ارسل بالامس الاخ jalili
هذا المقال الرائع مشكور عليه
وبانتظار حضوره وتسجيل مشاركاته البليغة والهامة
كل الشكر اخي الكريم
ولك منا التقدير والاحترام
أمسيحيٌّ وصهيوني؟
ا. د. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
نعم هناك في العالَم الغربي، لا سيما في بلاد العمّ سام، عشرات الملايين من المسيحيين الذين يوافقون على كلّ ما تقوم به الحكومة الإسرائيلية ضد البشر والشجر والحجر في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، مدّعين أن الوقوفَ إلى جانب ”الدولة اليهودية والديمقراطية”! ومؤازرتها بكل السبُل المتاحة مادياً وإعلامياً ومعنوياً، هي فروض إلاهية. ولا يخفى على المطّلعين عن كثب على الأوضاع السياسية في الشرق الأوسط أن السِفارة الوحيدة الموجودة في القدس الغربية، منذ سنوات عديدة، هي السفارة المسيحية الصهيونية. وفي أمريكا يُنظر إلى الأخبار والمستجّدات على الساحة السياسية والأمنية في الديار المقدسة وكأنها جزء من النسيج الأمريكي الداخلي. وهذه الفئة الأمريكية التي تضمّ الإدارة الأمريكية وعلى رأسها الرئيس الشابّ، جورج دبليو بوش، المولود من جديد روحيا، لا تتوانى في الحديث عن الإرهاب العالميّ وشجبه صباحَ مساء ومحاربته حتى اجتثاته وكأنه الشغل الشاغل الوحيد في العالم، وأي إنسان عاقل على وجه هذه البسيطة يقبل بالإرهاب والقتل وإلغاء الآخر؟ وثمة سؤال جوهري يجب أن يُطرح: هل الذي يقاوم الاحتلال إرهابي؟ من البدهي أن للمقاومة أشكالا ووسائل كثيرة ولكننا من الذين يرون جازمين بعدم جواز قتل أي إنسان مدني بغض النظر عن دينه وعرقه وهويته ومهما توترت الأوضاع واحتدم الغضب وثارت المشاعر وشرُف الهدف، الغاية لا تبرّر الواسطة.
وفي الآونة الأخيرة صرّح الممثل الجمهوري في تكساس توم دلاي، الذي يعارض ”خارطة الطريق”، لا سيما البند المتعلق بقيام الدولة الفلسطينية في نهاية العام 2005 بأن هذه الدولة ستكون إرهابية وهذا اليمين المسيحي الذي يبلغ تعدادُه قرابة الستين مليونا في أمريكا، هو في الواقع، نواة التأييد الانتخابي للرئيس بوش، أضف إلى ذلك الصوت اليهودي في معظمه.
وبين الفينة والأخرى يسمع أو يقرأ المتتبع لمجريات الأحداث السياسية والثقافية المتلاحقة في هذه القرية الإنسانية المعولمة عن آراء وتصريحات لا حصرَ لها، ولكل متلقٍ واعٍ غرباله ومبضعه للغربلة والتشريح وفرز الغث عن السمين في ثورة المعلومات المهولة هذه. من هذه الأمور اللافتة للانتباه ضرورة دمقرطة العالم العربي وإعادة إعداد البرامج التعليمية في اللغة العربية والإسلام وما إلى ذلك من اقتراحات وإرشادات وربما إملاءات. ويذكر أن الاستشراق كان قد طرح في منتصف القرن التاسع عشر تلك المقولة أن العرب والعربية بعيدان كل البعد عن الواقع من حيثُ العقليةُ، كما وكانت محاولات عديدة من أجل استبدال العربية الفصحى بالعاميات العربية المختلفة بل وكتابة العربية بأحرف لاتينية. وقد ذهب بعض الباحثين والسياسيين الغربيين منذ أكثرَ من قرن ونصف إلى أن تأخّرَ العرب العلمي في العصر الحديث مردّه في الأساس إلى اللغة العربية الفصحى لصعوبتها وعدم دقّتها في التعبير عن العلوم الحديثة. وقد كتب الباحث فرانسس فوكوياما مؤخرا مبارِكا إدارة الرئيس بوش على تخلصها من مستشرقيها والناطقين بالعربية وذلك لأنه في اكتساب هذه اللغة يتعلم المرء أضاليلَ العرب وخرافاتهم وأوهامهم. يبدو أن صناع القرار في أمريكا لم يعملوا طويلا بنصيحة الباحث الياباني الأصل إذ ما يرد من أخبار طازجة يشير إلى الميزانية الهائلة التي خصصتها أمريكا لتدريس العربية منذ المرحلة الابتدائية، ويصبّ ذلك في خانة ”إعرف عدوك”! وهناك من يدّعي أن لا وجود لشعب عربي بل هناك، في الواقع، طوائف وعشائر وبطون وأفخاذ، وأن اللغة العربية، كما أسلفنا، عاجزة عن مواكبة التقدم العلمي والتكنولوجي وتفتقر إلى الدقة والواقعية والجلاء. أتستحقّ مثلُ هذه الإدعاءات والتخرصات أي ردّ؟ يتناسى هذا النفر المضلل بأن الغرب أي أوروبا، كان يرزح في دياجير الظلام الدامس في تلك القرون التي سمّيت بالعهود السوداء في حين كان العرب في أوج التقدم والرقي في الأندلس وعرفت تلك القرون الوسطى بالعصر الذهبي. ولا أرى أي داعٍ في الاسترسال بهذه النقطة والإتيان بأمثلة لجهابذة وأساطين في الطب والفلسفة والرياضيات واللغة واللاهوت إلخ. إلخ.، فاللبيب تغنيه الإشارة عن العبارة.
أليس من الأجدر والأنفع لمن يتشدّق بمثل هذه الاتهامات المغرضة، وخاصة من المستشرقين، أن يتعلم أولا اللغة العربية بمهاراتها الأربع، الاستماع والقراءة والتكلم والكتابة، بدلا من الجلوس في برجه العاجيّ والقيام بالترجمة والجمع والتأليف فقط دون أن يفقه لبّ العربية وروحها. إنه، على سبيل المثال، يفهم ما معنى ”مرحبا” وما أصلها وفصلها ولكن من المحتمل القريب جدا أنه لا يعي ما المقصود من ”العلاقة بيننا مرحبا مرحبا”. أتكفي النظرية في عالمنا اليوم في تعلّم لغة الآخر وثقافته، لا سيما بالنسبة لأستاذ اللغة العربية وآدابها والإسلام؟
لبّ الموضوع أن هناك استعلاءً غربيا فظا حضاريا وفلسفيا دينيا يستند إلى الفكرة الخاطئة أصلاً بأن الشعوب الأخرى متأخرة، ”محور الشر”، متعصبة، إرهابية، وعلى هذا الغرب النير، المستنير، ناصع البياض كالثلج وباسم التقدم والحرية والديمقراطية والمثل الإنسانية العليا تحرير الآخرين وتثقيفهم. الدين المسيحي الحقّ براء من مثل هذه الآثام والانحرافات المريضة. ومن نافلة القول ضرورة التمييز بين العقيدة أو الدين ورجال هذا الدين. في الاختلاف، شكلا ومضمونا، ثروة وغنى بشري لا نظير له، ولا يجوز لأية فئة أن تقول بأنها صاحبة الحقيقة لوحدها، فالحقيقة بمثابة شكل بيضوي أو دائري وكل منا يرى من موقعه ما يتكشّف له وهو بحاجة للآخر لإماطة اللثام عمّا تبقّى
وفي هذه العُجالة لا بدّ من التنويه بأن الولاياتِ المتحدةَ الأمريكية، القطب الأوحد اليوم، تمتلك أكبر سجن في العالم وتتبوّأ المرتبةَ الأولى من حيث تنفيذُ أحكام الإعدام ومن الجلي أن إنهاء البشر لحياة الآخرين إثم لا يُغتفر وفق الشرائع الدينية السماوية الثلاث، خالق الروح هو الوحيد المخوّل بأخذها حين يشاء
والرئيس الأمريكي، محبّ للسلام والحرية، وهو المقاتل الأكبر دون هوادة ضد الإرهاب، وهكذا فقد عيّن مؤخرا السيد دانيال بيبس رئيسا لمعهد أمريكا للسلام في فيلدلفيا، ويضم المعهد خمسة عشر عضواً. والسيد دانييل نشيط وجرىء كرئيسه فقد سارع مصرّحا، لا مندوحة من أن تكون الحرب الوسيلة الوحيدة من أجل إحراز السلام والتقدم في بعض الأقطار الإسلامية. بكلمات وجيزة، الحرب والدمار من أجل السلام والإزدهار، لمن هذا ولمن ذاك؟ يبدو أن الحرب على العراق وفيه والتي كان الرئيس بوش قد أعلن عن نهايتها، إلا أنها عمليا لم تنته بعد ويبدو أنها قد تستمر عدة سنين
ومما يجدر ذكره أن رئيس معهد السلام أنف الذكر كانت له جولات وصولات قبل التعيين، وإلا فما عُيّن، ففي العام 2001 كان قد أدلى بتصريح مفاده أن الفلسطينيين لن يتوقّفوا عن أعمالهم العدائية والإرهابية ضد دولة إسرائيل إلا بعد أن يتيقنوا تماما دون أي ريب أن العنف والمقاومة المسلحة لن يجديا أي نفع لهم. ولعله من المفيد التنويه بأن هذا الموقف هو عينه قائم في لبّ السياسة الإسرائيلية الرسمية منذ عهد رئيس الحكومة الأول وحتى يوم الناس هذا، دافيد بن غوريون وحتى أريئيل شارون
بعبارة أخرى، نقيض ما قاله الرئيس المصري، جمال عبد الناصر، بعد حرب 1967 ”إن ما أخذ بالقوة لا يستردّ إلا بالقوة”، ومن المفروغ منه أن لا قوة كهذه في الاثنتين والعشرين دولة عربية مجتمعة متحدة وما بالك وهي متنافرة متعادية وبالكاد تجد اثنتين على أدنى حال من الوفاق والوحدة الحقة
وختاما أود طرح هذه الرؤية للمناقشة والتحليل. يبدو لنا أن موقف أو سياسة هذه الشريحة المسيحية الصهيونية الأمريكية وعلى رأس هرمها الحالي، الإدارة الأمريكية متمثلة بالسيد بوش الابن ومقربيه، بالمواقف المنحازة إزاء الصراع الحاد والدموي بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، ما تبقّى منها، لا تخدم على المدى البعيد مقومات السلام المعقول والمقبول، الشامل والعادل. لا بل إن هذه السياسة بعيدة عن الديمقراطية والشرعية الدولية وستسيء لإسرائيل أو قل قد بدأت تسيء لليهود الإسرائيليين، ففي مقالة نشرت في الرابع والعشرين من شهر آب عام 2003 في الساندي تايمز نرى أن هناك تزايداً مطردا في الهجرة العكسية، من إسرائيل إلى الخارج، أمريكا وكندا وألمانيا الخ. خلال سنوات الانتفاضة الثلاث الأخيرة. عشرات الآلاف حتى الآن، والحبل على الجرّار، كما يقول التعبير الشعبي، وجلّ النازحين من الشباب المهني. وربما يتذكر بعض القرّاء ما قاله السيد إسحق رابين، سفير إسرائيل في واشنطن عام 1968 عند تطرقه ووصفه لظاهرة الهجرة العكسية ناعتا النازحين أو ”الهابطين” كما يقال في العبرية، إنه قال بالعبرية ما يمكن ترجمتُه إلى العربية بـ”حُثالة”. بعد ثلاثة عقود ونصف من الزمان نرى أن ابن رابين، يوفال، يعيش في نيويورك ولا أحد يجرؤ على استخدام مثل هذه الألفاظ النابية والمحقرة. اللهم باستثناء بعض التصريحات الدبلوماسية كما ورد على لسان موظف في السفارة الإسرائيلية بكندا ”كدولة ديمقراطية متقدمة ليس بوسعنا منع هذه الظاهرة المشينة وفي الوقت ذاته لا نقوى على إخفاء أسفنا وغضبنا”
ويُذكر أن حوالي عشرة آلاف يهودي إسرائيلي هاجر إلى تورنتو في غضون سنوات الانتفاضة الثلاث. الآلاف تعود إلى ألمانيا، بلد المحرقة لليهود، مثل الفنّان دودي رايزنبرغ، الذي فقد بعض أقاربه فيها في الحرب العالمية الثانية
مواطنون إسرائيليون يهود بآلافهم يغادرون أقوى دولة عسكرية في منطقة الشرق الأوسط والدولة الديمقراطية الوحيدة هناك. لماذا؟ ،