأخوذ من أسفار العهد القديم باستثناء سفر إستير، وربعها أسفار لم تدخل في عداد أسفار العهد القديم أي ما يسمّى بالأسفار الأبوكريفية مثل سفر حنوخ الأوّل أو حنوخ الحبشي وسفر طوبيا وبن سيرا وبعض المزامير ورسالة إرمياء اليونانية. وكما يعلم البعض أنّ من أهم النصوص التي عُثر عليها في قمران هو سفر النبي إشعياء كاملا تقريبًا وهذا النصّ ذو الصبغة الشعبية والتأثير الآرامي يختلف كثيرًا عن النصّ في العهد القديم. هذا السفر المقرائي وطوله أكثر من سبعة أمتار وجد في قمران في الكهف رقم ١. ومن ناحية أُخرى نرى أنّ سفرًا طويلا مثل أخبار الأيام بقسميه الذي يحتوي على ٦٥ إصحاحًا لم يبق منه في قمران إلا خمسة سطور فقط، 4Q118. ويتفاوت عدد نسخ أسفار العهد القديم التي كانت محفوظة في قمران، فعلى سبل المثال ٣٦ نسخة من سفر المزامير، ٢٧ نسخة من سفر التثنية، ٢١ نسخة من سفرإشعياء، ١٧-٢٠ نسخة من سفر التكوين، ١٦ نسخة من سفر الخروج، نسختان لكل من يهوشوع والأمثال ونسخة واحدة لكل من عزرا ونحميا وأخبار الأّيام. هنالك بين تلك النسخ حوالي عشر نسخ كُتبت بالخط العبري القديم المستعمل عند السامريين والباقي بالخط المربّع. وهناك من يذهب إلى أنّ لفائف قمران قد نسخت في أماكن في البلاد وفي فترات متفاوتة منها قمران والنسّاخ ذوو خلفيات متنوعة. ولا بدّ من التنويه بعدم وجود تشكيل أي حركات ولا علامات نبر ولا ترقيم للآيات ولا تقسيم للإصحاحات في اللفائف.
وهنالك الشروح أو التفاسير على النبوءات القديمة وهي ذات مكانة مركزية في المخطوطات وهناك من ذهب إلى أنّ تلك الشروح على العهد القديم مثل تفسير إشعياء وناحوم وحبقوق، هي أقدم ما وصلنا إلّا أنّّها، والحقّ يقال، ليست شروحًا عادية بل تعتمد على التأويلات وطرائق أخرى لفكّ مغالق أقوال الأنبياء. يُذكر أنّ معظم هذه المخطوطات قد نُشر (Discoveries in the Judaean Desert، في أكسفورد منذ عام ١٩٥٥) ومنها ما دُوّن بخط مشفّر.
قسم من هذه اللفائف موجود في ”هيكل الكتاب“ في متحف إسرائيل في القدس. يعود الفضل في اكتشاف هذه الكنوز لصبي بدوي تعمري اسمه محمد الذيب الذي كان يبحث عن عنزة ضائعة في العام ١٩٤٧. ألقى محمد حصاة في كهف عميق فسمع صوت كسر الفخار. وأهم تلك المخطوطات: سفر النبي أشعياء وطول المخطوط سبعة أمتار ونصف، شرح سفر حبقوق، كتاب نظام حياة الطائفة، حرب أبناء النور على أبناء الظلام، سفر المزامير، سفر لامك. وهذه المخطوطات تخصّ طائفة متنسّكين عاشت هناك في القرن الأّول ق.م. وعانت من اضطهاد الحكم الروماني. توجّه محمد وصديقه محمد حماد في اليوم التالي إلى بيت لحم وباعا اللفائف الثلاث التي عثرا عليها في المغارة بثمن بخس لإسكافي سرياني اسمه كندو الذي بدوره باعها لمطرانه المقدسي أثناسيوس يشوع صموئيل بمائة دولار وباع ثلاث مخطوطات وجرّتين كاملتين لبروفيسور آثار في الجامعة العبرية، يِچَّئيل يدين، وكان والده قد ابتاع ثلاث لفائف من قبل. هذه المخطوطات بقيت مدفونة في الكهوف ألفي سنة تقريبا. وتسنّى لهذا المطران لاحقًا زيارة مغارة المخطوطات بإرشاد البدويين. وهكذا سرّب قسم من المخطوطات إلى أمريكا وقسم آخر وصل الجامعة العبرية. في أواخر العام ١٩٤٨ تولى متحف روكفيلر في القدس الشرقية عملية التنقيب عن المخطوطات. وفي المتحف المذكور ما يزيد عن عشرين ألف قطعة رقّ صغيرة ينبغي وضعها في المكان الملائم. وكان الأب الفرنسي الدومينيكاني رولاند دي ڤو (Roland Guérin de Vaux 1903-1971) قد ترأّس أوّل فريق قام بالحفريات بعد العثور على المخطوطات بين العامين ١٩٥١-١٩٥٦ وذلك للوقوف على الصلة بين موقع قُمران وأصحاب المخطوطات.
لا ريب في أنّ اكتشاف مخطوطات قمران كان من أهم اكتشافات القرن الفائت. تلك المخطوطات ساهمت مساهمة جوهرية في فهم وتفسير نصّ أسفار العهد القديم ولغته فلهذا النصّ وجوه عدّة. وتلقي هذه المخطوطات الضوء على مواضيع كثيرة مثل بداية المسيحية، اليهودية، الصلوات والعادات، اللغة، الآثار والتاريخ. وقد تبيّن أن هذا النصّ لم يحتفظ في كثير من المواضع بالصيغة الأصلية. ويشار إلى أن ترجمات العهد القديم العتيقة وبخاصّة الترجمة السبعينية (اليونانية/Septuaginta) لا تتّفق عادة مع ما ورد في قمران. ومن التجديدات البارزة التي تكشّفت في أعقاب بحث مخطوطات قمران كان العثور على مجموعة صغيرة من النصوص القريبة جدًّا من نصّ التوراة السامرية. وتدعى هذه النصوص في الأبحاث باسم نصوص سبقت النص السامري. ووجدت في قمران مخطوطات قليلة شبيهة بالترجمة السبعينية التي أنجزت في الإسكندرية في القرنين الثالث والثاني ق.م.
في بلاد الرافدين اخترعت الكتابة في الألفية الثالثة ق.م. ابتداء من الصور فالإسفينية/المسمارية وفي فينيقيا ظهرت الكتابة الأبجدية المكونة من ٢٠-٣٠ حرفا. في أعقاب السبي البابلي، حوالي ٥٠٠ ق.م. استبدل اليهود حروفهم القديمة بالحروف المربّعة التي ما زالت مستعملة حتى اليوم. في الألفية الأولى ق.م. انتقل الإنسان من الكتابة على ألواح الطين إلى ورق البردي والفخار والحجر والرقّ/جلد الحيوان. ويذكر أنّ مخطوطات قمران مدوّنة على الرقّ وهذا يعني أنها قد تعود إلى القرن الخامس ق.م. تقريبا. وبخصوص عمر الجرار الفخارية التي احتوت على اللفائف فيمكن القول إنه يعود لقرون قريبة من التاريخ المسيحي. وقد أظهر الفحص بالكربون الذرّي بأن تاريخ تدوين المخطوطات يعود إلى قبيل أو بعيد القرن الأوّل ميلادي. وهذا التأريخ قد تأكّد بعد فحص قطع النقود التي عُثر عليها على مقربة من كهوف المخطوطات في الخرائب والحقبة الزمنية هي بين ١٣٥ ق. م. - حوالي ٧٠ م. وفي تلك الخرائب كانت تسكن جماعة أو طائفة سمّيت بجماعة قُمران على الاسم الذي أطلقه العرب على تلك الخرائب. ويبدو أن تلك الجماعة كانت تسكن في الخيام وكانت تجتمع لتناول الطعام سوية في بناية قمران. مساحة ذلك البناء بلغت حوالي ١٥٠٠ م٢، طوله زهاء الخمسين مترًا وعرضه نحو الثلاثين مترًا. وبناء على ما يورده المؤرخ اليهودي يوسيفوس فلاڤيوس (٣٧-١٠٠م.) فإنّ زلزالًا قد ضرب منطقة البحر الميّت في سنة ٣١ ق. م. وقتل ثلاثون ألف نسمة من سكّان المنطقة. وتدمير ثان حل بالمبنى عام ٧٠ م. وبعد هذا التاريخ سكنه الجنود الرومان.
ومن اللافت للانتباه غياب أية إشارة في مخطوطات قمران للمسيح والمسيحية. وهنالك من الباحثين الذين ذهبوا إلى أنّ المسيح كان على علم بطائفة قمران ذاكرين ما ورد في إنجيل متّى ٤: ١-٢ ”ثم اصعد يسوع إلى البرية من الروح ليجرّب من إبليس، فبعدما صام أربعين نهارًا وأربعين ليلة جاع أخيرا“. ولكن من المعروف أن يسوع المسيح عارض مبادىء طائفة قمران فهو نصير البسطاء والخطاة والداعي إلى التوبة والعبور من الشرّ إلى الخير. المسيح، كما هو معروف، لم يؤمن بأيّة حقوق منذ الولادة. مع هذا هنالك مبدأ مشترك بين مبادىء طائفة قمران وتعاليم المسيح وهو أنّ الفقر مزية إيجابية والغنى يفسد صاحبه، وقد وردت في العهد الجديد هذه الجملة الشهيرة ”أن يدخل الجمل في ثَقب الإبرة أيسر من أن يدخل الغني ملكوت الله“، متّى ١٩: ٢٤، مرقس ١٠: ٢٥، لوقا ١٨: ٢٥. ولكن من الملاحظ أن المسيحية في طور لاحق لها، في عهد الرسول بولس قد تأثّرت بشدّة من معتقدات قمران. ويلاحظ أنّه في أحيان كثيرة يستعمل العهد الجديد نفس الاقتباسات من العهد القديم والمشار إليها في لفائف قمران. حتّى أنّ المصطلح ”العهد الجديد“ المستمدّ من سفر إرمياء ٣١: ٣٠-٣١ استخدمه أعضاء طائفة قمران أوّلًا ثم أوائل المسيحيين. ويبدو أنّ يوحنّا المعمدان كان قريبًا جدًّا من أفكار طائفة قمران وتُعزى أهمية المعمودية في المسيحية لنهج الطهارة الصارم الذي كان متّبعًا في طائفة قمران.