سعيد لوصيف ـ في مشروعية مطلب الثورة في تمدين الدولة ،،، هلاّ تحدّثنا بهدوء؟
بواسطة سعيد لوصيف 2019-11-14 00:31:14
حجم الخط:
د.سعيد لوصيف
يعتبر تناول موضوع الفصل بين السلطة العسكرية و السلطة المدنية، موضوعا يحوي على الكثير من الحساسيات لدى الكثير من النخب السياسية والجامعية، نتيجة السياق التاريخي الذي واكب تطوّر الحركة الوطنية و تطوّر الدولة في ما بعد الاستقلال. وعليه، فإنّني على عكس التيار، أرى انّه من الضروري بمكان ، بل من "الواجب" (بعيدا عن أي حكم قيمي) أن يتم تناول الموضوع في هذه اللحظات التاريخية الثورية التي يمرّ بها المجتمع الجزائري.
و مهما يكن، يشير عدد من الباحثين و من بينهم Elizabeth Picard (للذكر لا للحصر) انّه في الأنظمة المتسلطة يلاحظ أنّ هناك غياب لفصل رسمي بين الفضاء العسكري و الفضاء المدني، بل أنّ هناك أحيانا دمج بين الفضائين وفق أساليب قد تختلف من بلد لآخر. و قد رأى Montesquieu بدوره أيضا في عملية الفصل بين السلطة العسكرية والسلطة المدنية إجراء حيويا ضروريا للمحافظة على مبدأ الحريّة و اجتناب إغراءات الاضطهاد والطغيان.
كما أشار Alain Rouquié أن العسكريين الإصلاحيين أو الثوريين عملوا دوما في كثير من الدول على تسييس الدولة أحيانا، و المجتمع أحيانا أخرى. و قد كان من نتائج هذا التسييس أن ألغت هذه العملية بصورة أو بأخرى، كيانات الدولة التي كان من المفروض طبيعيا أن تكون مؤسسات مستقلة، وفرضت عليها بالتالي قوالب معسكرة ، ونمطا من التفكير كثيرا ما ارتبط بهواجس الخطر الأمني و المؤامرات الخارجية.
و إذا عدنا إلى السياق الجزائري، فما محاولات فرض فكرة "النوفمبرية - الباديسية" في تصوّرات الجزائريين كإيديولوجيا مؤسّسة ( Fondatrice ) للعقيدة العسكرية إلاّ استنساخ لفكرة "الشرعية الثورية" التي بنى على أساسها النظام منذ الاستقلال أحقيته في تملّك السلطة و ممارسة الحكم، وتدخله في جميع مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية ؛ بل و في تحديد معالم معيارية للجزائريات و الجزائريين و تعيين ما يصلح لهم ، و كأنّهم قصّر ناقصو الأهلية.
و قد يخطأ من يعتقد أنّ شعار "دولة مدنية، ماشي عسكرية" أو "جمهورية ماشي كازيرنة" وغيرها من الشعارات التي ارتبطت بهذه الفكرة، هو عداء للمؤسسة العسكرية وعنف رمزي نحوها من قبل المجتمع و مواجهة مباشرة معها؛ فمثل هذا الاعتقاد إنّما يوحي بقراءة خاطئة للواقع أو قراءة مراوغة تحاول فرض حقيقة اجتماعية غير موجودة أصلا. فالجزائريات والجزائريون لمّا رفعوا هذه الشعارات، إنّما رفعوها للتعبير عن رفضهم لعسكرة المجتمع و هيمنة "الثقافة" الأمنية على الحياة الاجتماعية؛ و التعبير عن رفضهم لاستبطانهما في أساليب إدارة الدولة و تسيير مؤسساتها. و بالفعل، يشكل هذا الاستبطان خطرا محدقا على ديمومة الدولة والتناغم بينها وبين المجتمع، و كما من شأنه أن يزعزع رابط الثقة في مؤسساتها. فالثورة السلمية التي انتهجها الشعب الجزائري ومطالبته بدولة مدنية، يمكن لها - على العكس من ذلك – أن تكون خلاصا للمجتمع والمؤسسة العسكرية على حدّ سواء وقدرتهما على الإفلات من مخاطر هذه العسكرة و"الثقافة" الأمنية، في ظل المتغيّرات الدولية الحالية التي تحاول فيها القوى العظمى الهيمنة المطلقة على ثروات البلدان غير المحصّنة وبسط نفوذها لدواعي إستراتيجية ترتبط على وجه الخصوص بحاجيات مجتمعاتها للطاقة و عدد من الموارد الإستراتيجية.
إنّ فكرة المؤامرة هي في واقع الأمر شبكة قراءة و "تحليل" يراد منها تنظيم الحقائق الاجتماعية كلّها ضمن "باراديغم" تهديدات الأمن الوطني. لكنّ و بالرّغم من تراجع هذه "العقيدة" في كل المجتمعات الحديثة، فقد بقيت في المجتمعات غير المحصّنة تحدّد علاقات أفراد هذه المجتمعات وتفاعلهم مع مؤسسات الدولة، كما استخدمت بغير حق كآلية لجهاز إيديولوجي يبحث عن الهيمنة السلطوية المطلقة على المجتمع، ورفض الانفتاح السياسي والتحوّل الديمقراطي (انتقال السلطة و تغيير آليات وشروط الحكم).
و على أيّة حال، فإنّني أعتقد أنّه يتعيّن على المؤسسة العسكرية، بفعل ضغوط شروط الاحترافية والمهنية، وضغوط عوامل العلاقات الدولية الراهنة والمستقبلية و تحوّل العالم ، أن لا تبقي نفسها في الدور التقليدي الذي لازمها منذ الاستقلال و المتمثل في التنشئة العسكرية كعامل تحوّل للجزائري عن طريق الخدمة الوطنية بالذات و عسكرة فضاءات المجتمع بمفهوم "اليقظة الأمنية". إنّ المطلوب منها حاليا، و بالنظر إلى الحركية التي أظهرها المجتمع في ثورته السلمية، أن يتحوّل هذا الدور ويتكيّف مع تحوّل المجتمع، وأعني بهذا أن ينتقل هذا الدور إلى تنشئة تعزيزية للخصائص المجتمعية الجديدة التي طرأت على المجتمع الجزائري ، و وعيه بضرورة التمسّك بحقه في المواطنة و تطلّعاته نحو التفتح والحرّية و الانعتاق من الهيمنات المؤدلجة.
و من مخاطر عسكرة المجتمع والدولة و "الثقافة" الأمنية ، أن تؤدّي بالمجموعات الاجتماعية على اختلافها وتنوعها تنغلق على ذاتها و تسجّل نفسها خارج أطر الدولة، ونكون بذلك أما تنازل للدولة عن أجزاء مشتتة من سلطتها (العصابات في دلالاتها السوسيولوجية)، ويتآكل بدوره النسيج الاجتماعي ويفقد تماسكه، و يفقد معه رأس المال الاجتماعي فعاليته في صقل مناعة المجتمع وتحصينه.
يشير Samy Cohen أنّ العلاقة بين السلطة السياسية و المؤسسة العسكرية في فرنسا بقيت لمدة طويلة تدار وفق قواعد بسيطة غير موثقة : الجيش يمتنع عن التدخل في السياسة؛ و في المقابل تمتنع الحكومة عن التدخل في إدارة الشؤون العسكرية ، باستثناء مسألة تخصيص الموارد المالية عن طريق ميزانية الدولة. و لم تعرف فرنسا الفصل بين ما هو سياسي و ما هو عسكري إلاّ مع ميلاد الجمهورية الخامسة؛ بحيث تفوّق النظام السياسي (ordre politique) عن النظام العسكري (ordre militaire) ، الأمر الذي كرّس انتصار أطروحات Clausewitz .
بالنسبة لــــــ Clausewitz ، الديوان[السياسي] هو المسؤول عن بلورة "الخطوط الكبرى للحرب، لأنّه الوحيد الذي يملك معرفة داخلية عن الوضعية السياسية أكثر من القائد العسكري". و بفعل عدّة عوامل داخلية وخارجية (النووي على وجه الخصوص كان عاملا حاسما، بالإضافة إلى الثورة الجزائرية)، فقدت "كلمة" القادة العسكريين في ظل الجمهورية الخامسة من قداستها؛ فالعسكري لم يعد يذعر ويخيف، بل على العكس أصبح في كثير من الحالات هو موضوع ذعر في مواقف سياسية حرجة (الأخطاء في تقدير تعقيدات العلاقات السياسية الدولية و مآلاتها).
و في النظام الجزائري، فقد ظلّت الحدود بين السياسي والعسكري غامضة بشكل كبير. ويعود أصل المشكل إلى ثورة التحرير (لعبت وزارة التسليح والاتصالات العامة وقائدها عبد الحفيظ بوصوف دورا محوريا ورئيسا في عسكرة السلطة و معاداته لأرضية الصومام التي أكدت على أولوية السياسي على العسكري) و الصراعات التي ارتبطت بمسألة شرعية الحكم أثناءها و بعد الاستقلال (الحكومة المؤقتة)، واستحواذ جيش الحدود والتفرّد بالسلطة بداية مع حكم بن بلّة و تجذّره مع انقلاب بومدين في جوان 1965.
و في هذا السياق، يظهر شعار "قولولهم 57 سنة عسكرية، قولولهم رانا حبيّنها مدنية" بأنّه ليس شعارا فضفاضا أو شعبويا، بل هو شعار يترجم معاشا مجتمعيا حقيقيا عرفته الجزائر منذ مرحلة الثورة التحريرية و بعد الاستقلال في تفرد الجيش والمؤسسة العسكرية بالسلطة و القرار السياسي؛ وقد نتج عن هذه المصادرة للسياسي من قبل العسكريين ، أزمة مستدامة لشرعية الحكم، و تفكيك لآليات التداول السياسي و التعبير الحر في الفضاء العام، و حرمان الجزائريات والجزائريين من سيادتهم السياسية والارتباط بالشأن العام.
إنّ دولة القانون التي خرج من اجلها الجزائريات والجزائريون منذ أكثر من تسعة أشهر ، هي تلك الدولة التي تقوم على مبدأ أساسي و فعلي ينبغي أن يكرّسه الدستور ؛ و يتعلّق الأمر بمبدأ الفصل بين السلطات، و استقلالية القضاء و حرية الإعلام، وهي أدوات سياسية وأخلاقية، تحدّ من إغراءات و افتتان احتكار السلطة. و قد علّمنا تاريخ تطوّر الدول الحديثة، والغربية على وجه الخصوص، أنّ التنظيم السياسي للدولة يقوم أساسا على مبادئ الفصل بين السلطات، و السيادة الشعبية وسيادة القانون (التي تنتج من توافق سياسي يتبلور في عقد اجتماعي)، و أخيرا مبدأ الشرعية.
و قد وصف Montesquieu هذا المبدأ؛ أي شرعية الحكم و شرعية ممارسته، بكونه من أهمّ مقومات التنظيم السياسي الحديث و أبرز مبادئ الدولة الحديثة. و مهما يكن، فإنّ مبدأ السيادة الشعبية و مبدأ الشرعية، يتحدّدان في علاقة جدلية وعضوية؛ فالشرعية السياسية هي التي تفسّر السيادة الشعبية وتبرّر أحقية ممارسة الحكم و التداول على السلطة و عدم احتكارها في يد واحدة.
إنّ الحقائق السياسية لا يملكها بالضرورة أولئك الذين اصطفوا بشكل أو بآخر مع النظام القائم و السلطة الفعلية، كما أنّها أيضا ليست بالضرورة مرادفة لحتمية قبول انتخابات، محسومة مسبقا، تهدف إلى إعادة إنتاج النظام ذاته، بالرغم من المخاطر التي قد تحملها على تماسك النسيج المجتمعي، و وحدة الدولة في رمزياتها المتعدّدة. كما إنّ ثقافة العسكرة والبناء الذهني الذي ينشأ منها، لا يمكن أن يكون مشروعا مجتمعيا حديثا. ففي هذا السياق الأمثلة كثيرة ؛ يكفي الإشارة إلى الحالة الأرجنتينية التي تدحض فكرة فرص التحديث و إمكانياته عن طريق عسكرة الدولة والمجتمع، حتى و لو كانت بواجهة مدنية ؛ فالفعل الحداثي هو فعل مدني في الجوهر والظاهر والسيرورة.