عقاب تاجر الخَمْر
Punishment of the Wine Merchant
ب. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
في ما يلي ترجمة عربية لهذه القصّة، التي رواها راضي بن الأمين صالح صدقة الصباحي [رتسون بن بنياميم تسدكه هصفري، ١٩٢٢-١٩٩٠، أبرز مثقف سامري في القرن العشرين، مُحيي الثقافة والأدب السامريين في العصر الحديث، خبير بقراءة التوراة، متمكّن من العبرية الحديثة، العربية، العبرية القديمة والآرامية السامرية. جامع تقاليد قديمة، مرنّم، شمّاس، قاصّ بارع، كاتب أصدر حوالي ثلاثين كتابًا وهي مصدر لكتّاب ونسّاخ معاصرين، شاعر نظم قرابة الثمانمائة قصيدة، تعلّم منه باحثون كُثر عن التراث السامري؛ سمّاه المرحوم زئيڤ بن حاييم، أعظم باحثي الدراسات السامرية في عصرنا ”أستاذي ومرشدي“] بالعبرية على مسامع ابنه الأمين (بنياميم)، الذي نقّحها، اعتنى بأسلوبها ونشرها في الدورية السامرية أ. ب.- أخبار السامرة، عدد ١٢٣٨-١٢٣٩، ١٥ أيّار ٢٠١٧، ص. ٥٤-٥٧. هذه الدورية التي تصدر مرّتين شهريًا في مدينة حولون جنوبي تل أبيب، فريدة من نوعها ــ إنّها تستعمل أربع لغات بأربعة خطوط أو أربع أبجديات: العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ العبري الحالي؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنجليزية (أحيانًا لغات أخرى مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية) بالخطّ اللاتيني.
بدأت هذه الدورية السامرية في الصدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدر بانتظام، توزَّع مجّانًا على كلّ بيت سامري في نابلس وحولون، قرابة الثمانمائة سامري، وهناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين في الدراسات السامرية، في شتّى أرجاء العالم. هذه الدورية ما زالت حيّة تُرزق، لا بل وتتطوّر بفضل إخلاص ومثابرة المحرّريْن، الشقيقَين، الأمين وحسني (بنياميم ويفت)، نجْلي المرحوم راضي (رتسون) صدقة (٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).
”العلاقات تتحسّن
العلاقات بين قِسمي شعب إسرائيل، اليهود والسامريين، تحسّنت كثيرًا منذ تلك الفترات، قبل آلاف السنين، حيث سادت بينهما عَلاقات عداوة. قلّة فقط من اليهود اليوم، المتزمّتين جدّا، يكُنّون الحقد والضغينة للسامريين ويتفادون أي تواصل معهم، كما يتحاشى السامريون أيَّ أخذ وعطاء معهم. تنبُع عادة علاقات عداوة اليهود للسامريين من الجهل، غياب الفهم والمعرفة، والاعتماد على مراجعَ مكتوبة لا تمُتّ بصلة إلى الواقع الراهن. أحسّ اليهود المتزمّتون بعَلاقة نفور شديد من السامريين حتّى بداية القرن العشرين، في مدن فلسطينية سكنتها طوائف من أولائك اليهود، في صفد وطبريا والقدس ونابلس وأماكن أخرى. بعد ذلك، وفي أعقاب هِجْرات اليهود إلى البلاد ذوي الآراء التقدمية والمتسامحة تحسّن الموقف العام إزاءَ السامريين، وهذا أثّر إيجابًا على تطوّر طائفتنا.
لكنّ أولائك اليهود المتزمّتين في القرنين التاسع عشر والعشرين، الذين كانوا بعيدين عن التقدّم، أورثوا عَلاقة العداء والكراهية التي نقلوها من آبائهم لأبنائهم وأحفادهم من بعدهم. من نتائج هذا الإرث، معاناة بعض السامريين أحيانًا هنا وهنا، ولكن في معظم الحالات، يرُد أبناء طائفتنا على مثل أولائك الأشخاص بالضحك والسخرية.
يهودي يكرَه السامريين
بودّي أن أقصّ عن أحد هؤلاء اليهود، الذي كان يقطُن في طبريا في القرن التاسع عشر. ذلك اليهودي كان يكره السامريين كُرهًا شديدًا جدّّا. كان من اليهود السفارديم (اليهود الشرقيين) ودأب على تحذير جيرانه بألّا يتعاملوا مع السامريين التجّار الذين كانوا يأتون إلى طبريا. صيته ذاع في أوساط السامريين في نابلس كشخص مُعادٍ لهم، وكمنِ ٱعتاد أن يُعلن بأنّ كلّ مأكل ومشرب سامري دنس، ولا يجوز لليهودي لمسُه.
لستُ بحاجة لأقول لكم، بأنّ هذا الأمر سبّب استياء كبيرًا لدى السامريين، الذين بحثوا عن طريقة ليقتصّ من ذلك اليهودي الذي جعلهم موضعَ سُخرية وازدراء من قِبَل سكّان طبريا. كان ذلك اليهودي يتاجر بالخمر، ويُعلن لكلّ من يوَدّ سماعه بأن لا خمر كاشير (حلال) وصافيًا أكثر من الذي يبيعه هو لأنّ يدًا سامرية ما لمسته. كما وأعلن ذلك اليهودي كاره السامريين بغية إذلال السامريين أيّما إذلال، بأنّه يفضّل بيع خمره للعرب على أن تمَسّه يد سامري. في كل وقت، كان التجّار السامريون يعودون فيه من طبريا إلى نابلس، كانوا يتحدثّون عن فِعال ذلك اليهودي الطبراوي، إلى أن عزم الكاهن يعقوب بن هارون الشابّ على تلقين ذلك العدو درسًا لن ينساه أبدا.
ذات يوم سنحت له الفرصة للاقتصاص من ذاك الرجل. اصطحبه الكاهن الأكبر عمران (عمرم) بن سلامة في رحلته إلى طبريا. اعتمر الكاهن الشاب طربوشه، أمّا قَلَنْسُوة الكاهن عمران الحمراء فجذبت أنظار المارّين في طريقهما الطويلة من نابلس إلى طبريا. وصل الاثنان طبريا بعد يومين من السفر. كان للكاهن الأكبر عمران صديق في طبريا وهو ربي يعقوب أبو العافية الذي كان قد زاره في نابلس مراتٍ كثيرة، انشغلا في خلالها في نقاشات كثيرة حول المشترك والمختلف بين اليهود والسامريين،. في أكثرَ من مرّة وصلت النقاشات بينهما حدّ تشابك الأيادي تقريبًا، ولكن في نهاية كلّ جدال تمّ التصالح المتبادل الذي قلب النقاش المرّ لصداقة وثيقة.
كان الهدف من زيارة الكاهن عمران لطبريا تلبية لدعوة الرابي يعقوب أبي العافية لاستضافته بضعة أيّام للترويح عن النفس والتمتّع بالجوّ المريح على شاطىء بحيرة طبريا. الكاهن الأكبر ومساعده، ابن شقيقه الكاهن الشابّ يعقوب معتمر الطربوش، استراحا في بيت أبي العافية، وفي اليوم التالي انطلق الاثنان برفقة مضيفهما للتجوّل في المدينة. بعد تمتّعهما من المناظر الخلابة، أخذهما مضيفهما إلى السوق. في تجوالهم في سوق طبريا مرّ الثلاثة على الحوانيت، الواحد تلو الآخر. صورة الكاهن الأكبر معتمر القلنسوة الحمراء جذبتِ اهتمام أصحاب الحوانيت، في حين أن الكاهن يعقوب معتمر الطربوش، بدا مثل العرب في السوق.
انتقام صغير وحلو
عند عبورهم بحانوت تاجر الخمر، تناهت إلى سمع الكاهن يعقوب المسبّة التي أطلقها التاجر ”خلقة سامري نجس!“، لم يسمع الكاهن الأكبر عمران ومضيفه كلام التاجر، ولكن الكاهن يعقوب سمع بالتأكيد. فهم على الفور أنّ هذا الشخص هو كاره السامريين الذي تحدّث عنه أبناء طائفته. احتدّ غضب الكاهن يعقوب من كلام التاجر وقرّر الردّ بما يستحقّ للحال. عندما ابتعد الكاهن الأكبر والرابي يعقوب أبو العافية عن المكان، طفِق الكاهن يعقوب راجعًا فدخل دكّان التاجر. لم يشكّ التاجر بشيء، بدا الكاهن يعقوب للتاجر مثل أيّ واحد من العرب الكثيرين الذين يدخلون دكّانه. توجّه الكاهن يعقوب إلى التاجر بعد تردّد كبير سائلًا إيّاه عن أصناف النبيذ الموجودة في دكّانه. وأضاف أنّه ينوي إهداء صديقه اليهودي دزينة من زجاجات نبيذ عالي الجودة، لكنّه لا يدري أيّ نوع من الخمر سيروق له.
تحمّس التاجر جدًّا من الزبون الجديد، فأخذ يُبالغ في امتداح النبيذ الذي يُنتجه. سار التاجر مع الكاهن الأكبر من مكان لآخرَ في الدكّان. كان الكاهن يتوقّف بجانب كلّ رفّ، يتناول قِنينة تلو الأخرى، يتلمّسها، يفحَص لون النبيذ، يستفسِر عن الثمن، يهُزّ كتفيه ويُعيد القِنّينة إلى الرفّ. هكذا فعل بكلّ قناني تاجر النبيذ تقريبًا، الذي كان يُدير القناني ويخضّا مادحًا ومبجلًا كلّ قِنينة. أخيرًا، هزّ الكاهن كتفيه قائلًا ”لم أجد أيّة قِنّينة تُعجبني، وبالتأكيد لن تُعجب أبناء طائفتي أيضًا!“، ”أبناء طائفتك؟“ - سأل التاجر مغتاظًا، وأخذ يشُكّ. ”ومن ظننتني أن أكون“ - سأل الكاهن ومجيبًا - ”إنّي كاهن سامري!“ ”أنت كاهن سامري؟“ زعق التاجر - ”ولماذا لم تقُل لي هذا؟“. ”ولماذا لم تسأل؟“ ردّ الكاهن يعقوب ضاحكًا.
برأس مرفوع خطا الكاهن بتُؤَدة وهناء وغادر الحانوت. بينما كان يبتعد من الدكّان شاهد بطرف عينيه وإذا بالتاجر الحانق يُلقي كلّ محتويات دكّانه في أيدي عرب السوق، الذين تهافتوا عليه من كل حدب وصوب. ظلّ التاجر يزعق ويشتم وقتًا طويلًا، كيف يمكنُه أن يبيع خمرًا لمسها سامري؟ عاد الكاهن يعقوب فرحًا، منشرحَ الصدر إلى منزل أبي العافية، بعد هذا الانتقام الصغير بالتاجر كاره السامريين.
عندما عادا في اليوم التالي إلى نابلس، تذكّر الكاهن يعقوب، الذي أصبح بمرور الوقت كاهنًا أكبر، بأنّ عودتهما إلى نابلس كانت إحدى أجمل الرحلات في حياته.“