لمحة عن الملفان عبد المسيح قره باشي
ب. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
هذا الملفان الحقيقيّ، عميد اللغة السريانية وأدبها في القرن الفائت، عبد المسيح حنّا نعمان قره باشي، ܥܒܶܕ݂ܡܫܺܝܚܳܐ ܢܶܥܡܳܢ ܕܩܰܪܰܗܒܰܫ ولد عام ١٩٠٣ في قرية قره باش من قرى آمد في ديار بكر، ورحل عن هذه الفانية في الرابع والعشرين من حزيران عام ١٩٨٣ في بيروت. إنّّه معلّم اللغة السريانية الفصيحة الفذّ في القرن العشرين، والكثيرون من سريان وغيرهم لا يعرفون عنه شيئًا ذا بال. منذ عام ونيّف وأنا منخرط في دراسة هذه السريانية في المدرسة السريانية الإلكترونية https://e-school.syriac-union.com/ مجّانًا عبر السكايب ثلاث أو أربع مرّات أسبوعيًا بواقع ساعة ونصف في كل لقاء. وكتاب القراءة المعتمد في هذه الدورات متعدّدة المستويات هو بقلم هذا الملفان ذي الأيادي الناصعة البيضاء في هذا المجال. وعليه وددت أن أُقدّم للمهتمّين لمحة عن هذا الإنسان المخلص لأمّته ولغتها القومية التي أثْرت التراث الحضاريَّ الإنساني ولا سيّما المسيحية الشرقية. لم أتمكّن من العثور على هذه المحاضرة عن عبد المسيح للمطران جودة صليبا: عميد اللغة السريانية في القرن العشرين، أبحاث المؤتمر حول العلّامة جبرائيل القرداحي، بيروت، ٢٠١٨، ٤٠٦ ص.
توفّي والده عندما كان عبد المسيح ٱبنَ ستّ سنوات. في العام ١٩١١ بعثه إلياس شاكر، مطران آمد ليتعلّم في دير الزعفران اللغاتِ السريانية والعربيةَ والتركية، ومعلّمه الأشهر كان الراهب يوحنا يوسف دولباني (١٨٨٥-١٩٦٩)؛ قاسى عبد المسيح الكثير في الدير، فغادره سنة ١٩٢١ متوجّهًا إلى ديار بكر، ومن ثَمّ إلى بيروت، هربًا من الخدمة العسكرية التركية. درّس سنة واحدة عام ١٩٣٦ في دار الأيتام السورية ببيروت، وفي العام ١٩٣٧ انتقل إلى بيت لحم فالقدس للتدريس، وقضى هناك اثنتي عشرة سنة. في العام ١٩٥١ انتقل إلى القامشلي ومكث ناشطًا في رسالة التعليم ١٧ عاما، وعاد ثانية إلى بيروت عام ١٩٧٢ وعلّم السريانية في إكليريكية مار افرام اللاهوتية مدّة ثلاث سنوات. باختصار درّس عبد المسيح السريانية مدّة خمس وثلاثين سنة.
من مؤلّفاته:
١) كتُب تعليمية كالتي نستخدمها في المدرسة السريانية الإلكترونية، عشرة أجزاء. حضانة، ابتدائية، إعدادية.
٢) كتب قواعد، أربعة أجزاء (للأسف الجزء الأوّل فقط مطبوع).
٣) الدم المسفوك (ܕܡܐ ܙܠܝܚܐ) مجازر ومذابح السريان في ما بين النهرين. ترجمه للعربية وكتب المقدّمة والحواشي ثاوفيلوس جورج صليبا، مطران جبل لبنان، ط. ١، عام ٢٠٠٥، ٢٣٥ ص. هذا الكتاب في الأصل السرياني طُبع في السويد عام ١٩٩٧ وأُعيدت طباعته العام ١٩٩٩ في هولندا، وقد تُرجم هذا الكتاب إلى الهولندية والألمانية.
٤) ترانيم الكنيسة.
٥) بعض التمثيليات التاريخية.
٦) قصائد شتّى وخمريات.
أُنظروا: https://books-library.online/a-12339-download
٧) الأدب السرياني مشفوع بتراجم بعض الشعراء ومقتطفات مختارة من أشعارهم.
ومن ترجماته من العربية إلى السريانية:
النبي ويسوع ابن الإنسان لجبران خليل جبران ومقالة الوجود لميخائيل نعيمة؛ قوانين حمورابي؛ أسطورة جلجاميش؛ مقتطفات (٣٥١ بيتًا) من رباعيات الخيّام؛ كتيّب البستاني لرابندرانات طاغور؛ قصائد حبّ بقلم شعراء معروفين في العالم؛ تاريخ كلدو وآثور للمطران الشهيد ادي شير. وهنالك آثار له ما زالت تنتظر من يسعى لتحقيقها ونشرها!
وبصدد كتابة قواعد للغة السريانية لا بدّ من التنويه بهذه المعلومات:
بدأها مار احودامه/حرديني مفريان تكريت (ت. ٥٧٥ م.) ثم يوسف الأهوازي (ت. ٥٨٠ م.) ويعقوب الرهاوي (ت. ٧٠٨ م.) وحنين بن إسحق العبادي (ت. ٨٧٣ م.) وهؤلاء ساروا على نهج اليونانيين في كتابة القواعد. ويبدو أنّ أوّل منِ ٱعتمد الأسلوب العربي والسرياني في تدوين قواعد اللغة كان إيليا الطيرهاني (ت. ١٠٤٩ م.) ثمّ يوحنا بن زعبي النسطوري (القرن الثالث عشر الميلادي) والمفريان ابن العبري (ܒܪ ܥܒܪܝܐ، Bar Hebraeus، ت. ١٢٨٦، هو غريغوريوس أبو الفرج بن هارون الملطي) الذي وضع ثلاثة كتب قواعد للغة السريانية، الأضواء أو اللمع؛ الغراماطيق؛ الشرار.
في كتابه ”الدم المسفوك أو ذبيحة أغنام المسيح“، يحكي الملفونو الكبير عبد المسيح نعمان قره باشي مذكراتِ ما شاهده وسمِعه في العام ١٩١٥، عندما كان تلميذًا وشمّاسًا في دير الزعفران القريب من ماردين، حيث بطريركية أنطاكية السريانية. كلّ من يتصفّح هذا الكتاب يقشعرّ بدنه من مدى ما عاناه السريان في الحرب العالمية الأولى على أرض ما بين النهرين، من اضطهادات وعذابات واغتيالات ولمدّة أربعة أعوام من قِبَل من سمّاهم البرابرة من العثمانيين وأترابهم من آغاوات الكرد. والغريب الفظيع في الأمر، أنّ القتَلى كانوا يعيشون جنبًا إلى جنب مع السريان. ويذكر المؤلف ”إنّ الزمان غدّار ولا يخدم إلا الطغاة“ (ص. ٤٦). قبل ذلك وفي البابين الأولّين ص. ٥١-٩٦ ثمّة فذلكة عن تاريخ المسيحية المشرقية، ثمّ اضطهادات العصور المتأخّرة حتّى سنة ١٨٩٥. وعن مسقط رأسه، يسجّل قره باشي في شرقي ديار بكر ما معناه، كان عدد سكّانها أكثر من ألف نسمة من السريان وبعض الأرمن، هاجمهم الأكراد في الأوّل من تشرين الثاني العام ١٨٩٥ وشرعوا بالتنكيل والقتل والنهب مدّة يومين، وقتلوا كلّ من احتمى ببرج حَمام عالٍ ولم ينج ُ أحد منهم، وأُطلق على ذلك البرج لاحقًا اسم ”برج الشهداء“ (ص. ٨٩-٩٠). وفي موضع آخرَ، يدوّن قره باشي ”عندما دخل الأكراد قرية قره باش، أرادوا أن يخطفوا بالقوة بنات قره باش ويغتصبوهن. واحد من هؤلاء البهائم خطف امرأة تدعى (مارسن). الا ان هذه المرأة حملت طفلتها الرضيع وهربت، فتبعها ولحقها الشرير العاتي وطعنها بالخنجر فسقطت وماتت. أما طفلتها فبقيت إلى جانبها ترضع حليبًا من ثدييها. ولما رأى الضابط بعث ثلاث نساء ليدفنها“ (ص. ١٥٤). وعن قرية سعدية برافة ورد ”ان واحدًا من هؤلاء المسيحيين بعد أن قطعوا عنقه، ظلّ يتكلم لمدّة عشر دقائق يصلي ويذكر اسم المسيح“ (ص. ١٦٦).
وأتى عبد المسيح بهذا البيت لأبي العلاء المعري ليصف البون الشاسع بين الإنسان والحيوان من حيث الوحشية مفضِّلًا الأوّل على الثاني:
عوى الذئبُ فٱستأنستُ بالذئب إذ عوى
وصوّت إنسانٌ فكِدت أطير
في ما يلي ترجمة عربية لقصيدة قصيرة أوردها عبد المسيح في كتابه الرابع لتعليم السريانية.
ها طلّ القمر
ها قد طلّ القمر وبسَط نورَه
على الأشجار والبيوت والمياه
وها الظلام من قُدّام بهائه
ولّى وتلاشى في ثُقوب مكسوّة
ما أبهى الليل لامعٌ قمره
وكم بالأحرى متلئلئة السماء بلونه
منظرُه مستَحبّ وأخّاذ ضوءه
ويطيب لي جدّا اللعبُ تحتَ ضيائه