رغم تخلي معظم النخبة عن واجبها الوطني وانخراطها في اللهاث وراء فتات السلطة بشكل مقزز إلا أن هناك قلة نادرة لم تقصر في الواجب ومنهم صاحب هذه الأفكار مشكورا على تنويره الكبير
"النظام يمارس السياسة باستخدام التخويف والتخوين"
أخبار الوطن
6 فبراير 2020 (منذ 23 ساعة)
سعيد لوصيف
يسعى سعيد لوصيف، الأستاذ الجامعي المتخصص في دراسة الظواهر من منطلقات نفسية واجتماعية، من خلال هذا الحوار إلى إحداث قراءة عميقة في علاقة السلطة بالحراك الشعبي، وفي الإجراءات المتخذة حديثا، ومنها ما تعلق بتعديل الدستور. فهو يرى أن المجتمع ليس بحاجة إلى مراجعة دستورية في الوقت الحالي وإنما إلى عملية سياسية تنقذ الدولة. ويقول بشأن ما يؤخذ على الحراك من أنه عاجز عن تقديم بديل للنظام، بأن ذلك "يعبِّر عن فهم غير مكتمل وغير شامل لما يحدث في المجتمع منذ سنة بالضبط".
كيف تقرأ تبرئة الناشط سمير بلعربي من تهمة "إضعاف معنويات الجيش" التي اتخذت مطية لحبس دام 5 أشهر؟ وهل ذلك مؤشر إيجابي لبقية المعتقلين الذين يشتركون معه في التهمة، خاصة كريم طابو وفضيل بومالة؟
المسألة لا تحتاج إلى قراءة بقدر ما تحتاج إلى إبداء موقف سياسي وأخلاقي تجاه تعسّف وتنكّر لحق من حقوق الإنسان، وهو حرية التعبير وإبداء الرأي والانتقاد. فالحاكم المتسلّط لا يمكن له أن يقبل الإقرار بأن أولئك الذين يملكون الشجاعة الفكرية للاعتراض على سلطته هم أكثر كفاءة منه. كما أنّ المسألة أعمق بكثير من كونها ترتبط بشخص السيد سمير بلعربي أو السيد كريم طابو أو السيد فضيل بومالة أو أشخاص آخرين؛ وإنّما ترتبط جوهريا بحرية الجزائريات والجزائريين في الفعل أكثر من الكلام؛ أي حريتهم في ممارسة سلطة الرفض السلمي أو شرعية الرفض المنظّم، عبر الانتخاب أو التظاهر السلمي أو غيرهما، لممارسات ولّى عهدها تستصغر الجزائري وتحتقر قيمة الإنسان، وتجعله قاصرا لا يعرف ما يليق به، أو محدودية إدراكه ووعيه بدور ووظائف كل مؤسسات الجمهورية ورموزها دون استثناء.
ومهما يكن من أمر، وفي سياق سؤالك بالذات فإنّه يمكن مناقشة المسألة من مستويين اثنين على الأقل:
الأول يحيلنا إلى أمر مهم وهو أن أجهزة النظام وهياكله كانت دوما تستخدم آليات القوة والإكراه في صراعاتها للاستحواذ على السلطة والهيمنة من خلالها على المجتمع. فالأحداث التاريخية قبل الاستقلال أو بعده شاهدة على هذه الانحرافات، وشاهدة أيضا على الاستغلال السلطوي لفرض إرادة منطق الفريق الأقوى. كما تفسر هذه الظاهرة جليا الوضعية المأساوية في تعامل النظام مع الجزائريين والجزائريات، وكيفية ممارسته للسياسة باستخدامه التخويف تارة، والتخوين أو غيرها من التهم الباطلة تارة أخرى. وهنا أيضا أغتنم الفرصة للتأكيد بأن المجتمعات التي تمكّنت من فرض التحول المجتمعي والسياسي الحديث كواقع في حياة أفرادها هي تلك المجتمعات التي تمكّنت من استبدال القوة بالقانون، والانتقام بالعدالة.
المستوى الثاني، وحتّى نكون أكثر إثراء في النقاش ونبتعد عن توهّمات إحباط أو رفع المعنويات، لأنّني لسبب بسيط لا أنطلق ولا أبني تحليلاتي من مسلّمة ترى في الجزائريات والجزائريين دوما أنّهم أعداء للمؤسسات ولا يريدون الخير لها. كما أودّ أن أضيف أنّه من الناحية الفلسفية تبقى المؤسسات إبداعا إنسانيا راقيا، ولا يمكن أن تتعارض مع الجوهر الإنساني للإنسان في حدّ ذاته، فهي خلقت للمحافظة عليه وعلى كرامته.
ومن زاوية أخرى، أعتقد أنّ الأمر الذي يستحسن التركيز عليه وتوضيحه هو ضرورة التأكيد بأن التساؤلات التي تثار عن علاقة العسكريين بالمدنيين، وبالأخص النخب المدنية التي تمارس الحكم وعلاقتهم بقادة المؤسسة العسكرية، هي تساؤلات قديمة وليست وليدة الساعة؛ إذ تعود تاريخيا إلى ثلاثينات القرن الماضي ومرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وقد فصلت فيها المجتمعات الحديثة اختياريا عبر مختلف مراحل سيرورات تحوّلها وتطوّرها المجتمعي والسياسي والمؤسساتي.
وفي هذا السياق ألفت الانتباه وأنوّه بالذكاء الجمعي الذي يمكننا أن نستشفه من شعار "دولة مدنية ماشي عسكرية" الذي ظل حاضرا في جلّ مسيرات الجزائريات والجزائريين طيلة السنة التي مرّت على الحراك، دون محاولة إثارة تهويل بشأنه أو تسجيله ضمن استخدام سياسوي أو فعل بروباغاندا لا يقدّم قيمة مضافة في فهم شروط التحوّل الديمقراطي وآلياته. كما ينبغي علينا وضع المسألة في سياق النقاش السياسي الهادئ، وشروط التحوّل المجتمعي والفرص التاريخية لبناء دولة حديثة. ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال، أثيرت التساؤلات التي ارتبطت بعلاقات المدنيين بالعسكريين بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة في خضمّ تطوّر النسيج الصناعي العسكري الذي ميّز الاقتصاد الأمريكي، ونتيجة للتفكير والنقاش أيضا الذي كان يدور آنذاك حول أفكار Huntington الذي ضمّنها في كتابه (1957) The Soldier and the State. The Theory and Politics of Civil-Military Relations.. وبالفعل فقد جعل هنتغتون من مسألة تابعية وخضوع العسكريين للسلطة السياسية عنصرا مركزيا في تحقيق أهداف استراتيجية احترافية الجيوش، معتبرا في الوقت ذاته قضية وضع وتنفيذ مراقبة "موضوعية" للقوات المسلّحة، مع احترام مساحات خبراتها وكفاءاتها الخاصة بالطبع (الجوانب الفنّية والتقنية)، أحسن وسيلة لضمان توازن عقلاني لعلاقاتها بالسلطة السياسية الحاكمة.
وصف الرئيس تبَون الحراك بأنه "مبارك"، لكن التضييق على المظاهرات مستمر، والاعتقالات مستمرة أيضا. ما يمنع رئيس الجمهورية من إصدار قرار بوقف الإجراءات الأمنية ضد الحراك ونشطائه؟
تعلّمت من ممارسة البحث والتفكير بالمنهج أنّ ضبط المفاهيم وتحديدها أمر ضروري في إضفاء المعنى على الظواهر والسلوكيات. وبالتالي فإنّ وصف الحراك بأنّه "مبارك" في رأيي لا يقدّم قيمة مضافة في فهم الوضع ومتطلّباته؛ ذلك لأنّ كلمة "مبارك" لا وجود لها في قاموس علم السياسة أو علوم الاجتماع والإنسان. بالإضافة إلى ذلك فإنّ الوظيفة السياسية للمؤسسة الرئاسية ليست في اعتقادي الوصف، وإنّما وظيفتها تأخذ أبعادا استشرافية ترتكز على التشخيص الدقيق للأوضاع، وتعيين الرهانات وتحديد الفرص، ومن ثمّ بلورة الاختيارات والسياسات.
ليس مهمّا أن نحدّد إن كان "الحراك" مباركا أم لا؛ إنّما المهم أن ندرك فعلا وأن تكون لنا القدرة والاستعداد على تفكيك مؤشرات الحالة، وأن نفهم أنّ هذا الحراك يشكّل حقيقة لحظة ثورية تاريخية، وفرصة قد تكون الأخيرة للمجتمع والنظام من أجل التحوّل والدفع بمسار التغيير السلمي الذي يتوق إليه الجزائريات والجزائريون.
أمّا بخصوص التضييق على الحريات فإنّني لن أضيف شيئا إذا قلت لك بأنّ هذا الأمر ليس جديدا أو مستغربا صدوره من النظام، فالعكس هو الذي كان من الممكن أن يكون مستغربا، وأن يكون مؤشرا محتملا يدلّ على فهم واضح وسليم للديناميكية المجتمعية، والإجابة السياسية لمطلب التغيير. وهنا أيضا أرى أنّه ينبغي أن نكفّ عن معالجة أمور الدولة بمنطق ثنائية القرار والقرار المضاد. لقد أنهكت هذه الثنائية مؤسسات الدولة وزادت من هشاشتها وألغت الثقة في ممارسة الحكم. فمثل هذه الممارسات قد تعبّر عن صراعات بين أجهزة النظام، أو مراوغات مغلوطة تستخدم لاستمرار هيمنة النظام، وإن لم يكن هذا الأمر صحيحا فإنّها على أقل تقدير توحي بذلك.
منطق الدولة ونشاطها لا يقومان فقط على القرارات، وإنّما يقومان على بناء السياسات والرؤى التي تنسجم وتتوافق مع حركية المجتمع وتطلّعات أفراده؛ فالتغيير بهذا المعنى هو البوصلة والمحك.
وُجهت انتقادات عدَة للحراك بحجة أنه عجز عن طرح بديل لخطط السلطة. هل كان مطلوبا من الحراك، برأيك، أن يقترح حلولا لأزمة الحكم؟
بالفعل قرأت وسمعت كثيرا عن عدّة انتقادات وُجّهت للحراك، بحجّة أنّه عجز عن طرح بديل لخطط السلطة، أو أنّ مطالبه تتميّز بالراديكالية في الطرح والتصوّر. والحقيقة أنّ مثل هذه الآراء إنّما تعبّر، في أحسن الحالات، عن فهم غير مكتمل وغير شامل لما يحدث في المجتمع منذ سنة بالضبط. فالحراك هو ثورة في الوعي، وهو ديناميكية تعبّر عن قطيعة ذهنية مع كل ما يرمز للنظام. وفي مسألة الراديكالية، من الضروري التأكيد على أن كل الثورات والحركات المجتمعية تحمل راديكالية وقطيعة فكرية وممارساتية مع أنظمة بالية، ويكون من الخطأ أو من التلاعب إيهام الرأي العام بأنّ راديكالية الخطاب والتصوّر؛ أي عدم المساومة في الحق في المواطنة والحرية وبناء دولة القانون، هي مرادفة للعنف والتطرّف. وعليه أعتقد أن اهتمام السياسيين والناشطين والمثقفين بالمشاعر المجتمعية التي يعبّر عنها الحراك، والمرتبطة أصلا بالإجحاف والظلم و "الحقرة"، يجعل الخطاب والموقف راديكاليا يتعدىّ حدود المساومة، لأنّ القضية قضية مجتمع وإسقاط للذات الجمعية في مستقبل يصنع الآن.
ومن زاوية أخرى تبيّن التجربة التاريخية أنّ كل الحركات الاجتماعية والثورات عبر العالم، التي حاولت أن تفرض حلولا، لم يكن أمامها لتحقيق هذا المسعى إلاّ استخدام منطق القوّة والعنف. وفي الحالة الجزائرية انتبه الجزائريات والجزائريون لهذه المسألة، وأعلنوا للوهلة الأولى من بداية الحراك رفضهم المطلق لاستخدام أداة العنف لتحقيق مطلب التغيير.
وقد صدرت عن عدد من القوى المجتمعية الناشطة في الحراك، وعدد من المثقفين الملتزمين بحركيته، أفكار ومبادرات. والحقيقة أنّ ما تسميّه أنت حلولا بالنسبة للحراك أرى أنها معروفة في أبسط تفصيلاتها بالنسبة للنظام. أضف لذلك أن الحراك لا يملك الوسائل والأدوات التي تمكّنه من تحقيق وتنفيذ هذه البدائل والحلول. النظام هو من يراوغ، وهو من يشكل عطالة للتغيير، والأهم من هذا وذاك فهو الذي يملك الأدوات القانونية والدستورية للاستجابة لمطلب الحراك بتغيير النظام، وتغيير آليات ممارسة الحكم. فالكرة هي في ملعب النظام وليست في ملعب الحراك.
واكبتَ أحداث الحراك وشاركتَ في كل جمعاته تقريبا. كيف تقيِّمه وهو يقترب من عامه الأول؟
إنّ أهم تحوّل مجتمعي وسياسي يمكن أن يحمله الحراك هو أن تسمح ديناميكيته التي تضرب بجذورها في عمق القوى المجتمعية المشكلة له، بالرغم من كل المناورات المضادة وغيرها من المحاولات التي ظلّت تستهدف تكسير هذه الديناميكية، قلت إنّ أهمّ تحوّل يمكن أن يحدث هو ذلك "الإخصاء الرمزي" (castration symbolique ) على حدّ تعبير Dolto (1994)؛ أي بمعنى أن تسمح ديناميكية الحراك بتقييد سلطة ظلّت مهيمنة، تستدعيها رغبة المجتمع في التحول إلى نظام ديمقراطي متفتح تحكمه دولة القانون، وبالتالي تساعد على تفعيل سيرورة الانفصال من كل أشكال الهيمنات مهما كانت عناوينها.
ويظهر أنّ ديناميكية الحراك ظلّت طيلة سنة بكاملها عامل تقارب ديناميكي لفكرتي الصراع والنزاع المجتمعيين من أجل تحويل الدولة والنظام السياسي ونسق الهيمنة جذريا. فديناميكية الحراك بالمعنى النفسي الاجتماعي تعكس مشروعية مطلب الانتقال والتحوّل من علاقة غير منظمة وغير متوازنة إلى بلورة نشاط دائم ومهيكل مجتمعيا ومؤسساتيا، يرتكز على أهداف سياسية واضحة ومشروع سياسي بديل يقع خارج قبضة الآليات المهيمنة.
المبدأ في تعديل الدستور في الدول الديمقراطية هو منح جرعات إضافية لحقوق وحريات المواطن. إلى أي حد يمكن أن يكتسي التعديل الدستوري المرتقب في الجزائر هذا المفهوم؟
الحرية في المجتمعات الحديثة هي قيمة اجتماعية وممارسة ثقافية، تكرّسها الدساتير وتحفظها القوانين. وفي هذا السياق يحضرني Castoriadis بقوله "يكون بإمكاني القول بأنّني حرّ في مجتمع لديه قوانين إذا أتيحت لي الفرصة الفعلية (وليس فقط حبرا على ورق) للمشاركة في مناقشة ومداولة وسنّ هذه القوانين". فالدستور لوحده لا يكفل ممارسة الحريات، بل من يكفلها هو العقد الاجتماعي والسياسي الذي يجعل منها مبدءا دستوريا لا يمكن الاعتداء عليها. المجتمع ليس بحاجة لتعديل دستوري، بل إنّ النظام هو الذي يخفي حاجته للتعديل لإعادة إنتاج الهيمنة، وهو يراوغ ويحاول إيهام الرأي العام بأن التعديل الدستوري هو خارطة طريق ومعبر سلام. في حين أنّ المجتمع بحاجة إلى عملية سياسية تنقذ الدولة، يستعيد من خلالها الجزائريات والجزائريون حقوقهم في ممارسة كل الحريات من دون استثناء، بعيدا عن الهيمنات بكلّ أنواعها وأشكالها، فالحرية هي جوهر التغيير ومنتهاه.
تعرض إنشاء لجنة خبراء في القانون لجمع مقترحات حول تعديل الدستور لانتقادات، بحجة أنها صيغة موروثة عن عهد الرئيس بوتفليقة. ما رأيك في هذه الآلية في مسعى مراجعة الدستور؟
في ردّي عن سؤالك السابق، ذكرت بأنّ المجتمع الجزائري في هذه المرحلة على الأقل ليس بحاجة إلى أي نوع من تعديل دستوري، بل قلت إنّه بحاجة إلى بعث عملية سياسية تهدف إلى تغيير النظام وآليات ممارسة الحكم. الإصرار على تحويل النقاش من الميدان السياسي إلى الميدان القانوني والإجرائي هو مراوغة سياسوية هدفها إعادة إنتاج توازنات النظام، أو في أحسن الحالات تشخيص خاطئ لطبيعة الأزمة وجوهرها. المنطق يذكّرنا بأنّ المقدمات الخاطئة لن تعطي إلاّ نتائج خاطئة. النظام منذ الاستقلال، وللأسف، بنى منظومة الحكم على مبدأ الإنكار والتنكّر لحقّ الجزائريات والجزائريين في الاعتراف، وهو يستمر لحدّ الآن في مسلسل الإنكار ذاته وبالآليات نفسها.
الجزائر استهلكت 10 تغييرات للدستور وتعديلات له في مدّة لم تتجاوز 43 سنة من عمر الدولة، أي بمعدّل دستور أو تعديل دستوري كل 4 سنوات تقريبا؛ مع العلم أنّه تمّ إلغاء العمل بالدستور لمدة تقارب 15 سنة (من 1965 إلى غاية 1976 ومن 1992 إلى غاية 1996).
وأؤكد مرّة أخرى أنّ فكرة التعديل هي آلية لإعادة إنتاج فكرة الهيمنة ذاتها، وفرض العلاقة العمودية بهدف التمكين لحالة التسلط من جديد، وترتيب "بيت" النظام وتوازنات أجهزته. هذا النظام تحرّكه غريزة القوّة وإنكار فضيلة التراضي والتوافق والعقد الاجتماعي والسياسي، تصنعه قوى مجتمعية راشدة غير طفلية (من منظور Eric Berne ) مدركة للرهانات وشروط التحوّلات في كلّ الميادين وعلى كلّ المستويات.
رابط الموضوع