لُغَةُ الأُمّ“ بٱخْتصارٍ شديد”
بروفيسور حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
تعقيبًا على المقالات التي نُشرت في السابع عشر من شهر كانون ثان عام 2021، بمناسبة يوم اللغة العربيّة في صحيفة القدس العربيّ الإلكترونيّة https://www.alquds.co.uk/في-اليوم-العالمي-للغة-الضّاد-أكاديميّ/ اِرتأيتُ أن أقول:
أُثيرت في هذه المقالات القصيرة، حولَ واقع العربيّة المعياريّة (MSA) ومستقبلها، نقاط عديدةٌ ذات بال، يعرفها المختصّ. منها ما هو نابع منَ العاطفة والتمنّي، وفي بعضها الكثيرُ من النواحي الموضوعيّة بصدد أسباب تردّي مستوى معرفة العربيّة المعياريّة (لا بدّ من التفريق بين مستويات العربيّة، المكتوبة والمحكيّة على حدّ سواء)؛ ونفور العرب الجليّ والعمليّ منها، وإقبالهم بل تهافتهم على اِكتساب لغات أجنبيّة كالإنجليزيّة والفرنسيّة، وفي الأراضي المقدّسة، اللغة العبرية الحديثة، التي بدأت تُستخدم كلغة محكيّة قبل أقلَّ من قرن ونصف القرن. قيل ”والمغلوب مولعٌ أبدًا بالاقتداء بالغالب“ (مقدمة ابن خلدون الفصل الثالث والعشرون).
إنّ لغةَ أُمّ أيّ شعب، لهي لسان هويّته وعنوان اِنتمائه وحضارته، إذ أنّها شأن وطنيّ وقوميّ من الدرجة الأولى، كما أنّها مسألةٌ إستراتيجيّة وسياسيّة. وتعدّ هذه العربية، حجر الرَّحى في الذود عمّا تبقّى لأبنائها- أمنهم الثقافيّ.
ذُكرت بعض الصعوبات والمنغّصات في قواعد العربيّة، وكلّها في علم النّحو وبقي عِلم الصرف، رغم أهميّته عظيمة الشأن، مغموطًا حقّه، وبُعد الكثير منها، إن لم نقُلْ معظمَها، عنِ الجانب الوظيفيّ للغة. القواعد في أيّة لغة بشريّة طبيعبّة، وُجدت وهي قائمة لتكون وسيلةً وليست هدفًا بحدّ ذاته، وسيلة لكتابة سليمة وقراءة صحيحة وتحدّث مُرضٍ؛ وكلّ ذلك من أجل الوصول لفهم دقيق وشامل لتجلّيات اللغة عبر المهارات اللسانية الثلاث المركزيّة. كما ذُكرت أسبابٌ وجيهة أخرى أدّت لتدنّي مكانة العربية المعياريّة (إن لم نقل التعيسة أو المزرية في الغالب الأعمّ) لدى أبنائها مثل: كُتب التدريس؛ عدم كفاءة المعلِّم، إذ أنّ مَن يلجأ إلى تدريس العربية يكون عادةً ممّن لم يُقبل لدراسة مواضيعَ أُخرى؛ منهاج التعليم وأُسلوبه غير الوظيفيّ وغير الملائم لعصرنا؛ قلّة اِستخدام العربيّة المعياريّة إن لم نقل ندرته؛ ندرة التشكيل/وضع علامات الضبط في النصوص العاديّة، وكان من الضروريّ جدًّا إضافة الحركات اللازمة درءً للبْس وتسيلًا على القارىء؛ تفشّي الاستخفاف والجهل بقواعد اللغة وإهمالها؛ هذا الضبط سيؤدّي بمرور الوقت، لا محالة، إلى تقليل الأخطاء اللغوية على توالي الزمن؛ اعتماد التدقيق اللغويّ الحقيقيّ لدى كلّ دار نشر؛ احترام العرب وتقديرهم للعربية قولًا لا فعلًا. وقد قيل على العربيّ أن يفهمَ أوّلًا لكي يُحسن القراءة ثانيًا في حين أنّ القارىء الغربي يقرأ ليفهم.
مع كلّ هذا، إنّي على قناعة في أنّ أهمَّ سبب موضوعيّ لوضع العربيّة المعياريّة المتضعضع لدى العرب، هو أنّها ليست لغةَ أُمّ أيّ عربيّ في العالَم بحسب التعريف العلميّ اللغويّ المعاصر لعبارة "لغة الأم"(mother tongue). ومن المعروف أنّ إتقان لغة ما، لغة الأمّ عادة أو اللغة الأولى، يلعب دورًا محوريّا إيجابيًّا في عمليّة اكتساب لغات أخرى.
هذه العربيّة المعياريّة، لا يجوز وصفُها بأنّها لغةٌ حيّة بنحو كامل، بمعنى أنّها مستعملةٌ لدى الجميع في كلّ مناحي الحياة وظروفها. إنّها قطعًا ليست لغةَ مخاطبة عادية، وهنالك من نعتها بالإعاقة (نصف حيّة أو نصف ميّتة أو أنّ لها بعض النصيب في هذه وفي ذاك)؛ أو لأنّها غير متداولة شفويًّا كأيّة لغة حيّة، بل إنّها مقتصرة على مناسبات معروفة ومحدودة كقراءة الأخبار في الراديو والتلفزيون، في الندوات والمحاضرات الرسميّة، خطبة الجمعة وأحيانًا بعض العِظات في الكنيسة.
إنّ لغة كلّ واحد من العرب، زهاء الأربعمائة مليون نسمة، هي لغته/لهجته العامّيّة/الدارجة، وشتّان ما بينها وبين المعياريّة في علوم الأصوات والنحو والصرف والدلالة. للغة الأم، مجالها الأوسع، وللغة القوميّة مقامها الرفيع، ومن المعروف أنّ البون بينهما، الازدواج اللغوي (diglossia) ما زال عميقًا وواسعًا مقارنة بأحوال اللغات الأُخرى، رغم أنّه يتقلّص طرديًّا مع تقدّم مشروع مَحْو الأمّيّة في العالَم العربيّ، ولا أحدَ يعرف متى ستكون نهايتها وبداية أُمّيّة من نوع آخرَ أشدّ وطأة. والواضح أنّ لغة الكلام، تقترب من لغة الكتابة عند الذين يتمتّعون بمستوى تعليميّ وثقافيّ جيّد في اللغة وفي سائر العلوم والمعرفة. هنالك أنصار للغة الأمّ وخصوم، والفريقان يكتبان بالمعياريّة ويتحدّثان بالعاميّة، إذ أنّ لكل مقام مقالًا ولكلّ نمط من هذين النمطين الأساسيّيْن في العربية ثراؤه وميزاته المعروفة.
لا ريبَ في أنّ أحد العوامل الأساسيّة لغرس وتذويت مبادىء قواعد العربيّة المعيارية صرفًا ونحوًا ودلالةً لدى الطفل الغضّ بالفطرة، هو الاستماع إليها قدر الإمكان واِستخدامها في سنّ مبكّرة، في روضة الأطفال. هذا الجيل، السنوات الخمس- الستّ الأولى من حياة الطفل، هو بلا منازغ، الأمثل والأسرع والأنجع لاكتساب ما يسمّى بقواعد اللغة، أية لغة في العالَم. هذه الجزئيّة الهامّة غدت ثابتةً في العلوم اللغوية والنفسيّة المعاصرة. وقد تطرّقتُ لذلك في أكثرَ من موضع، وينظر في تجربة الدكتور الفلسطيني عبد الله مصطفى الدنّان في تعليم العربية المعياريّة بالممارسة والفطرة، وقد طبّق هذه الطريقة الرائدة على ابنه باسل وابنته لونا (https://www.arabiclanguageic.org/view_page.php?id=4953).
أمّا كيف يُمكن تحبيبُ العربية المعياريّة، صرفها ونحوها ومعجمها، على قلب التلميذ العربيّ وعقله، فلا جوابَ شافيًا في جُعبتي في خضمّ هذه الأوضاع الرديئة السائدة في شتّّى المجالات في العالَم العربيّ الراهن! أمّا عن وجوب تيسير قواعد اللغة العربيّة المعياريّة فحدّث ولا حرَج، إذ لم يُنجز في هذا المضمار الأساسيّ القاضي بالغربلة المدروسة وإبقاء الركائز، إلا أقلّ من القليل، في حين أنّ لغاتٍ كثيرةً لشعوب متقدّمة قدِ اِجتازت مراحلَ هامّة وعميقة في عمليّات التيسير والتسهيل لمواكبة مستجدّات العصر المتسارعة.
مع هذا، تظلُّ حِماية هذه العربية المعياريّة ويبقى العمل على تطويرها وتحديثها منوطَين بأبنائها الغيورين لغويًّا وعلميًّا، إذ لا أحدَ يستطيع اِمتطاءَ الآخر إلا إذا حنى رأسَه وظهرَه، كان مسيّرًا، لا حولَ ولا قوّة له!